الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدانمرك أم النظام العربي؟

صبحي حديدي

2006 / 2 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


النظام العربي ـ الكاذب في تشعة أعشار ما يعلن، والعاري على الملأ رغم كلّ ما يتسربل به من أقنعة ـ أراق الكثير من دموع التماسيح استنكاراً للرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة دانمركية، ويصحّ القول إنها بالفعل تشكل إساءة مباشرة للرسول العربي محمد بن عبد الله. وكان حرّياً بهذا النظام المنتفض (نفاقاً في الواقع، وليس غيرة) على النبيّ والإسلام، أن يستر بعض عوراته المكشوفة أمام الشعب قبل أن يحرّض الشارع على مقاطعة الجبنة الدانمركية، وأن يمنح الناس بعض حقّهم في التظاهر من أجل الحرّية والخبز والعيش الكريم، قبل السماح للبعض (بوسيلة التحكّم عن بُعد غالباً) بحرق السفارات!
هذا ما جرى في عاصمة بلادي، دمشق، كما بات معروفاً بعد أن تناقلت وكالات الأنباء الخبر المثير والصور الطافحة بألسنة اللهب. ما لا يعلمه الجميع (لأنّه ليس موضوعاً جذاباً لشاشات التلفزة، أو فاتحاً لشهية الفضائيات) هو أنّ هذه السلطة الرشيدة ذاتها كانت قبل أسبوع فقط قد منعت عدداً من المواطنين، بينهم بعض معتقلي الرأي الذين تمّ الإفراج عنهم مؤخراً، من عقد مؤتمر صحفي بسيط في مكتب المحامي هيثم المالح في دمشق. السلطة ذاتها ما تزال تغلق "منتدى الأتاسي"، أو بالأحرى تواصل منع أيّ وكلّ نشاط عامّ يستهدف التعبير عن الرأي ولا يخضع مسبقاً لجهاز "الريموت كونترول" الأمني دون سواه، أو لا يقود المياه إلى الطاحونة الديماغوجية التي تسيّرها السلطة.
قبل المظاهرة والحرائق كانت خارجيتنا، الرشيدة بدورها، قد استدعت السفير السوري من كوبنهاغن للتشاور. لا نعرف، بادىء ذي بدء، أين كان سعادته، بل أين كان جميع المنافقين الذين يتفخون النار في الجموع ويحرقون السفارات ويتنافخون غيرة على المقدسات، حين نشرت صحيفة "يولاندس بوستن" الرسوم قبل أكثر من أربعة أشهر؟ ولا ندري عم ستتشاور الخارجية مع السفير: حول مقاطعة الجبنة الدانمركية؟ توسيع نطاق الأحكام العرفية المطبقة في سوريةن لتشمل الدانمرك؟ أم إخضاع الصحافة الدانمركية لقانون المطبوعات السوري؟
فإذا ساجل البعض بأنّ من واجب الدولة أن تسمح لمواطنيها بالتعبير عن احتجاجهم إزاء انتهاك المقدّسات، وهو أمر مشروع لا جدال فيه، فإنّ هذا الواجب ليس مقتصراً على المقدّس الديني وحده، وينبغي أن يشمل أيضاً الحقوق الدنيوية الجوهرية التي ترقى إلى مصافّ الحرمات الكبرى، مثل الحرّية والخبز والكرامة والعدل. ومن جانب آخر، كيف يمكن لدولة كهذه أن تقوم بواجب كهذا، إذا كانت في الأساس منخرطة في لعبة خداع مفادها أنّ الصحيفة هي الدانمرك، والدانمرك هي الصحيفة، وأنّ وازرة "يولاندس بوستن" تزر الدانمرك بأسرها، دولة وشعباً وثقافة وجبنة وحليباً!
ولأنّ النظام العربي يكره الصحافة الحرّة والكتابة الحرّة والمخيّلة الحرّة والتعبير الحرّ عن الرأي، فإنّ رجالاته يتناسون حقيقة أنّ "يولاندس بوستن"، أو "فرنس سوار" الفرنسية و"لا ستامبا" الإيطالية و"دي فيلت" الألمانية، لا تخضع لأية رقابة مسبقة من أجهزة الدولة أو الأجهزة الأمنية أو قوانين المطبوعات البغيضة التي لا تمجّد إلا القائد الخالد إلى الأبد. ولهذا فإنهم، عن سابق عمد وتصميم، وربما عن تلذذ أيضاً، يخلطون بين وسيلة الإعلام االمستقلة والدولة، ثمّ يزجّون البلد بأسره، ومعه الشعب وتاريخه وثقافته، في الدست الواحد ذاته: كلها أبقار سوداء في الليل الأسود!
والحال أنّ الحكومة الدانمركية ـ سواء أكانت سعيدة بالرسوم، أم حزينة لها؛ متفقة معها، أم معارضة لها ـ ليست الجهة التي ينبغي أن تُلام لأنّ صحيفة دانمركية مستقلة أساءت للرسول العربيّ. المعيار ذاته ينبغي أن يسري على شعوب وحكومات فرنسا وإيطاليا وألمانيا، على نحو يستبعد التأثيم الجماعي، ويُسقط مبدأ مقاطعة البضائع (أي مقاطعة الشعوب، في نهاية المطاف). لقد مارست الصحيفة حقاً في التعبير الحرّ يكفله الدستور الدانمركي، وإذا كانت قد جرحت مشاعر الملايين من المسلمين، وغير المسلمين ربما، فإنّ الحساب على أيّ شطط في استخدام ذلك الحقّ الدستوري ينظّمه القضاء استناداً إلى القوانين المرعية. وإذا صحّ أنّ معظم تشريعات الغرب تفتقر إلى قوانين خاصة تحمي مشاعر المسلمين، فإنّ لهذا سلسلة أسباب تاريخية وثقافية ودينية معقدة، لا تغيب عنها حقيقة أنّ الجاليات الإسلامية مفككة مشتتة منشغلة، وعاجزة عن تشكيل مجموعات ضغط تدفع باتجاه استصدار تلك القوانين.
المنافق العربي، السائر في ركاب النظام العربي، لا يكفّ عن اللجوء إلى هذه الذريعة، وهي كلمة حقّ يُراد بها باطل الأباطيل، ليكرر ويعيد بأنّ حرّية التعبير في الغرب تنتهي عند المساس بالهولوكوست والعداء للسامية. لكنّ هذه الحرّية تُنتهك كلّ يوم في أعرق ديمقراطيات الغرب، ليس بسبب هاتين المسألتين فحسب، بل كذلك بسبب لائحة طويلة من القضايا الحساسة السياسية والأمنية والإقتصادية والدينية والتكنولوجية المسكوت عنها لأسباب شتى. هذا كلّه لا يبدّل حقيقة أنّ الدانمرك البلد ليس الطرف الذي ارتكب الإساءة، وأنّ النظام العربي الذي ينفخ نار التحريض في الشارع هو ذاته الذي يقمع الشارع وينهب خيرات البلد وينتهك حرمات المواطن. وهو، استطراداً، يسيء إلى أمّة محمّد بن عبد الله، أكثر بكثير ممّا فعل ذلك الرسام الدانمركي الجاهل أو العنصري أو الخبيث!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عواطف الأسدي: رجال الدين مرتبطون بالنظام ويستفيدون منه


.. المسلمون في النرويج يؤدون صلاة عيد الأضحى المبارك




.. هل الأديان والأساطير موجودة في داخلنا قبل ظهورها في الواقع ؟


.. الأب الروحي لـAI جيفري هنتون يحذر: الذكاء الاصطناعي سيتغلب ع




.. استهداف المقاومة الإسلامية بمسيّرة موقع بياض بليدا التابع لل