الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عشاء الطائي الأخير - في ذكرى الشهيد باسل كاظم الطائي ( أبو تغريد ) ورفقته الخالدين

نجم خطاوي

2006 / 2 / 10
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


سأحكي لولدي عن قصة ذلك الفتى
الذي حلم يوما بالعراق الجميل
الذي تسوده العدالة .
سأحكي للناس
عن البسالة والهمم .
وسنكمل الطريق ,
وهو أجمل الوفاء

مضيت كل تشرين الثاني وسط أهلي وأصدقائي , وحانت لحظة عودتي إلى بلد الصقيع السويد ثانية . الطريق من مدينتي الكوت , وحتى أربيل , طويلة وشاقة , تجوفها بعض المخاطر . في بعض المرات كان أخي يسوق السيارة بشكل يوحي لي وللصديق الذي زاملنا السفرة وكأن سيارتنا ستتحول إلى طائرة , وكان يعلق ساخرا في كل مرة , كون الدافع هو الضرورة الأمنية , وعلي بكل تواضع تفهم هذا الأمر , باعتباري قد خضت تجربة الكفاح المسلح , واقدر هذه الحالات .
شمس الأول من كانون الثاني حارقة ولذيذة وهي تبسط حرارتها وسط برودة الصباح الذي اكتسى بضباب سميك حجب الرؤية .
مررنا بمدن الدبوني والعزيزية والصويرة وبغداد والخالص وطوز خورماتا وكركوك واقتربنا من مشارف أربيل .
قلت لأخي وصديقه , بأني أنوي الذهاب مباشرة بعد وصول مدينة أربيل لزيارة أصدقائي ورفاقي اللذين تضم رفاتهم مقبرة شهداء الحزب الشيوعي العراقي القريبة من مدخل المدينة , وخيرتهم في رفقتي , وتحمسوا لذلك .
وصلنا المكان , وهو لا يبعد طويلا عن نقطة السيطرة العسكرية الكبيرة القريبة من مدينة اربيل , والتي أهاجت عصبية أخي وصديقه , بسبب شدة إجراءاتهم الأمنية ومعاملتهم الخشنة , والتي كادت أن تحرم أخي وصاحبه من دخول المدينة , لولا حديثي معهم باللغة الكردية التي تعلمتها في الجبال في حركة الأنصار, ومن ثم ترحيبهم بنا واعتذارهم .
لم تكن المقبرة كبيرة , ولكنها كانت مرتبة ومهيبة , وتشعر بذلك منذ اللحظة التي تطالع فيها أسماء الشهداء المنقوشة على الحجر, والقبر الذي بني حديثا للقائد الأنصاري البطل وضاح عبد الأمير ( سعدون ) , الذي استشهد قبل عام من اليوم في نفس الطريق التي سلكناها اليوم في رحلتنا , وفي نفس المكان الذي كان آخي يقود السيارة فيه بشكل جنوني .
كان أخي وصديقه يقرأن الأسماء وبصوت عال وكأنهم يريدون سماع الصدى الذي تتركه قراءتهم على مسامعي , وكنت حينها أعصر الألم في داخلي محاولا كبت الدموع .

باسل كاظم الطائي ( أبو تغريد )
وقفت قرب المكان متطلعا في الحجر الرمادي وخطوطه السوداء والحروف التي خطت بعناية .
قال صديق أخي :
هل تعرفه ؟
قلت : نعم كان رفيقي في حركة الأنصار , وكنت حاضرا في المنطقة , ليس بعيدا عن مكان استشهاده .
وسرحت بعيد في الذاكرة .....
في تشرين الثاني 1982 شاهدته وتعرفت به في مناطق بشت ئاشان المحاذية للحدود العراقية الإيرانية , وكانت يومها أماكن خلفية لقيادة الحزب الشيوعي العراقي . والذين تعرفهم في خلايا الكفاح الثوري يكون لهم في كل مرة وقع وتأثير في الضمير والذاكرة .
وفي هذا الشهر بالذات , تشرين الثاني 1982 كنت قد وصلت وادي ( بشت ئاشان ) , بعد مسيرة طويلة وشاقة تجاوزت الشهر , عبرنا فيها عشرات الأنهار والوديان والجبال والحدود والغابات والطرق الجبلية وشوارع الإسفلت وخط نفط كركوك ومفارز الجيش التركي و ربايا الجيش العراقي وكمائن المرتزقة الجحوش . وكان ما جلبناه لرفاقنا على البغال العملاقة في ذلك الشتاء القارس من سلاح ومال ودواء وكتب وغيرها , وهي هدايا لا تقدر يومه بثمن , معينا لنا على الصبر والتحمل في تلك المسيرة المضنية .
في الوادي ( بشت ئاشان ) لم أمكث سوى يومين في موقع لأحد الفصائل يجاور المستشفى الصغيرة ( الطبابة ) .
في اليوم الثالث شددت رحلي برفقة أحد الرفاق صاعدا التلة التي تفصل بين وادي( بشت ئاشان) ووادي ( بولي ) الصغير .
في هذا الموقع الجديد استقبلوني بفرح ومودة ورفقة , وكان معهم الشهيد باسل ( أبو تغريد ) . والذي جذبني فيه اسمه الذي لا يخلوا من رومانسية , وخمنت يومها , لعله لا زال يحتفظ بذكرى الفتاة التي أرغم على مفارقتها , فسمى نفسه هكذا حبا بها . وبعد مرور سنوات طويلة , وبالذات حين فقدنا ( أبو تغريد ) ورفاقه في سهل اربيل , وفي قرية ( هيله وه ) عام 1987 , وفي معركة غير متكافئة مع هليكوبترات وأوغاد صدام , عرفت بعد أن كتب الرفاق اسمه علنا ( باسل ) أن اسمه الحقيقي يليق بشخصيته الباسلة , وباتخاذه طريق البسالة في درب الشيوعية .
وهذا الإنسان الطيب والشهم كان طائيا أيضا , بالمعنى الذي ارتبط به الاسم , واقصد الكرم . فرغم أن جميع الأنصار هناك كانوا دراويشا لا يملكون سوى المبلغ البسيط الذي يعطيه الحزب في كل شهر , وهو لا يكفي لشراء السجائر , وهو مثلنا تماما , لكنه كان يدعونا في كل ليلة في ضيافته وتناول الطعام الذي يطبخه بنفسه ............

قرأ آخي وصديقه الأسماء جميعا بعد أن مروا بقبور الشهداء جميعا , وكانت قسمات وجهيهما توحي بالحزن والألم وعدم الضيق مما أعطاني فرصة أن امضي طويلا في إثارة الذاكرة الطرية , ومضيت ......

في تلك الأيام الشتوية القاسية من عامي 1982 , و 1983 , وفي منطقة ( بولي ) تعرفت به , وكان المكان يضم فصيلا شيوعيا متقدما لحماية الرفاق في وادي ( بشت ئاشان ) .
ولم يمض على وجودي هناك يومين , حيث كلفوني بمهمة مساعد الخباز , وكان رئيسي في المهمة الخباز الشهيد ( أبو تغريد ) الذي دلني على الطست الكبيرة ومكان الملح والمقادير وكيفية غلي الماء , وكل التفاصيل . وعجنت الطحين في ذلك اليوم الشتائي الذي غطت ثلوجه أطراف الوادي وقمم جبال قنديل العالية , وخبزناه سوية وسط الأحاديث والضحك . وصرت واحدا منهم يوم أكلت وجبة العشاء الأولى وكانت عدسا لذيذا زاد من لذته الخبز الحار الذي عجنته كفي وخبزته يد ( أبو تغريد ) بعناية العارف .
وسيم الطلعة , متوسط القامة , من مواليد 1957 ومن مدينة الحلة , تغطي وجهه لحية طويلة تميل إلى الصفرة يعلوها شارب طويل غطى شفته العليا . وكانت هذه المعالم تضيف له طيبة ووقارا وهو يمضي بفكاهته اللذيذة وتعليقاته الساخرة , وكانت لديه قدرة هائلة على كبت الألم وتحويل الحزن إلى ما يشبه الفكاهة , وهذه قدرة فائقة لا يجيدها أيا كان .

وودعنا المقبرة والشهداء متجهين للمدينة . وفي فندق المدينة ليلا قصصت لهم حكاية كرم الشيوعي باسل كاظم الصفار ( أبو تغريد ) ......

اعتدنا تناول اللبن أو العدس صباحا كوجبة فطور , وفي الظهر تكون الوجبة عادة فاصوليا مع الرز , وفي العشاء يتبادل العدس مكانه مع اللبن , فحين يكون صباحا يكون العدس مساء , وهكذا . وليالي الشتاء طويلة ومملة ونحن ننحشر في غرفة طينية كبيرة ضمتنا , وكانت شبيهة بعراق مصغر, ضمت اكثر من عشرين رفيقا ومن مدن العراق جميعها تقريبا . في هذه الأجواء الكئيبة ابتكر الفكاهي الطيب صاحب الطرفة اللاذعة والتعليق الساخر ( أبو تغريد ) طريقة جديدة لنسيان الهم ومقاومة العوز والحرمان , وقد استحسنا جميعا تلك الفكاهة .
في المساء يخيم الظلام على سفح الجبل وعلى فصيلنا ( بولي ) , وتشعل الفوانيس وتعلق وسط الغرف الطينية , ونظل نحن جالسين في أماكننا نتبادل الأحاديث والتدخين وشرب الشاي , والمدفأة الخشبية تتقد نيرانها مشيعة الدفء والراحة . قبل الخلود للنوم يبدأ ( أبو تغريد ) أداء المشهد الذي يكون خاتمة السهرة قبل النوم , والمشهد عبارة عن طبق طعام يختاره هو بنفسه في كل ليلة , معلنا عن اسمه , ثم يبدأ تهيئة مواده وتحضيرها , شارعا في إعداد الوجبة وبكل حنكة الطباخ . كنا نحن نصغي بصمت حتى انتهاء الوجبة , أحيانا لا يتمالك أحدنا نفسه ساخرا ببعض الكلمات ( ولك مو موتتنا من الجوع ) , ( كافي شبعنا ) , ( سأقترح على الإداري أن تكون الوجبة القادمة كهذه الطبخة ) , وغيرها من التعليقات .
ومضت الأيام , وصعدنا جبل قنديل بثلوجه وطرقه المخيفة في تلك الأيام العجاف من عام 1983 , وبعد أحداث ( بشت ئاشان ) التي تركت ألما في ضمائر الشيوعيين الذين عاشوا أحداثها ومآسيها . ثم التقيت بالشهيد في منطقة ( بارزان ) في نفس العام 1983 بعد أن حللنا هناك لنكون النواتات الجديدة لإعادة تأسيس قاطع أربيل . وكان كما عهدناه , نفس الابتسامة , ونفس السخرية الطريفة , ونفس الطيبة والبساطة , والسيجارة لا تفارق يده النحيفة .

بدأ الليل يهبط على مدينة اربيل وخلت الشوارع من المارة ولكن نافورة الماء أمام مبنى المحافظة ظلت ترش ماءها , كنت الحظها عبر نافذة شباك غرفة الفندق , ونام أخي وصديقه , وظللت وحدي في حلمي وسط بحر الذاكرة .

وسط سهل أربيل نشطت ثلاث سرايا شيوعية جسورة ( قه ره جوغ , أربيل , به رانتي ) , قامت بعمليات عسكرية كبيرة , ونشاطات جماهيرية .
وقد احتفت هذه السرايا بمقدم بعض المقاتلين من قواطع أخرى , ومن ضمنهم ( أبو تغريد ) الذي نسب للعمل في سرية الشهيد عباس ( اربيل ) .
وفرحنا بمقدمه واستذكرنا طرفه وحكاياته الجميلة ودعاباته , وكان كما هو , نفس الثقة بالنفس , ونفس الابتسامة .
وقد أحبه الأنصار الشيوعيين الكرد , وتعززت علاقته الطيبة بهم , رغم أن اغلبهم أبناء مزارعين ورعاة , وهو الشاب القادم من الدراسة في المعهد الفني في بغداد , ومن سكان مدينة الحلة .
كان يجهد للحديث معهم بالكردية , محاولا إتقانها . يتذكره الجميع والرشاش الأسود يتدلى من على كتفه .
وقد شارك في الكثير من المهمات الأنصارية العسكرية , وفي مهمات نضالية كثيرة , وبكل شجاعة وإقدام .

في الأيام الأخيرة التي سبقت استشهاده عام 1987 ورفاقه في تلك المعركة الفاجعة , التقينا في مقر سريته ( عباس ) , مستذكرين أيام ( بولي ) ووجبات العشاء التي كان يطعمنا إياها , وحدثنا في سخرية في تلك الليلة وأنصتنا سوية , وكان هذا العشاء الأخير الذي يطعما به ( الباسل أبو تغريد الطائي ) .

على تراب هذه القرية ( هيله وه ) الممتدة على سهل أربيل فقدنا أحبة لنا في المعركة الباسلة المسماة باسم القرية ( هيله وه ) في الثالث عشر من تشرين الثاني 1968 , وهم (( علي نذير أحمد(عادل),عثمان خضر كاكيل(سه ركوت),هيرش مجيد(سمكو),ممتاز محمد إبراهيم(بيشرو) )) ,وبعد قرابة العام وليس بعيدا عن مكان المعركة الباسلة هذه فقدنا العزيز الشهيد باسل كاظم الطائي ( أبو تغريد ) مع كوكبة من الشهداء, الدكتور سعيد ( هاني دنحا داود , أزاد , وبقية رفاقهم الخالدين ) .
في هذه المعركة الغير متكافئة تخسر الحركة الأنصارية والحزب الشيوعي العراقي , والشعب العراقي ابنا بارا وشهما ستخلده الأيام , وسيكون مفخرة لمدينته الحلة , وللعراق كله . لقد كافح واستشهد في أبسل حركة شيوعية مقدامة ووطنية قاومت اعتي دكتاتوريات المنطقة , وفي زمن نحس ولئيم .
المجد والخلود لك يا باسل ...
ستظل راية الشيوعية خفاقة في الوطن .
ولن تكون الدماء رخيصة يوما يا باسل .

السويد
8/2/2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Socialism the podcast 131: Prepare a workers- general electi


.. لماذا طالب حزب العمال البريطاني الحكومة بوقف بيع الأسلحة لإس




.. ما خيارات جيش الاحتلال الإسرائيلي لمواجهة عمليات الفصائل الف


.. رقعة | كالينينغراد.. تخضع للسيادة الروسية لكنها لا ترتبط جغر




.. Algerian Liberation - To Your Left: Palestine | تحرر الجزائر