الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليس بالجبن وحده يحيا الإنسان

عبدو أبو يامن

2006 / 2 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ليس بالجبن وحده يحيا الإنسان العربي، سواء :أكان جبنا دنمركيا أو فرنسيا، وليس على أوروبا وحدها يعتمد الإنسان العربي، هذا ما علينا تحقيقه والعمل له في المنظور القريب وعلى المدى البعيد.
لذلك يجب فك الارتباط الأبدي الذي شددنا أنفسنا به إلى أوروبا، اقتصاديا وسياسيا وقانونيا وثقافيا وتجاريا. فالقانون إما فرنسي هو أو إنجليزي، والمناهج وأساليب التدريس والخطط التعليمية إما فرنسية، أيضا، أو إنجليزية، والثقافة إما سكسونية أو لاتينية، واللغة إما فرنسية أو إنجليزية، وأحيانا لغات أوروبية أخرى كالألمانية والإسبانية وغيرها، وهكذا وهكذا..
ما الذي جعل العرب مرتبطين بهذا الرابط الوثيق الذي لا ينفصم إلى أوروبا؟
وما الذي جعل المغلوب مبهور بثقافة الغالب؟
وما الذي جعل الضحية واقعة في حب الجلاد؟
هل هو نوع من الحب المرضي؟ أم هل هو نوع من ( المازوخية ) التي تتلذذ بإيقاع الألم بها وتستمع بالقسوة تفرض عليها؟
وهل يصدق على هذه الحالة مقولة ابن خلدون التاريخية الشهيرة: ( من أن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب) ؟
فالغرب، وتحديدا فرنسا وإنجلترا، منذ حملة ( نابليون بونابرت) على مصر في أواخر القرن الثامن عشر وهو القيم على حياة العرب، والمتحكم فيهم سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، وهو المثل والقدوة، وهو بصيص النور في نهاية نفق التخلف العربي والظلام العربي، هذا كان هو التصور السائد لدى الشريحة الكبرى من المثقفين والمصلحين والمفكرين وعلماء الدين.
ولعل الباحث المنصف يستطيع أن يتلمس لهم عذرا مقبولا في نظرتهم تلك؛ فأوروبا كانت السباقة إلى النهضة الحديثة، وأوروبا هي التي استطاعت أن تبث ثقافتها وقيمها وتشيع لغاتها وبالذات الفرنسية والإنجليزية في أرجاء مستعمراتها.
وهؤلاء المبهورون والمعجبون والذين لا يرون خلاصا إلا بأن نسير سيرة الأوروبيين في الحضارة؛ فنأكل كما يأكلون، ونشرب كما يشربون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، ونشغل أوقات الجد بما كانون يشغلون به أنفسهم، ونزجي أوقات الفراغ بما كانوا يرفهون به على أنفسهم، ونعلم أولادنا كما كانوا يعلمون أولادهم، ونقرأ من الكتب ما كانوا يقرأون، أقول: هؤلاء كان لهم بعض العذر؛ فالزلزال الذي حدث حدث بين أيديهم وتحت أقدامهم، والبركان الذي انفجر انفجر في ساحتهم وأصم آذانهم وأعمى أو كاد يعمي أبصارهم..
ثم هذه الحضارة الأوروبية هي حضارة جديدة فاتنة مغرية لعوب مبهرة، في مقابل حضارة قديمة عتيقة بالية متهالكة قد طال سباتها وعلاها غبار الإهمال والنسيان والجمود، أو هكذا يظن على الأقل بها.
حضارة جديدة فاتنة بفنونها وآدابها ومسارحها وملاعبها، وفاتنة بمخترعاتها ومنتجاتها، فاتنة في جدها وفي لعبها، ومبهرة في قوتها وعنفوانها، ومبهرة في سلمها في حربها.
هذا الحضارة الأوروبية كانت جديرة بأن تخلب الألباب، وتعشي الأبصار وتصم الآذان، وكانت خليقة بأن يروها الخلاص الوحيد من حالة التخلف والجمود والموت الذي يعيشونه إن كان الموت يعاش.
وعين المبهور والمعجب كليلة عن أن تبصر العيوب أو تلتفت إليها، وهذه المرحلة هي، إذا قسناها بمراحل عمر الإنسان، هي مرحلة الطفولة الحضارية، هذه الطفولة التي تعجب بكل جديد يلج عليها حياتها حتى إذا اختبرته وبلته وعرفت أصله وفصله وزالت عن عينيها غشاوة السذاجة وبردت في نفسها طرافة الجديد وفتنته تنبهت إلى ما كان عن عينها خافيا، وفطنت إلى ما كانت عين الرضا تزينه، فعافت ما أحبت، وملت ما كانت به مبهورة، هذه هي طبيعة الأشياء ومنطق الأمور.
وإذا كان هذا المتوقع في أول اتصال لهم بهذه الحضارة، وفي أول تجربة لفتنتها، فليس من المتوقع أبدا ولا من المنطقي أبدا ولا من المعقول أبدا أن يغضوا الطرف عن مآسيها وما أكثرها، وأن يتناسوا جرائمها وما أبشعها، وتجاوزاتها وما أخطرها، ومخالفاتها للذوق الحضاري والعرف الإنساني والقيم الإنسانية وما أكثر ما خالفت كل ذلك.
جرائم على مستوى الأرواح؛ فالجزائر بلد المليون شهيد، هذا المليون قتل على يد القوات الفرنسية، وقل مثل في سائر أقطار العالم من المحيط إلى الخليج، من الشمال الأفريقي ومرورا ببلاد الشام وبلاد الرافدين وانتهاء بمصر.
أضف إلى ذلك نهب الثروات وامتصاص الخيرات، وتأجيل النهضة العربية عن القيام وذلك من جراء مواجهة الاحتلال والضريبة التي يقدمها الشعب من حياته وماله وقوته، وسلخ للهوية الوطنية، والمحاولات المستميتة للقضاء على التراث العربي والثقافة العربية واللغة العربية، وتفريغ العقول من معاني العزة والكرامة والاستقلال، وغرس النخب الحاكمة والمثقفة وتوليتهم المناصب الإدارية، ومراكز السلطة ومواقع القرار، والدفع بالنخبة المثقفة المستسلمة التي تربت على أيديهم وتشربت أفكارهم وقيمهم إلى كراسي القيادة الفكرية والثقافية والإعلامية في الصحافة والجامعات والإعلام.
هذه النخب والقيادات الفكرية والسياسية هي كانت رأس الحربة المتقدم للاحتلال والاستعمار، وهي التي كانت تمهد الأرض، وتهيئ النفوس والعقول وتجعلهما قابلين للاختراق، وتزين للسذج وطلاب الشهرة والمتسلقين على أكتاف القيم والمبادئ العمل لصالح الأعداء والتخندق في خندقهم والمحاربة على جبهتهم، مستغلين في ذلك مواقعهم وشهرتهم ومكانتهم وثقة الشعب بهم كونهم منهم وفيهم، ومن بني جلدتهم كما يقولون.
هذا التاريخ الاستعماري البغيض، وهذه الحملة عليه لا يعني عدم الاستفادة منه ومن حضارته وتقدمه، هذه الاستفادة التي تفرضها طبائع الأشياء وقوانين التطور، وتؤكدها وثائق التاريخ وتجارب الأمم.. ولكن أن تكون الاستفادة من موقع القوة لا الضعف، ومن موقع الحرية لا الجبر، الحرية التي تبقي على ما يصلح لنا وتنفي ما عداه، الحرية التي تجمع بين أصالة الماضي وحداثة الحاضر، وهي الحرية التي تعرف معنى العزة والكرامة والاستقلال.
لذلك آن الأوان للتوجه صوب الشرق، الصين والهند وماليزيا واليابان؛ فقد جربنا الغرب عقودا وعقودا، وبلوناه قرن في أثر قرن، فما زادتنا التجارب إلا يأسا وإحباطا وخيبة؛ فالنظرة إلينا هي ذات النظرة لم تكد تتغير، والعداء التاريخي هو ذات العداء لم يكد يزول، والخوف المرضي ( فوبيا) من الإسلام والعروبة هما هما، والكراهية المتأصلة منذ الحروب الصليبية وما قبل الحروب الصليبية هي سيدة الموقف.
هذا هو الغالب وهذا هو التي تثبته الأفعال الواقعة الواقعية، لا الأقوال التي تلبس لبوس الكذب والرياء، وتتدثر بدثار الدبلوماسية الناعمة، وإن كان ملمسها هو بملمس الثعابين أشبه.
وإلا ما معنى هذه الحملة الشعواء الظالمة على كل ما هو إسلامي وعربي، بحجة محاربة الإرهاب تارة، ومقاومة التطرف والعنصرية تارة ثانية، والقضاء على خصوم الحضارة وأعداء التقدم تارة ثالثة؟
وإلا ما معنى معتقل ( جوانتانامو ) ، وما حدث ويحدث في سجن ( أبي غريب ) والمعتقلات السرية الأمريكية المبثوثة على خارطة العالم؟
وإلا ما معنى محاربة الرموز الدينية وتدنيس المقدسات الإسلامية والاستهزاء، وإهانة كل ما هو عربي وإسلامي، في الوقت الذي تمتنع فيه الصحيفة الدنمركية سيئة السمعة( جيلاندز بوستن ) قبل ثلاث سنوات عن نشر رسوم مسيئة للمسيحية؟!!
وإلا ما معنى المطاردة للعرب والمسلمين في كافة أرجاء العالم، والاحتجاز من غير توجيه تهمة، والسجن من غير محاكمة، والإجراءات التعسفية التي تتخذ ضدهم في المطارات ومراكز الشرطة وأقبية المخابرات؟!!
آن الأوان _ إذن _ للتوجه تلقاء الشرق فهو أقرب إلينا من ناحية الإرث الثقافي، والبعد المعرفي، والتركيبة النفسية، وهو أقرب إلينا في المرجعية والنموذج، هذه المرجعية القائمة على الحدس، والإيمان بالماورائيات ( الميتافيزيقيا ) ، وهو – فضلا عن ذلك – ليس بيننا وبينه كل هذا التاريخ الحافل بالاستعمار والاستغلال، وأنهار الدم التي جرت في فلسطين والعراق ومصر وبلاد الشام عامة وغيرها من بلاد العروبة، وليس بيننا وبينه – كذلك – حروب صليبية تقفز إلى الأذهان وتقف حجر عثرة كلما لاحت في الأفق بوادر تفاهم أو تقارب.
ثم إن الشرق لم يصدر إلينا مشاكله، ولم يتخلص من كوارثه على حسابنا، كما تخلص الأوروبيون حين زرعوا الكيان الصهيوني في قلب العروبة أرض فلسطين الطاهرة، معيقين بذلك كل محاولات النهوض والتقدم، ومجهضين بذلك كل مشاريع التحرر والاستقلال والإصلاح بحجة وجود إسرائيل في المنطقة كأكبر مهدد للأمن فيها.
وإذا كانت أوروبا تفاخر بعراقتها في التاريخ، ووراثتها لتراث اليونان والرومان فإن الشرق، وبشهادة المنصفين، أعرق عراقة وأرسخ قدما في ميادين الحضارة الإنسانية والمدنية، لولا عمليات الطمس والتجاهل والإهمال واللامبالاة التي مورست بحق هذه البقعة من العالم؛ حين استولت على دوائر البحث والإعلام والجامعات، ومراكز المعرفة ودور النشر عقلية غربية أحادية إقصائية لا ترى لونا إلا اللون الأبيض، ولا تقر بشيء إلا إذا كان يونانيا أو رومانيا، إما جهلا أو تجاهلا، أو عصبية وعنصرية بحسن نية حينا وبسوئها أحيانا أخرى.
فآن الأوان – إذن – للإسراع في هذا التوجه؛ وليعلم هذا المسئول الدنمركي أن العرب لن يموتوا جوعا إن قاطعوا أجبان بلاده ومنتجاتها كما يزعم، والأمر قائم بعد على المصالح المشتركة والتبادل التجاري والاحترام المتبادل وحرية البيع والشراء، إما أن نضرب على أيدينا ونساق بالسوط والكرباج لكي نبتاع منتجاتهم ونستهلك صادراتهم مكرهين لا طائعين ومجبرين لا مختارين فهذا ما لم نسمع به في القديم ولا في الحديث، ولعله ليس ببعيد أن يحدث هذا في هذا الزمن الحاضر العجيب المليء بالعجائب!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دار الإفتاء تعلن الخميس أول أيام شهر ذى القعدة


.. كل يوم - الكاتبة هند الضاوي: ‏لولا ما حدث في 7 أكتوبر..كنا س




.. تفاعلكم | القصة الكاملة لمقتل يهودي في الإسكندرية في مصر


.. عمليات موجعة للمقاومة الإسلامية في لبنان القطاع الشرقي على ا




.. مداخلة خاصة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت