الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التبرعات الرمضانية، وإشاراتها الكارثية

كريم علي السيد

2017 / 6 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التبرعات الرمضانية، وإشاراتها الكارثية


قد قارب الشهر الكريم على الانتهاء، واشتدت مع هذا الاقتراب دعايا التبرع التي تريد من كل فرد أن يوجه زكاته إلى جهتها، وهي في ذلك تتوسل بالترغيب وبالوعد بالحسنات الكثيرات عند مالك الأرض والسموات. وإن لنا في هذا المشهد موقف نريد أن نسجله.
لسنا نقف موقف الضد من أولئك الذين يسعون في الأرض إصلاحا وتعميرا من أصحاب الجهود الفردية والجماعية؛ لكننا نخشى أن يُظن في هذه الجهود عين المراد ومنتهى الآمال في مسألة الإصلاح والتعمير. فقد كتب العميد العظيم "طه حسين" منذ زهاء الثمانين عاما في كتابه الشهير: "مستقبل الثقافة في مصر" حين أراد أن يبين الحدود التي تنتهي إليها تأثيرات الجهود الفردية والجماعية _مهما تعظم_ في قضية التعليم وحدها، كتب يقول: "وإلى الدولة وحدها يجب أن توكل شؤون التعليم كلها في مصر إلى أمد بعيد. وليس معنى ذلك أني أكره أن يبذل الأفراد والجماعات ما يستطيعون من الجهد لإنشاء ما يمكن إنشاؤه من أنواع التعليم وفروعه". وبعدها بقليل يكتب: "وما أظن أن الأفراد والجماعات إذا خلي بينهم وبين التعليم يستطيعون في الظروف الحاضرة التي تحيط بمصر أن يحققوا هذا البرنامج الخطير، الذي يقوم على تنشئة الوطنية الحديثة في قلوب الأجيال المقبلة من شباب المصريين".
هذا ما يقوله العميد في مسألة التعليم وحدها، فكيف إذا جمعنا قضايا الدولة ومشكلاتها لنناقش مدى التأثيرات الذي تنتهي إليه الجهود الفردية والجماعية من فاعلي الخير الذين يريدون إصلاحا فيها وتقويما لما اعوج منها؟ أتراك تستطيع أن تخالف عن رأي العميد فيما ذهب إليه من هذا التأثير في قضية التعليم وحدها! أم أنك مضطر _لا محالة_ لأن تذهب لأبعد منه موقفا من هذه الجهود إذا ما تحدثنا عن أزمات ومشكلات تتفاقم يوما بعد يوم، وهي تتعدى قضية التعليم وحدها إلى قضايا المجتمع بأسرها؟
إن أي منظومة في هذا الكون، بما في ذلك _أو قل وعلى رأس ذلك_ المنظومات الإنسانية، إنما هي يعتورها حركتين عكسيتين، حركة بناء وتركيب، في مقابل حركة هدم وتحليل. فإذا ما طغت إحدى الحركتين على الأخرى، وسمت هذه الحركة الطاغية المنظومة ككل، وإذا ما تعادلت الحركتان وقفت المنظومة عند ذات الموقف لا تبرحه إلى تقدم ولا إلى تأخر... إلى بناء ولا إلى هدم.
ونحن نضرب مثلا للدولة بقارب كبير تدفعه مجاديف كثيرة في عباب البحر الهائج، فحركة التيار المصطخب المتقلب تريد أن تدفع القارب إلى غير وجهة يتوجهها، وفي المقابل، فإن السواعد التي تحرك المجاديف تريد أن توجه القارب إلى الوجهة التي تبتغيها. فإذا لم ينتبه المجدفون إلى ضرورة أن يضربوا بمجاديفهم بوقت واحد حتى تتضافر الجهود وينتظم زخمها، كان مصير هذا القارب هو الوقوع في أيدي العواصف تستحركها كيف تشاء.
كذلك هي الدولة. فليس للجهود الفردية والجماعية بما يدب فيها من اضطراب واختلاف في الوجهات وتحديد الأولويات أن تقوم مقام الدولة بما تستطيعه من ضبط وتنظيم ووضع رؤية واضحة تبتغيها وتنتحيها، لتمسي الجهود ذات أثر بعيد فعال لما تتمتع به من تضافر ودفع وزخم يرجح من كفة البناء والتركيب على كفة الهدم والتحليل.
فمفهوم الدولة اصطلاحا إنما يعني جماعة من الناس يتواضعون على رقعة محددة من الأرض، ويخضعون لنظام بعينه من الحكم، وهذا النظام من الحكم إنما لا يتحقق به مفهوم الدولة إلا إذا كان قوّاما على مصالح الأمة يتعهدها بالرعاية والقضيان من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يصل هذا النظام السياسي إلى حدٍّ من التنظيم يتيح له وللحاكم كل منهما حدودهما المستقلة بحيث لا تتداخلان. هذه الأضلاع الثلاثة (الأرض والشعب ونظام الحكم) تمثل مثلث "الدولة"، فإذا سقط أحد هذه الأضلاع انتفى عن المثلث كونه مثلث... انتفت عن الدولة كونها دولة.
وإذا ما استقرت صورة الدولة في أذهاننا على هذا النحو الدقيق من التحديد، فلا بد لنا أنا نتصور بالتبعية طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة، وهي بالضرورة مباينة لطبيعة العلاقة بين الفرد والقبيلة في الأمم البادية التي خلت، والتي إنما تنزلت فيها معظم الشرائع السماوية بما فيها الشريعة الإسلامية بما اشتملت عليه من تشريع الزكاة كركن من أركان الإسلام الخمسة.
فلم يكن من شأن القبيلة أن تؤمِّن لأفرادها حظا من الصحة أو التعليم أو توفر لهم عملا يوظف طاقاتهم على وجه تفيد منه الجماعة، أو يعفيهم العوز، أو تهيئ لهم بِنى تحتية أو مرافق عامة، أو ترسم لهم مستقبلا وتدبر معهم سبل الصعود إليه. وكل هذا من شأن نظام الحكم ومن شأن الدولة الحديثة ممثلة في حاكمها، والذي ارتضى قواعد السياسة والإدارة كما تقرها الدولة الحديثة، كما أقر بمنظومة العقد الاجتماعي التي تسم العلاقة بينه والمحكومين، كما تسم طبيعة الدولة الحديثة ذاتها.
لهذا الغرض فُرضت الزكاة كلوْنٍ من ألوان التكافل الاجتماعي الذي لم يكن للقبائل البدوية سابق عهد به، فكان لهذا التكافل من المآثر ما يُحمد عليه ويُنبهَرُ به. وهي على ذلك لا تتعدى شكل بسيط من أشكال التنظيم الاقتصادي والاجتماعي تجاوزته الأمم الحديثة الراقية، وإن كانت قفزة قوية وخطوة إلى الأمام حازمة بالنسبة إلى هذا اللون الهين اليسير من التنظيم الذي عرفته القبائل البادية منذ أربعة عشر قرنا.
وإنا لنشفق على أنفسنا أن نُرشَق بالكفر والإنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة إذ نتحدث عن الطبيعة التاريخانية لتشريع الزكاة، وأنه كأي نظام تشريعي وقانوني إنما ينبني على جملة من التصورات عن الإنسان والعالم تسيطر على العقل الجمعي لأمة من الأمم، وأن هذه التصورات إنما تنسجها ظروف وسياقات تجتمع في كلٍّ يشكّل بنية تاريخانية تمثل بصمة لهذه الأمة في هذه البقعة من الأرض وهذه الحقبة من الزمن.
بيد أننا على ذلك لا نود نقاشا أكثر تفصيلا في مسألة الزكاة وما يلحق بها من أنظمة تشريعية أخرى هنا، وإنما نود أن نكون أكثر عملية، وأن نُبقي للناس على ما تطمئن إليه قلوبهم من أمور الدين، وألا نقرع بمعاول الشك قلاع اليقين التي تحتمي بها عقولهم وأفئدتهم.
لكن الأمر الذي لا ينبغي السكوت عنه هو هذا السيل الهادر من الدعاية الإعلانية التي تريد أن تستأثر بزكوات الناس لتنفقها كل في مساربها الخاصة. فهذا مشفى للحروق وهذا للكسور وهذا للسرطان وهذا يريد أن يدفع عن الغارمين والغارمات ما أغرمهم، وهذا يريد أن يوصل إلى القرى الفقيرة كوبا من المياه النظيفة، وهذا يريد أن يسقف بيوتا أسقفتها السماء... إلخ. وترى مشاهير الفن والطب والدين ونجوم المجتمع من مختلف الأطياف_ تراهم يسارعون إلى هذا اللون من الدعاية وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا، وما يدرون أنهم إنما يواقعون أشد الشرور إمعانا في الشر.
ونحن لا نرى في كل هذه المسارب التي تريد أن تستأثر بزكوات الناس في غير نظام ولا دقة في التوجيه_ لا نرى فيها سوى إلغاء لدور الدولة الذي ما قامت إلا لأجله. بل قد يكون تعبيرا وإشارة إلى انتفاء دور الدولة من الأساس، مما يعني عدم وجود ما يسمى "دولة" على النحو الذي اصطلحنا عليه آنفا. ولست أدري أيمكن أن تكون الدولة راضية عن هذا العبث، أم أنها ترحب به وتدفع إليه في الخفاء بغية التخفيف عن كاهلها وشد أعناق الناس إلى وجهة أخرى بحيث لا يرون سوءاتها؟ أو ربما _كما قلنا لتونا_ لم يعد للدولة وجود لترضى أو ترحب أو تدفع أو تشد؟
إننا بإزاء اقتصاد مواز قوامه التسول والسؤال، بل الإلحاف في التسول والسؤال. وكم هو أمر مخز أن يدفعوا إلى القنوات المعلِنة ملايين من الجنيهات في مقابل إعلانات التسول هذه (فهذه القنوات لا تذيع إعلاناتهم ابتغاء مرضات الله، وإنما هي تذيعها كما تذيع إعلانات الكومباوندس الفارهة). فهذه الإعلانات التي تغري المتزكين بالدفع إلى مؤسساتهم إنما هي لا ترتد بالمجتمع إلى عصر صدر الإسلام فحسب، بل إلى ما وراء ذلك بكثير.
فحتى وبالرغم من الطبيعة القبلية للجماعة التي تنزلت فيهم شريعة الزكاة، فإن من كان يقوم بتوجيه أموال الزكاة إلى الوجهات الأوْلى بها، إنما هو القائم على أمور هذه الجماعة، حتى تُضخ الأموال في ثغرة من الثغرات فتأتي عليها بكاملها. أما أن تترك لتُفتَّت بأيدي الناس كلٌّ يذهب بماله إلى حيث يرتأي ويطمئن ويرغب، فإن ذلك لهو الإسراف في الهزل والإمعان في الفوضى والخروج عن النظام الذي لا ينصلح مجتمع ولا تقوم دولة إلا به.
وإذا كان للزكاة دورا في عصرنا الراهن، أو إذا أريد أن يختلق لها دور، فإن دورها من المفترض ألا يعدو أن يكون سدا لما يند عن يد الدولة الطولى من ثغرات، وذلك بعدما حشدت الدولة جهودها وإمكاناتها في إحداث النهضة التي قوامها الإنسان، والتي لا تتأتى إلا إذا كان الفراغ من قضية الفقر المدقع المحط لكرامة الإنسان، وكذلك الفراغ من قضية الأمية والبطالة والصحة، كل ذلك كان الفراغ منه أمرا حتميا مقضيا لتفرغ الدولة بعده إلى غايات أبعد وأرقى تزاحم بها الدول التي استوت على عرش الحضارة الحديثة. فهذا فقير غفلت عن إطعامه عين الدولة، وهذا غارم اضطره العوز إلى الاستدانة، وهذا مريض تقاصرت عن إحاطته عناية الدولة الصحية... إلخ. شريطة ألا تطغى نسب هذه الحالات بحيث ترى حالة أو حالات منها أينما وليت سمعك وبصرك، وإلا صار المجتمع بأسره نسيجا مهترئا بحيث يظهر من هذا النسيج اختفاء حضور الدولة من الأساس.
ويظهر غياب الدولة أشد ما يظهر في هذه الدعاية التي تنشد التبرعات لأغراض طبية وعلاجية. فقبل غياب دور الدولة في التكفل بعلاج هؤلاء المرضى وإيفاء حقهم عليها، فقد غاب دور الدولة في وقاية الناس من هذه الأمراض الخطرة. فأين دور الدولة في حماية مواطنيها من الأسمدة المسرطنة، وأين دورها من حمايتهم من الهواء الملوث، والماء الملوث، والطعام الملوث، كل هذه الملوثات التي تتسبب في العديد من الأمراض الكارثية كالسرطان والفشل الكلوي وفيروس B وC وغيرها الكثير والكثير من الأمراض التي استأثرت مصر منها بمراتب الصدارة على مستوى العالم. فالدولة لم تسعَ حتى في جنازة القتيل بعدما قتلته!
وهذه الأمراض الخطيرة الكثيرة إنما تقوم دليلا دامغا على ما سقناه آنفا من أن حركة البناء والتركيب إن لم تؤخذ بالجد والحزم، غلبتها حركة الهدم والتحليل والفوضى (وهي الحركة الطبيعية التي تتجه لها جميع الكيانات في الوجود إذا لم تقابلها حركة مضادة من التركيب والتنظيم، وذلك وفق قانون الإنتروبيا الذي يطال أجزاء الوجود بأسره). فها هي الدولة (بالمعنى الذي حددناه) قد انفرط عقدها، ويتبع هذا الانفراط تفريط في ضلع رئيس من أضلاعها، وهو الشعب الذي قوامه الإنسان. وإذا ما تم التفريط في الإنسان الذي ما قامت الدولة إلا من أجله، إنما يكون هذا التفريط تركه دونما تعهد لتغلب فيه حركة الهدم والتحليل على حركة البناء والتركيب، فيمسي استشراء الأمراض واستفحالها نتاجا طبيعيا لهذا التفريط. فتكون جميع محاولات العلاج إنما لا تعدو طمسا للآثار والنتائج لا بترا للأسباب... سدّا للمصبّات لا تجفيفا للمنابع. فكأننا نصعد سلما كهربيا هابطا بسرعة أعلى من سرعة صعودنا بكثير ليمسي الهبوط أمرا محتوما آخر الأمر.
وشيء أخير أود الإشارة إليه والعدو عليه عدوا سريعا، فبعد أن انتقلت من العام إلى الخاص، فها أنا أنتقل الآن إلى ما هو أكثر خصوصية. فأنا أود الحديث عن مؤسسات علاج السرطان على وجه التحديد، والحديث عن منهجها في الدعاية للتبرع، وذلك بعدما فلسفنا قضية التبرع بوجه عام، والتبرع للمؤسسات العلاجية بوجه خاص. فمؤسسات علاج السرطان يزعمون أنهم إنما يقومون على علاج مرضاهم بالمجان، وهذا ليس صحيح.
إنهم إذ يقومون بعلاج مرضاهم فإنهم في المقابل يقومون بتشغيلهم... بتشغيلهم في التسول. فليس يعقل أن يكون مقابل علاجي من السرطان أن أتحمل كل مارٍّ من جوار المشفى إذا حلى له أن يدخل ليصور إعلانا معي فيعرض بي أمام الناس أجمعين، مستبيحا بذلك حرمة المرض وحرمة المريض. وإنهم ليحرصون أشد الحرص على إظهار المريض بأشد الصور مدعاة للشفقة؛ بغية أن "يمصمص" المتفرجون شفاههم لما اعتراهم من نيران الشفقة.
فلا المريض يتحمل كل هذه الزيارات على المستوى البدني، ولا كرامته تتحمل هذه المظاهر التي يحرصون على إظهاره عليها على المستوى المعنوي. فللمريض حرمته، وللمرض حرمته أيضا. فليس معنى أني أعالَج بالمجان أن أهان بدنيا ونفسيا كل هذه الإهانات.
وقد يقول قائل: مالك وهؤلاء المرضى، إنهم راضون ولا يجدون في صدورهم ما تتحدث عنه من إهانة أو استباحة. وعلى مثل هذا القائل أرد: إن هؤلاء المرضى في الغالب من الأطفال الذين لم يرتقِ الوعي والشعور لديهم لالتقاط هذه الأمور الدقيقة، وإذا لم نكن نحن حراص على صورتهم نريد صيانتها مما يخدشها، أفنستورد بشرا يذودون عن صورتهم ويرعون صيانتها بدلا عنا؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: تحت دوي الاشتباكات...تلاميذ فلسطينيون يستعيدون متع


.. 70 زوبعة قوية تضرب وسط الولايات المتحدة #سوشال_سكاي




.. تضرر ناقلة نفط إثر تعرضها لهجوم صاروخي بالبحر الأحمر| #الظهي


.. مفاوضات القاهرة تنشُد «صيغة نهائية» للتهدئة رغم المصاعب| #ال




.. حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره في غارة إسرائيلية بجنوب ل