الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليس الاتحاد لحية ولا قناعا

كمال التاغوتي

2017 / 7 / 10
المجتمع المدني


بعد مضيّ سنوات قلائل من استيلاء زين العابدين بن علي على السلطة واكتشاف التونسيين مخططه التدميري غير الوطني، انكفأت ثلة منهم إلى "عهد الحبيب بورقيبة" متحسرة على زمن "الرخاء والطمأنينة"، متناسية فظائع النظام القمعي وويلاته، باحثة عن "أب" من طينته يقودهم ويذود عنهم. الأمر نفسه يتكرر، فبعد مضيّ هذه السنوات القليلة على الانتفاضة الشعبية، استعادت هذه الثلة ذاتها تغنيها بعهد بن علي وشدته واضعة إياه في المستوى ذاته، أعني "الأب" الذائد عن حياضهم ومصالحهم، الساحق كل ساع إلى زعزعة "النظام الطبيعي" القائم على التمييز بكل عناوينه. ذاك ما يتردد على الأسماع وينشر على صفحات التواصل الاجتماعي وبعض الصحف العريقة في صناعة الخوف، والناظر في "هوية" هذه الثلة من التونسيين لن يغفل عن كون أفرادها من الذين أوتوا كفاءة عالية في خدمة الأنظمة الاستبدادية، وأيقونتهم المحفورة في الوجدان إنما هم حكّام عرفوا بفاشيتهم وساديتهم، أي أولئك الذين يرفعون التمييز شعارا تتغير معاييره وفق الظروف المحيطة بهم. لقد فسحت الانتفاضة المجال للمشاركة في صناعة القرار بعد عقود من الضن به واحتكاره بدعاوى مختلفة أقربها عجز شعوبنا عن "التفكير" وقصورها عن تدبير شؤونها ذاتيا إما لطبيعة فيهم لن تتغير وإما – وهذا الموقف يعدّ مستنيرا – لأنهم لمّا ينضجوا حتى يرتقوا هذا المرتقى الصعب. ونتيجة هيمنة حثالة الخليج على مراكز القرار وتفشي ظاهرة التقوى المأجورة بين الطبقات المحرومة، وجد خدام النظام الفرصة لتأكيد أطروحتهم، فشرعوا يشيعون بين الناس أن لا قوام لهذا البلد إلا بقبضة حديدية تلجم الأفواه وتكتم الأنفاس؛ وليس لي دليل أفضل من موقفهم من مشاركة الاتحاد العام التونسي للشغل في صياغة المشروع الوطني، فهم ما انفكوا يعبرون عن نقمتهم عليه مستكثرين انخراط الأجراء - وهم المنتجون الحقيقيون - في العمل السياسي لاهثين خلف نماذج رأسمالية يقولون عنها هم أنفسهم إنها متوحشة؟ ويرفع بعضهم استشراء الفساد حجة يستجلب بها نجاعة النظام القمعي، فإذا واجهتهم بحقيقته أنه نظام ينخره الفساد منذ أمد بعيد لجؤوا إلى قياس كمي، أعني أنهم يدّعون بأن الفساد درجات، واللحظة الراهنة تشهد بلوغه الذروة، متغافلين عن الانفجار الإعلامي ودوره في إضاءة ما كان النظام وزبانيته حريصين على حجبه والتعميم عليه. والمؤسف حقا أن الكثيرين من هؤلاء ذوو مستوى تعليمي عال وكان من المفروض أن يكونوا في صفوف دعاة التغيير والتجاوز، بيد أن تبعيتهم المأزومة للبورجوازية والكمبرادور أعمتهم عن ذلك، بل حولتهم إلى درع بشرية تحمي المفسدين في الأرض، وتستعدي السلطة على أبناء الوطن، وتزين لذوي النفوذ ظلمهم وبغيهم، ليس لهم من هدف سوى تأبيد الواقع المتعفن، لأنهم تعودوا على الإفساد لاسيما وأن الطبقات الرجعية تمدهم بالمال والعتاد، وما العتاد إلا تلك القوانين المعادية للحرية. أكاد لا أشك في "شرعية" عمل هؤلاء على تصفية القوى التقدمية في البلاد، وشرعيتهم يستمدونها من تحالفهم الطبقي وعلاقتهم العضوية ببؤر الفساد، لكن المؤسف أن يصطف خلفهم "جمهور" لا مصلحة له في أن تستعيد هذه الشرذمة سلطانها عليهم، فبدعوى البحث عن "السلامة" يتورط عدد ليس بالقليل في الإشادة بزبانية القهر ويرون في التحركات الاجتماعية وبالا. ما ذلك بالجهل أو القصور عن التفكير، إنما مدار الأمر انخرام في الجهاز النفسي يجعل الرهينة تعشق جلادها ووعي زائف يبيح لهم إهدار إنسانيتهم مقابل غض البصر عن تجاوزاتهم وفسادهم "الصغير" –صرنا نقوّم الفساد حسب الحجم أيضا- غافلين عن كون التفقير صناعة بشرية، وأن التصفيق لأولئك العاضين بالنواجذ على مناصبهم لن يكون صداه إلا تدهورا لا يكف عن الهويِّ بهم نحو الحضيض.
هكذا يتجلى سمت المدافعين عن القهر، فهم ليسوا معنيين بما يسمونه "هيبة الدولة" – إذ هيبتها في سلامة مؤسساتها من الفاسدين – بل معنيون أساسا بـ "رهبة السلطة"، وحتى هذه تخضع لعملية انتقاء لاستبعاد الأعضاء الفاعلين فيها الساعين إلى القضاء على التمييز بأنواعه؛ فالمفسدون هم "الاستئصاليون" ذلك أنهم يستعيدون التمييز بين الخاصة – على اعتبارهم – والعامة، وبين الراقي – النموذج – والشعبي المنحط، وبين المتحضر والهمجي، وبين التقي والكافر، وبين الفذّ والعادي، وبين العبقري والغبي... كلها تصنيفات تدور في فلك التمييز الطبقي بين قوى تعوق عن الحركة حفاظا على "مكاسبها" وأخرى تلبي نداء التاريخ نحو وثبة أمل تعصف بهيكل الاستعباد المقدس. إن ما يؤرق هذه الشريحة من المجتمع اضطرارها إلى تقاسم الفساد مع شرائح أخرى كانت مستبعدة، فنيتها تتجه دائما نحو احتكاره لما أسدته من خدمات جليلة للنظام التدميري على مدى عقود. وما تهجم أغلبهم على الاتحاد العام التونسي للشغل إلا إعلان براءتهم منه تقربا لذوي الشوكة وطلبا لصك الغفران أنهم لم يعلموا برسالته الوطنية يوما، واعتقدوا في ما يشبه السَّكرة أن انخراطهم فيه يؤمّن مسالك قد سلكوها من قبل؛ فإذا الأمر بالضد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كم عدد المعتقلين في احتجاجات الجامعات الأميركية؟


.. بريطانيا.. اشتباكات واعتقالات خلال احتجاج لمنع توقيف مهاجرين




.. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والإسكوا: ارتفاع معدل الفقر في


.. لأول مرة منذ بدء الحرب.. الأونروا توزع الدقيق على سكان شمال




.. شهادة محرر بعد تعرضه للتعذيب خلال 60 يوم في سجون الاحتلال