الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشيطان في مواجهة يسوع

حسن محسن رمضان

2017 / 9 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




كل نص مقدس، حتى وإن كان في صلبه أسطورياً أو مُخترعاً، فإنه يحمل في رحمه بذرة لـ "ظرف" مجتمعه وثقافته ومواضيع صراعاته، ويحمل أيضاً العوامل المؤثرة على أفكار كاتبه ونفسيته وضغوطات محيطه عليه، ويحمل الخطوط العامة لشخصيته وقدراته وموضوع إيمانه وكفره، ويحمل أوهامه وخيالاته، ويحمل أسلوب خداعه أو مفردات صدقه. ولهذا السبب بالذات فإن دراسة النص المقدس وتفكيك سرده الأسطوري يحمل أهمية في الدراسة التاريخية للمجتمعات التي نشأ فيها وتجلى أول مرة. وحتى أضرب مثالاً مختصراً على عملية التفكيك هذه كخطوة أولى لاستخدامها للوصول إلى "تصور تاريخي" لظرف كاتب أساطير "العهد الجديد" ومجتمعه فإنني سأستخدم أسطورة امتحان الشيطان ليسوع الموجودة في الأناجيل.

أول تجلٍ لهذه الأسطورة كان في حوالي سنة 70 ميلادية، أي بعد حوالي أربعين سنة مِنْ مقتل يسوع. فقد وردت الأسطورة أول مرة في إنجيل مرقس [لاحظ أن كاتب هذا الإنجيل مجهول الهوية، واسم "مرقس" إنما هو من وضع القرن الثاني الميلادي، ولاحظ أيضاً أن ترتيب العهد الجديد للأناجيل والرسائل هو ليس ترتيب تاريخي]. في إنجيل مرقسلم يتعدى سرد الأسطورة سطراً واحداً:

(وكان [أي يسوع] هناك في البرية أربعين يوما يُجرَّب مِن الشيطان. وكان مع الوحوش. وصارت الملائكة تخدمه)
[مرقس 1: 13]

بعد حوالي عشر سنوات من ذلك التاريخ، أي في حوالي سنة 80 ميلادية، جلس كاتب آخر مجهول الهوية أيضاً ليكتب إنجيله وأمامه نسخة مكتوبة من إنجيل مرقس.سُميّ هذا الإنجيل في القرن الثاني الميلادي بـ "إنجيل متّى". هذا الكاتب كان ينقل مباشرة من (نسخة مكتوبة أمامه لإنجيل مرقس). كان ينقل أحياناً حرفاً بحرف وكلمة بكلمة وسطراً بسطر وتعبيراً بتعبير، ولكنه أباح لنفسه أيضاً أن يزيد وينقص، يُحوّر ويطور، يُغيّر ويُبدل، على إنجيل مرقس، بل إنه لم يرَ بأساً حتى في أن (يخترع) نصاً من خياله ومِن ثم ينسبه لـ "الأنبياء" في العهد القديم، الكتاب اليهودي المقدس، ولا وجود لهذا النص إطلاقاً [متى 2: 23]، فهو "اختراع خيالي" تولاه كاتب إنجيل متّى. وعندما أتى كاتب إنجيل متّى لعبارة إنجيل مرقس: (وكان [أي يسوع] هناك في البرية أربعين يوما يُجرَّب مِن الشيطان)، رأى فيها كلاماً عاماً يحتمل التأويل على وجوه متعددة، فأضاف تفاصيل عدة لهذه العبارة وليخلق منها اسطورة قصصية، ولكنها، ومن دون وعي منه أو قصد، حملت الأسطورة التي اخترعها شيئاً من "السذاجة المنطقية والمعرفية" كما سنرى أدناه، ثم اشتهرت القصة من بعده بين المؤمنين بهذا الراباي اليهودي المصلوب كإله جديد. فهو، أي كاتب إنجيل متّى، (وقع في مشكلتين طريفتين وخطيرتين في آن واحد)، تلك المشكلتين، عند تفكيك أسطورته التي اخترعها، أفادت الباحث من جهتين، فهيأثبتت اختراع القصة من جهة، ومن جهة أخرى أفادت البحث التاريخي في ظرفه وظرف مجتمعه. لنقرأ القصة في إنجيل متّى والتي اشتهرت من بعده، ومن ثم لينقلها أيضاً كاتب إنجيل لوقا بعده بحوالي خمس إلى عشر سنوات، أي حوالي سنة 85 – 90 ميلادية:

(ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس. فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة، جاع أخيراً، فتقدم إليه المجرب [يقصد الشيطان - إبليس] وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً. فأجاب وقال: مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك. قال له يسوع: مكتوب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك. ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي. حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. ثم تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه)
[متى 4: 1-11]

ذلك السطر الوحيد في إنجيل مرقس تطور إلى "قصة سردية" ذات عناصر محددة في إنجيل متّى. الحادثة، والسرد، وبناء القصة، والشخصيتين الوحيدتين الظاهرتين باسميهما: الشيطان ويسوع، كل هذه العناصر تُريد أن تشرح محتوىً محدداً عن (معنى عبارة عامة) وردت في قصة إنجيل مرقس وهي:
(يُجرَّب مِن الشيطان) [مرقس 1: 13].
هذه القصة (تولّدت من حاجة ضمن الفضاء الديني الذي كان يحيط بكاتب إنجيل متّى يُلخصها السؤال:
كيف يَمتحن [يُجرِّب] الشيطانُ إلهه الذي خلقه؟!!!
هذا هو (الهدف الحقيقي) من وراء اختراع هذه الأسطورة، وهو يعكس بدوره الأسئلة المحيرة، ضمن أخرى كثيرة جداً، التي مر بها اللاهوت المسيحي لحل إشكاليات تحويل راباي يهودي كان يصرخ على الصليب معتقداً أن إلهه قد تركه إلى "إله" ضمن ثالوث توحيدي(!). وكاتب إنجيل متّى كان (يعتقد) أنه قد حلّ الإشكالية، فإذا به قد وقع بأخرى كما سنرى أدناه

إشكاليات أسطورة إنجيل متّى هذه كثيرة، ولا تحتملها مقالة واحدة بالتأكيد، ولذلك سوف أختصر لأركز على المهم منها فقط، وهو أكثرها (طرافة) بالمناسبة.

تناقض الموقف الإلهي مع السرد الأسطوري:

وهذا هو (الطريف جداً) في هذه الأسطورة، فهي (في بنيتها الأساسية متناقضة). الحادثة التي تريد أن تشرحها هذه الأسطورة هي (متناقضة) مع سردها للوقائع. فيسوع في إسطورة إنجيل متّى يقول للشيطان: (لا تجرب الرب إلهك) مقتبساً بذلك نص العهد القديم وعبارة سفر التثنية: (لا تجربوا الرب إلهكم) [تثنية 6: 16]، أي أن (إله العهد القديم يرفض أن يخضع للتجربة)، كذا وبصورة حازمة جازمة لا لبس فيها ولا استثناء أو حتى تراجع. إلا أن الواقعة كلها التي تسردها الأسطورة في إنجيل متّى هي باختصار:

خضوع الرب [أي بشخص يسوع في العقيدة المسيحية] لتجربة مخلوق، وليس أي مخلوق، ولكن لتجربة "الشيطان" ذاته. فالرب اليهودي، ضمن هذه القصة، ولأول مرة في السرد اليهودي الأسطوري الذي حوّره المسيحيون الأوائل لصالح يسوع، قد خضع لتجربة الشيطان وتراجع صراحة دون لبس عن تعليمه: (لا تجربوا الرب إلهكم) [تثنية 6: 16].أي أن الواقعة التي تريد أن تشرحها الأسطورة والسرد القصصي الذي يقتبس تعاليم العهد القديم هما (متناقضان).

بل إن كاتب إنجيل متّى يذهب أبعد من ذلك في خلال اختراعه لتفاصيل تلك الأسطورة. ففي مقدمة الأسطورة في إنجيل متّى، نقرأ: (ثم أُصعد يسوع إلى البرية مِن الروح ليُجرّب من إبليس). كاتب إنجيل متّىيضع أحد الثلاثي الإلهي المسيحي، الروح القدس، في موضع (اقتياد) عضو آخر في هذا الثالوث الإلهي المخترع، يسوع، إلى الشيطان المناقض القِيَمي للإله، ليُخضعه للتجربة والامتحان. كاتب إنجيل متّى (لم يكن موفقاً في اختيار حبكته القصصية، ولا كلماته، ولا سرده، ولا اقتباساته التي كان يضعها على لسان يسوع في هذه الأسطورة). فأسطورة إنجيل متّى تضع تعاليم الرب من جهة، وتصرفات هذا الرب من جهة أخرى، على طرفي نقيض.

إلا أن الأطرف أن هذا الرب [أي يسوع في العقيدة المسيحية] نراه (منقاداً تماماً لمشيئة الشيطان، وليس فقط للروح كما في مقدمة الأسطورة). فلنقرأ العبارات في إنجيل متّى:

"ثم (أخذه) إبليس إلى المدينة المقدسة، (وأوقفه) على جناح الهيكل [...] ثم (أخذه) أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، (وأراه) جميع ممالك العالم ومجدها" [متى 4: 5 و 8]

الشيطان هو (الذي يأخذ) الإله في هذه الأسطورة، والشيطان هو (الذي يوقِف) الإله، والشيطان هو (الذي يُري) الإله. وعلى عكس ما يبدو في ظاهر القصة فإن الشيطان قد (أخضَع) الإله المسيحي، أي يسوع، لإرادته: [أخذه، أوقفه، أراه]، وهو، أي الشيطان، (هو الذي تولى ذاهباً وكان يضحك على خديعته لهذا الإله في نهاية أسطورة إنجيل متّى). الشيطان قد خدع الإله المسيحي، وجعله، ولو مرحلياً، رهن إرادته وذلك من دون أن يعي الإله المسيحي ذلك.

الإله المسيحي يبدو وكأنه (مسلوب الإرادة)، ولو جزئياً، أمام (تجربة الشيطان له). هذا الإله الجديد (يبدو متناقضاً) ليس فقط مع شخصيته في العهد القديم، وليس فقط مع تعاليمه في العهد القديم، ولكن مع (إرادته ذاتها) التي تقف على النقيض من إرادة الشيطان. لكن الأمر لم ينتهي عند هذه النقطة. لم يكن "الشيطان" ليكتفي بذلك في مواجهة يسوع.

الشيطان، في إسطورة إنجيل متّى، كان يملك ما لا يملكه هذا الإله: (ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي) [متى 4: 8-9]. هذا شيطان كان يُساوم الإله ليسجد له، مقابل (رشوة)(!!) يقدمها الشيطان لهذا الإله الفاقد لـ "ممالك العالم ومجدها".

ألا يعني أن مجرد إقدام الشيطان على محاولة (رشوة الإله مقابل السجود له) أن ذلك كان خياراً (محتملاً قابلاً للوقوع؟)(!!!). هذا إله، من وجهة نظر الشيطان، كان قابلاً للرشوة، إلا أن الخِلاف بينه وبين الشيطان (كان على الشرط فقط) بدليل رد يسوع عليه: (اذهب يا شيطان لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد) وليس على مبدأ الرشوة. وهذا هو وجه طرافة الأكبر في هذه الأسطورة ركيكة الحبكة، أن الشيطان قد أثبت بصورة غير قابلة للشك أن هذا الإله الجديد كان قابلاً للرشوة، لكن كل ما عليك أن تفعله أن تتفاوض معه على الشروط. هذا شيطان كان متفوقاً في ذكائه على إله العهد الجديد. هذا شيطان كان "يسخر" من هذا الإله اليهودي الجديد المصلوب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اذهب يا شــــــــيطان لانه مكتوب ... الخ
كنعان شـــماس ( 2017 / 9 / 9 - 21:28 )
تحية يا استاذ حسن محسن رمضان . العقيدة ســـلاح مالم تطور وتصقل تتصداء وتندثر . ونحن في المسيحية ( الكاثوليكية الجامعــة ) نفعل ذلك وياحبذا تقراء ( الكتاب الشريف ) وهو انجيل طبع بموافقة الفاتيكان سترى اعجب مما حيرك اعلاه . نحن نوءمن بان للسيد المسيح طبيعتان انسانية والهية . وقد جرب بالاولى . وتستطيع ان ترى ذلك فهو لم يقل اذهب ياشيطان لانه مكتوب لي وحدي تسجد بل قال كانسان .(( للرب الهك تسجد واياه وحده تعبد )). اما مايكدركم من الثالوث فنحن نوءمن ان الله تجلى للبشـــــر في ثلاث كيانات او صور . الله الازلي خالق الكل وروحه القدوس الذي اوحى او كلم الانبياء ثم في شخص السيد المسيح في الحالات التي قدرها الله وهذه مسالة ايمانية لماذا تنزعجون منها ؟ واخيرا لايليق بمثقف ان يستعمل تعابير جارحة بحق السيد المسيح والملايين من المسيحيين في العالم اجمع . تحيـــــــة


2 - حسن محسن رمضان
نصير الاديب العلي ( 2017 / 9 / 10 - 19:00 )
ليس هناك اساطير وقصص ابدا لانك لا تؤمن فهكذا تتصور فمرقس هو احد الشهود والحضور الدائم والمرافق الدائم وتلميذ وكاتب وشاهد لافعال السيد المسيح والإسلام علمنا ان المسيح هو روح الله وذو أفعال عجيبة ما لم يقدر نبي اخر فعلها و لا نبيك أيضا
الذي نقل القصص الخرافية الذي خدعنا به وخدع المسلمين هو من ادعى انه اخر الأنبياء
https://www.youtube.com/watch?v=3q6mqBP3rE4

اسمع الحديث الكامل كيف صاحبنا كان يخدع اهل الجزيرة ويصور لهم الجنة كذبا ...ارجوك ان تسمع هذه المحاضرة

https://www.youtube.com/watch?v=_bx2uRqCerE

اما فعله كان هذا فانكشف
https://www.facebook.com/arnabdulold/videos/10210199151838456/


3 - تم اختياركم ممثلاً لمؤسسة قوس قزح
أفنان القاسم ( 2017 / 9 / 18 - 10:29 )
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=572460

اخر الافلام

.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية من قوات الاحتلال


.. لايوجد دين بلا أساطير




.. تفاصيل أكثر حول أعمال العنف التي اتسمت بالطائفية في قرية الف


.. سوناك يطالب بحماية الطلاب اليهود من الاحتجاجات المؤيدة للفلس




.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية