الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوندر فيخ

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2017 / 7 / 18
المجتمع المدني


(أوندر فيخ)
نحن اليوم بأوربا نتساءل كيف كان في السابق لسائق سيارة الوصول بدقة لعنوان مكتوب على الورق، ففي شوارع وساحات أوربا لا يمكن التوقف أينما نشاء من أجل الأستفسار عن عنوان معين كما نفعل ببلداننا العربية حينما نترجل من السيارة حتى عند التقاطعات وأضوية المرور ونسأل رجل المرور عن وجهتنا فيجيبنا بطيب خاطر دون أمتعاض. قبل ظهور الأجهزة الألكترونية الحديثة المرتبطة بالأقمار الصناعية والتي تدل حتى الأعمى على ظالته كانت الحذاقة والفطنة في حفظ الطريق نعمة لا يتمتع بها الجميع، كان منا من يحفظه بمرة واحدة أو مرتين وغيرنا بعشرة أو أكثر وهو مع ذلك أحسن حالاً ممن لا يمكنه حفظ الطريق أبداً.
كانت ولا تزال عبارة (بالطريق) لا تعني لنا أكثر مما نصادفه من أحداث وأمور تحصل بدربنا ونتأثر بها، لكن هاتين الكلمتين في هولندا تأخذ معنى واسع وكبير، فلو كنت هولندياً وعلى موعد لزيارة بيت صديق وقام بالأتصال بك ليتأكد هل توجهت له، (أوندر فيخ) التي تجيبه بها ستفسر له بأنك ستكون عنده دون ذكر تفاصيل، فحينما تقولها لا تعني بالضرورة أنك تسلك الطريق الآن متجهاً إليه، ربما لا تزال في بيتك أو ربما عليك قضاء مشوار خلال ذهابك أو أنك على وشك الوصوب إليه، كلها تصب بنفس النتيجة والمعنى، ويبقى التفسير مفتوح لأنه غير مهم ما دمت لم تذكره له. لو يسألك سائل هل في خطتك أن تنجب أطفالاً، (أوندر فيخ) تعني جواباً أيجابياً بأنك وزوجتك بصدد ذلك أو أنها فعلاً حامل. لو تُسأل هل أكملت دراستك الجامعية وأجبته بذات الكلمة فأنك تعني بأنك تسعى للحصول على الشهادة لكنك لم تحصل عليها بعد. هل بنيّتك شراء بيت أو تبديل سيارة أو تجديد أثاث، (أوندر فيخ) تعني بأنك توفر بالوقت الحاضر المال لذلك. لو أنك تنحتُ تمثالاً أو تقوم برسم لوحة وسألوك هل أنتهيت منه، فذات الجواب معناه أن العمل (في طريقه) للتمام والكمال. لو تقوم بصبغ بيتك أو تصليحه أو تشذيب حديقتك أو أنك تجري أختبارات السياقة للحصول على الرخصة فالجواب (أوندر فيخ) يعني دوماً بأنك بصدد ذلك. لو تتصل بطبيب أسنانك للتأكد من أكتمال طقم أسنانك أو صائغك الذي أوصيته عمل أسم لزوجتك وكان جوابه (أوندر فيخ) فهو يقصد بأن العمل لم يكتمل بعد. اليوم وبأستخدام الرسائل القصيرة بالهواتف المحمولة صارت هذه الكلمة سيدة الكلام ومختصرة لكثير من الشروحات والمبررات ومختصرة للإجابات التي لا تحتاج لتفصيل.
يمكن أن يكون أبطال (الأوند فيخ) أفراداً أو مخلوقات أو حتى مقتنيات، أنت أو الطفل ببطن أمه أو الشهادة الجامعية واللوحة والرخصة أو حتى الأجراء والفعل نفسه فالمعنى واسع والتفسير يُترك للسائل لو تمالكه فضول لمعرفة تفاصيل أكثر، لكنه قصيراً للدرجة التي يدخل فيها ضمن ثقافة شعب بأن لا يتدخل بحياة الغير قدر الإمكان، وهو يندرج في أطار أجاباتهم المختصرة وأستخدامهم للرسائل القصيرة في إيقاع حياة سريع. إن أستخدام أحد أدوات السؤال (هل، كيف، متى...) لا يحتاج منهم في أحيان كثيرة سوى لأجابة قاطعة بنعم أو لا، فالسؤال: هل أنت طبيب؟ تكون أجابته بكلمة واحدة، بينما ثقافتنا تحتم علينا الرد أكثر كنوع من أحترام المقابل. لو أردنا الأعتذار عن أستقبال صديق لمصادفة أرتباطنا بموعد بنفس الوقت، سنعتذر ونبرر له أسباب عدم أستطاعتنا أنتظاره وندخل بتفاصيل خاصة مملة لا حاجة له بها، بينما الأجنبي يقول فقط بأنه لا يستطيع لأرتباطه بموعد ويضع بعدها نقطة. نحن حتى (الأوند فيخ) التي نحاول أن نقلدهم بأستخدامها نتبعها بعدة جمل لا يجدونها ضرورية، فلو كنا بالطريق سنقول أين نحن وكم قطعنا مسافة وكم تبقي لنا من وقت للوصول وهي أمور قد لا يحتاجها السائل. لو أن الوليد قادم سنقول كم عمره ببطن أمه وأين سنقرر الولادة وهل ستحضر الخالات والعمات ولماذا اعتذرت أمي وهل سببها وجيه أقتنعت به المدام وأمها... أسئلة تولد أسئلة لم يكن السائل بحاجة لها ولن تشكل له ـ لو لم يكن فضولياً ـ سوى (دوشة رأس) لا أكثر!
وما دمنا نتكلم عن عبارة (بالطريق) فدعونا نسلك أحد الطرق في أحد البلدان العربية حينما شاهدتُ يوماً أكشاك على (يسار) الطريق يمكن للسائق التوقف بكل راحة للأستفسار عن جهة يقصدها وبنفس الوقت شراء علبة سيجائر وأيقاد سيجارة أو أحتساء قنينة مرطبات على مهل، الغريب أن من يقودون سياراتهم خلفه لا يتذمرون من ذلك ويعتبرون أنه حق له مثلما هو لهم لو أرادوا ذلك فيقومون بتغيير مسلكهم برمش البصر من دون أعطاء حتى أشارة على أساس أن من خلفهم هو من عليه التصرف وتجنب الأصطدام!
بعملنا بالعراق بالصياغة وعند عمل التواصي للزبائن ما كان أطلاق كلمة (بالطريق) يسعفنا كي تنتظر الزبونة يوماً أو يومين آخرين لتتسلم سلعتها، ولو لم تشاهد العمل حتى لو لم ينتهِ بعد كانت غالباً ما تغادر الدكان غير راضية في داخلها عدم قناعة حتى لو دعمنا قولنا بأغلظ الأيمان!
في نهاية السبعينات فتحتْ بنت عمي عيادة لطب الأسنان بمدينة الثورة، ولما كان زوجها المهندس الضابط بالجيش غالباً ما يقوم بواجبات الخفارة، كنت أمر لعيادتها لنعود معاً وكنت أجلس أتحدث معها طالما تقف هي منشغلة بعملها. أنا شخصياً لم أرَ طبيباً بقوة شخصيتها، فقد كان عليها ـ وهي تعمل بين أفراد مجتمع محافظ منغلق طباعه متشددة ينقصه الأطلاع ـ عدم مطاوعة مريضها حينما يقاومها لدى قلع ضرسه بداعي الخوف من الألم، كانت تعتمد أسلوب الصرامة والشدة، الترهيب لا الترغيب كي تنهي عملها بسرعة وبسلاسة، وحينما تبدأ العمل تسيطر أولاً على مريضها ولا تدعه يتذمر أو يمتنع. دخل صبي متمرد مع أمه، كلما تقبل عليه في محاولة لقلع سنه اللبني الملتهب يدفعها بكلتا يديه ويرفسها برجليه ويصرخ، أخفضت يديها ونظرت له وهدأت من روعه لكنه بقي على تجبره لا يهابها ولا يكترث بأمرها، الوقت يمر والمراجعون يتجمعون بالخارج، رفعت كفها على خد الصبي المدلل وصفعته بخطف البصر، ماهي إلا ثوانٍ هدأ وسكت وفتح فاهه، وبينما دموع الصبي تنهمر ألتقطت آلاتها بكل راحة، في وقت كانت أم الصبي المسكين قد (تبسمرت) هي الأخرى، بدقيقة واحدة قلعت سنه اللبني وأمرته بالمغادرة، قفز على عجل وسبق أمه بالخروج! وبينما كنت أناقشها في أسلوبها وإذا بشيخ يدخل دون أستاذان ليسألها هل أنتهت من عمل طقم أسنانه، فأخبرته أن الطقم (بطريقه) أليه، أنتفض الرجل ولم يقتنع بكلامها، عندها أخرجت واحداً من الدُرج وقالت له أنه من الضروري أن تعمل أولاً (بروفة) للتأكد من ملائمته له، قاس الرجل الطقم وأملأ عليها ملاحظاته وتشكر منها وغادر راضياً مبتهجاً. قلتُ لها ألم يكن الأجدر أن تقولي له بأن الطقم لايزال بالمعمل ولم ينتهِ بعد، قالت... (لقد كان الطقم في حقيقة الأمر (بطريقه) فعلياً للرجل لكنه ما كان ليقتنع لو لم يشاهد النموذج بعينيه ويلمسه بيديه)!
هذه أمثلة تعطي صورة أننا جميعاً ننبع من ثقافة تحتم على طرف تقديم أيضاحات وأثباتات كي يقتنع الطرف المقابل بكلامنا، بينما نجد أن الأوربي لا يحتاج بكلامه ليمين أو دليل لأنه أساساً يتعامل بثقافة قول الحقيقة وعدم أخفاءها، وهكذا فأكتفاء الهولندي بعبارة (أوندر فيخ) البسيطة للأشارة لعمل أو أجراء لا يزال مستمراً أصبحت تستخدم بشكل واسع ومتشعب ليعبر عن مسيرة ومشوار دراسي أو أجتماعي قد يطول أو يقصر، في بيتك أو عملك وحتى في سفرتك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
× (أوندر فيخ نار مورخن) مسلسل تلفزيوني هولندي يعني أسمه... (في الطريق للغد) أنتج بداية التسعينات وعرض على أكثر من قناة تلفزيونية بين عامي 1994 و 2010، يتحدث عن قرية نائية توسعت بالقرن الذهبي (السابع عشر) وتحولت لمدينة عامرة شغلت الدنيا، أنها مدينة (أمستردام). يمكن الأطلاع على المسلسل لمن يتمالكه الفضول لمعرفة تفاصيله بكتابة أسمه على محرك البحث Onderweg naar Morgen أو بأختصار ( ONM).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتقال أكثر من 1300 شخص في الاحتجاجات المناصرة لغزة في عموم 


.. العالم الليلة | الآلاف يتظاهرون في جورجيا ضد مشروع قانون -ال




.. اعتقال طالبة أمريكية قيدت نفسها بسلاسل دعما لغزة في جامعة ني


.. العالم الليلة | الأغذية العالمي: 5 بالمئة من السودانيين فقط




.. خالد أبو بكر يرد على مقال بـ -فورين بوليسي-يتهم مصر بالتضييق