الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضرورة إحياء الخطاب العقلاني في الاسلام

نهاري عبد القادر

2017 / 9 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ينطلق العلم من المقدّمات وصولا إلى النتائج مرورا بالشكوك والتساؤلات والخوض في جملة من الفرضيات وفق منظومة تامة ومتكاملة ترتكز على العقل ولذا تتكون لدى العالِم ذهنية قائمة على "التفكير" على عكس منظومة "الدّين" التي تسير في الاتجاه العكسي إذ تنطلق من نتائج تم وضعها مسبقا وهي عبارة عن "مسلّمات" يبني عليها أفكاره ويسعى إلى خلق "منطق" يتماشى معها فتتشكل لدى "المتدين" ذهنية مناقضة للتفكير تماما تقبل بالانصياع للمسلّمات قائمة على "التبرير" لها، لذلك إما أن تكون متدينا معطلا لعقله وإما أن تكون عالما مستعملا لعقله فكلاهما متناقضان ولا يجتمعان فالعلم أساسه فتح المجال للأفكار والدين يقوم على تسقيف مجال التفكير، لهذا نجد في الواقع ان المجتمعات القائمة على الدين وتطبيق تعاليمه حرفيا هي التي دائما ما تتصف بالتخلف وعدم مواكبة الحداثة.
من المعلوم ان أهم ركن في الدين هو "العقيدة" وفي الغالب نجدها تعتمد على نصوص مقدسة إلهية المصدر تؤسس لها، ومشكل الدين عموما ليس في العقيدة بحد ذاتها ولا في نصوصها إنما في ما تؤسس له هذه العقيدة من قراءة لنصوصها وما يترتب عنها من تفسيرات لظواهر الكون والحياة، فهناك عقائد تؤسس لخطاب العقل وتحصر نفسها في الايمان بالآلهة او النبوات دون أي تدخل في شؤون الحياة ومظاهرها وهي تلك العقائد التي لا تقدس نفسها ولا تفرض نفسها على الآخر ولا تسمع لها اي صيت في العالم تكتفي بالإيمان الذي وقر في القلب مع بعض التسبيحات على الأكثر ولا ترى في نصوصها سوى حِكَمٍ قد ترشد الانسان، وفي المعاكس لها هناك عقائد أخرى تقوم على تعطيل العقل بجعل الاولوية لنصوصها والتفسيرات والتشريعات الناتجة عنها ولا ترى بديلا عنها وتجعلها سقفا يحرم على أتباعها تجاوزه فتقضي على كل محاولات التجديد وتحكم بذلك على الانسان ومجتمعه بالتشبث بالماضي والتخلف عن ركب التجديد.
بالنسبة للإسلام، فهو يتأسس على عقيدة الايمان بالله وملائكته ورسوله محمد (ص) والايمان بكل الانبياء والرسل والديانات والكتب المقدسة والايمان باليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، غير أن هذه العقيدة ورغم وضوحها ولأسباب تاريخية فرضها الواقع كانت لها العديد من القراءات منها من أسس للعقلانية وساهم في تجديد الفكر الانساني وبناء الحضارة ومنها من أسس لخطاب التطرف والقتل وتدمير العقل، فليس هناك إذاً إسلام واحد متفق عليه بل هناك تعدد في قراءات العقيدة الاسلامية أدى الى نشوء مدارس فكرية وعقائدية داخل الاطار الاسلامي الأمر الذي يفسر ذلك التمايز في تاريخ المسلمين الذي نجده في بعض مراحله غنيا بالمساهمات الفكرية والعلمية وفي البعض الآخر تخلفا وجهلا ولا انتاج فكري سوى الحروب والاقتتال والهمجية.
من القراءات التي أسست لخطاب العقل نجد الفرقة "المعتزلة" والتي تأسست اصلا على أولوية العقل على النقل ورأت ان النص المقدس ممثلا في القرآن إنما هو نص تاريخي مقيد بحدود الزمان والمكان مبني على "التأويل" وأن ما يثبت في سيرة الرسول إنما هو تجربة إنسانية خاضها وفق معطيات ذاك الزمان وان الله خالق الكون منزه عن كل الصفات وان قضاءه وقدره هو الضوابط والسنن الكونية التي تسّير هذا العالم ولا يمكن لنا إدراك الله والوصول إليه إلا عبر فهم هذه السنن الكونية والتي لا سبيل لفهمها إلا بالعقل الذي لا ينموا إلا في ظل "الحرية" إذ يقول "ثمامة بن الأشرس" وهو أحد رجالات المعتزلة: "أن الله يتدخل في الكون وفق سنن الطبيعة ولا مناط لنا إلى فهم ذلك إلا بالعقل" وهنا نلاحظ أن هذا الخطاب هو ذاته الخطاب الذي أسس للعقلانية وبداية التنوير في أوروبا على يد باروخ سبينوزا الذي قال: " إن الطبيعة بضوابطها وقوانينها تمثل إرادة الله" وكم كان لهذا المنظور من آثار ساهمت في نقل الإنسان من عصر الرجعية والجهالة الى عصر النهضة والحداثة، فخطاب المعتزلة يؤسس لذهنية تتعاطى مع العلم المنطلق من التساؤلات والمشجع على فهم الوجود بعيدا عن التقديس والتسليم وتثبيت النصوص.
كذلك نجد الصوفية ترى ان العقل هو نور رباني أهداه الله للإنسان يتطور وينموا بالتعليم والتجارب والاختبار بعيدا عن أي جمود وثبات وهي تتقاسم المعتزلة في فكرة ان الله منزه عن كل الصفات وأن قدره متمثل في الكون وقوانينه غير أن ما يميز الصوفية هو أنها جمعت بين الفكر والوجدان ورأت أن العقل لا ينموا إلا بتهذيب النفس وتنمية ذوقها وتعاطيها مع مفاهيم الجمال ولنا ان نرى تجليات هذه الرؤية على الامم المتقدمة اليوم كيف ان انتاجها العلمي الغزير مصاحب لتذوقها لكل ما فيه جمال حسّي للإنسان من رسوم ونحوت وموسيقى وكل طبوع الفنون.
لا يسعنا ذكر كل تلك المدراس والقراءات الفكرية داخل الاسلام والتي أسست للعقل كالقدرية وجماعة إخوان الصفا والمرجئة وغيرها وإن كان هناك تفاوت بينها او تخللتها بعض الهفوات لكنها وفي العموم كانت تؤسس لنظرة عقلانية يكفيها فخرا انها ناقشت كبريات القضايا وانتجت أفكارا سابقة في تاريخ الانسان والتي يبنى عليها المجتمع الحديث كالحرية والعدالة والقضاء والقانون والعلم ... الخ، غير أن الأقدار خلال هذه المسيرة شاءت ان تكون القراءات المنتصرة هي تلك التي تؤسس للخرافة والجهل وتثبيط العقل وجعل النصوص أصناما واهتمت بالنقل والإسناد وجعل الانسان مقيدا بالطقوس والعبادات فبقي التفكير في البيئة الاسلامية أسير التقليد ولا ينال حقه من التجديد فأنتج التخلف والجهل وحكم على نفسه بالبقاء في الحضيض.
إن المنظومة الفكرية التي تنتج العلم لا تعني بالضرورة القضاء على العقيدة تماما إنما تحتاج على الأقل بناء قراءة عقلانية لا تحصرها في حدود الدين بل تجعل منها رؤية انسانية شاملة تساهم في تحرير الإنسان من قيود الخرافة والجهل، فالإشكال الحقيقي ليس في الاعتقاد بوجود الله من عدمه ولا بنكران النبوءات او تصديقها بقدر ما هو موجود في من يدعي ملكية الله ويتبنى لنفسه حصرية فهم الوجود والحياة بتقديسه للنصوص وتجميده للاجتهادات وفي ظل الواقع المأزوم الذي نحن فيه اليوم فإننا بأمس الحاجة إلى إحياء القراءات العقلانية داخل الاسلام الذي بات أسيرا في يد الجاهلين من الذين جعلوه منتجا لكل ماله علاقة بقتل العقل وتدمير التفكير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المشكلة ليست في تقديس الدين بل في من يريد تكريسه
نور الحرية ( 2017 / 9 / 3 - 19:34 )
مشكلتنا في من يريد تكريس الدين على كل مناحي الحياة وان يجعل من تفسير الشيوخ له الوكيل الحصري لكل ما يحصل من حولنا وليست مشكلتنا في من يريد تقديس الدين

اخر الافلام

.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج


.. 101-Al-Baqarah




.. 93- Al-Baqarah


.. 94- Al-Baqarah




.. 95-Al-Baqarah