الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إدوارد سعيد.. الانتفاضة الثقافية

حسن اسماعيل

2017 / 12 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تحت هذا العنوان صدر في فرنسا، هذا العام، آخر ما كتب عن إدوارد سعيد الذي ما زال يثير الجدل بعد 14 عام على رحيله. في مقدمة الترجمة العربية يصف د.محمد الجرطي سعيداً (كونه نموذجاً للمثقف المسؤول والملتزم بقضايا الإنسانية للدفاع عن الحق والقيم الديمقراطية وتمثيل صوت المهمشين، وهي المهمة الفكرية والأخلاقية التي اضطلع بها سعيد باقتدار ملفت للنظر في مساره الفكري). ويرى الجرطي أن كتاب الاستشراق (يعد تحولاً جوهرياً في علاقة الشرق بالغرب، لأن سعيد قام بجرد لتقليد معرفي غربي متعالٍ، وقد تأسست قطيعة معرفية بمناسبة صدور كتاب الاستشراق سنة 1978 حيث نجد أنفسنا أمام مثقف عربي فلسطيني في مواجهة تقليد معرفي غربي).
يرى المؤلف إيف كلفارون (المتخصص في الدراسات الثقافية وخطاب ما بعد الكولونيالية) في كتاب الإستشراق (تفكيكاً منهجياً للهيمنة الغربية) ويقرر بأن علاقة سعيد بالأدب والنقد الأدبي تميزت أولاً أن الأدب ليس ظاهرة مجردة بل يندرج في سياق ثقافي وتاريخي، وأن البحث الشكلي والفني ليس بمقدوره اجتثاث التجربة والمعيش الشخصي وثانياً الإقتناع بأن الممارسة الأدبية لاتنفصل عن الحس السياسي. وقد كان سعيد ـ كما يتكلم عن نفسه ـ (مشدوداً ومفتوناً بأولئك المثقفين الذين علموا انفسهم بأنفسهم بإصرار وعناد، كما كان مشدوداً إلى مختلف ضروب أنماط الفكر المتضاربة). ويستنتج كلفارون من ذلك (الشيء الذي أهله لأن يصبح، على نحو ما، ثائراً على المعرفة). والقارئ المتابع لرحلة سعيد يعرف من هم أولئك المثقفين الذين أعتمد سعيد مفاهيمهم وطورها من فيكو وأوروباخ وغرامشي إلى فانون وميشيل فوكو وجاك دريدا وسواهم خاصة وإن أعمال سعيد تندرج في سياق نقد الكولونيالية.
في الفصل الأول من الكتاب (سعيد، مفكر في العالم) تندرج الحياة الفكرية لأدوارد سعيد تحت شعار بداية ثلاثية: أطروحة حول جوزيف كونراد والتي قادته الى منصب أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك. ثم كتاب (البدايات) الذي يعلن عن مجئ ناقد أدبي على اتصال سابق مع المجتمع، وثالثاً وأخيراً سيرته الذاتية (خارج المكان) التي باشر بكتابتها بعد تشخيص اصابته بسرطان الدم العام 1994 والتي شكلت (نوعاً من الكتابة ضد الموت).
من أجل الوصول (مفهوم عمل المثقف الملموس) يتموقع سعيد في خط غرامشي، المفكر الذي يلغي التمييز بين النظرية والتطبيق لتفكيكهما، ويحدد سعيد خيانة المثقفين في النزعة المحافظة النخبوية، التي تتوارى وراء المطالبة بالحياد والموضوعية بإسم الخبرات المتقدمة جداً. ولا يتوقف عن التنديد بفخ التخصص وعبادة الخبرات المهنية التي تشكل قناع الخضوع لأيديولوجيا السلطة. إنه يرفض التخصص الكهنوتي العويص الذي ينتج كل من السكينة والتصوف وانزواء المثقف خارج المجتمع. وهو يدعو إلى (النقد الدنيوي) كنوع من المقاربة لدور (المثقف الهاوي) الرافض للإنغلاق بالتخصصات الضيقة جداً التي تمنع المثقف من الحديث إلى العالم الذي يمارس النقد عليه. أي لابد من الإنغماس التام في شيءٍ ما دون أن يكون محترفاً، وقول الحقيقة إلى السلطة.
يرى سعيد أن المثقف ـ شخصية نادرة ـ يبحث عن الحقيقة والعدالة على حساب مصالحة الشخصية وأن صوته أنفرادي متوحد وان حريته تكمن في صداه، لذلك لايعتبر المثقف (مسالماً ومهادناً، من بناة الإجماع والوفاق) بل يلتزم بحسه النقدي ويرفض السهولة او مجاملة السلطة. ويتعين عليه دوماً أن يحرص على إستقلاليته إزاء السلطة. إندريه مالرو ـ في نظر سعيد ـ توقف عن أن يكون مثقفاً حيث أضحى وزيراً للثقافة في عهد ديغول.
في الفصل الثاني المعنون (سعيد الناقد المقارناتي) جاء كتاب (البدايات: القصد والمنهج) كعمل نقدي مقارناتي تماماً يفحص فيه إدوارد سعيد سلسلة كاملة من الكتاب والفلاسفة الأوربيين ويتأمل في شروط وأوضاع الأدب والنقد من خلال التساؤل الأبستمولوجي.
أن تقليد الأدب المقارن الأوروبي هو تأثير فقه اللغة الذي يطالب به سعيد. وبتعبيرٍ آخر، الدراسة التاريخية والمقارنة لتطور اللغات. الأدب المقارن مجال تخصصي تأثر بقوة بأعمال الفيلولوجيين المتخصصين في اللغات الرومانسية (لغات مشتقة من اللاتينية) مثل أريخ أوروباخ الذي يكن له إدوارد سعيد إعجاباً كبيراً وقام بترجمة كتابه (المحاكاة) وهو العمل الذي يتتبع فيه أوروباخ بوعي قد لايتاح مرة أخرى التطور التام للأدب الأوروبي منذ هوميروس إلى فرجينيا وولف.
في كتاب الإستشراق وبغية الوصول إلى تحليل الخطاب الكولونيالي يتبنى سعيد منهجاً مقارناتياً مشتغلاً على متن من النصوص المكتوبة بالانجليزية والفرنسية (أحياناً بالألمانية أو الإيطالية). وينقل سعيد منهجيات مقارناتية إلى مجال الدراسات الثقافية مسهلاً أختراق الحدود بين الدراسات الأدبية والثقافية. هو يرغب بإقامة قطيعة مع ما يسميه (شرنقة التخصصات) أو (غيتوهات التخصص) وهو ما يجعله يخترق المجالات القائمة خارج تخصصه. ويرى البعض أن هذه الإنتقائية التي أرتبطت غالباً بصورة الناقد المقارناتي بمثابة خطيئة كبرى!
من المفارقات ان دراسة الأدب المقارن قد نشأت في مرحلة الأمبريالية الأوروبية. ويربط سعيد تطور هذا الأدب بظهور الجغرافيا الأمبراطورية الأستعمارية، الشيء الذي يقوده الى اعتبار الأدب المقارن بمثابة (تابع للأمبراطورية) كما هي الأنثروبولوجيا والأثنولوجيا المساعدين المتحمسين للنزعة الأستعمارية. أن روح الإنفتاح التي تحكمت في فكرة الأدب العالمي عند غوته تحولت الى كونية متمركزة أوروبية. في نهاية المطاف تشكل قيم أوروبا نزعة كونية يتم تصديرها نحو الدول المهيمن عليها ثقافياً. إذاً تزامن الأدب المقارن مع فكرة التفوق الأوروبي وفي النهاية مع مأسسة هامشية الهامش. وهكذا فليس بمقدور الأدب المقارن ان يستعيد طموحه الأول وأن يتحرر إلا في إطار ما بعد كولونيالي حيث الآفاق لم تحتكر من طرف الغربيين.
الفصل الثالث: سعيد والعالم ما بعد الكولونيالي، يعتبر إدوارد سعيد الأب المؤسس للدراسات ما بعد الكولونيالية حيث أصبح ايقونة رمزية لروح الثورة. وهو يحتل مكانة أصيلة في الثالوث ما بعد الكولونيالي المؤلف منه وسبيفاك وهومي بابا، وربما أكثر من ذلك عند المفكرين ما بعد الكولونياليين. وحمولة كتبه وأبعادها تبقى سياسية، وتشهد على التزام بالمعنى السارتري للكلمة.
يبقى المجال المفضل لأدوارد سعيد هو مجال الأمبراطورية التي يجب أعادة تشخيصها. ويؤمن سعيد بالقدرة السياسية للفعل في العالم وهي القوة التي يتحدث عنها غالباً منظرو ما بعد الكولونيالية. يعتمد سعيد الأنسنية النقدية في أفكاره ورؤاه المجردة من نزعة التأورب، بينما تصر سبيفاك (زميلته في الثالوث) على تفكيك الذات السيادية الأوروبية المهيمنة، والكشف عن غياب فضاء متروك للتابع للتعبير عن نفسه. ويتفق الإثنان (سعيد وسبيفاك) على استخدام نظريات الخطاب عند ميشيل فوكو: يقابل مفهوم الإستشراق عند سعيد مفهوم (العنف الأبستمي المعرفي) الممنهج للمشروع الأمبريالي عند سبيفاك. وتعترف الأخيرة على كل حال لسعيد بدور الرائد الأول في تحليل الخطاب الكولونيالي عن طريق الإشادة بشكل حماسي (بأعماله الفكرية التي ازدهرت كحديقة يستيطع ان يتحدث فيها الهامشي وان يمثل نفسه بل ويدافع عنها).
القضية الفلسطينية: ظهر كتاب (قضية فلسطين) لأدوارد سعيد العام 1979 بمثابة تطبيق لنظريته الشهيرة حول الإستشراق في منطقة خاصة وتاريخ محدد تميز بالتحول من النزعة الكولونيالية الى النزعة الصهيونية. ويؤكد هذا الكتاب النقدي على حقيقة الوضع الفلسطيني في علاقته مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. كذلك التأكيد على النموذج المثالي في استراتيجية المقاومة ضد خطاب الهيمنة.
يهاجم سعيد بقوة المعادلة الإسرائيلية القائلة (بأن معاداة الصهيونية تعادل معاداة السامية). وهكذا يسقط الصهاينة مشاعر معاداة السامية على العرب الذين كانوا ضحاياها أولاً! وقد تم اختزال الفلسطينيين بسبب الدعاية الإسرائيلية: أنهم سكان جنوب سوريا ولا وجود لشعب فلسطيني حسب غولدا مائير او سكان فلسطين المزعومين حسب اسحاق رابين.
يطلب سعيد ان ينظر إلى الفلسطينيين بأعتبارهم أمة وليسوا شتاتاً من اللاجئين العرب. ويعيد سعيد إدراج اسرائيل في سياق النزعة الإستعمارية الأوروبية، ويشدد على التقارب القوي بين الرؤية الصهيونية الناكرة لوجود العرب والنزعة الأمبريالية البريطانية كما جسدها وعد بلفور 1917. ويلاحظ سعيد في أدب الرحلات الغربي في القرن 19 لاسيما في أعمال شاتوبريان، توين، لامارتين، نرفال، دزرائيلي ـ وهؤلاء ممن ساهموا في تغذية الإستشراق الذي تصدى له سعيد ـ بأن الفلسطينيين شعب موجود، على الأقل بأعتباره حضوراً صامتاً، في حين أن المرشد (بايديكر) يعترف بشكل صريح بوجودهم، حيث قام في سنوات 1880 باحصاء 650 ألف نسمة من السكان العرب.
في كتابه (فرويد وغير الأوروبيين) يبين أدوارد سعيد كيف تحدث المقاومة على مستوى المعارف والعلوم، إذ تجنح الأيديولوجيا القومية الصهيونية إلى تشييد أركيولوجيا إسرائلية بهدف بناء هوية يهودية عن طريق إعادة امتلاك الأرض أي أنها أركيولوجيا أستيطانية تتسم بالإستخدام المكثف للجرافات والإشمئزاز من دراسة تاريخ الشعوب غير الإسرائيلية. وفي مقابل هذه الأركيولوجيا التوراتية، تساهم الأركيولوجيا الفلسطينية في النضال والكفاح من أجل التحرير في تعزيز وتجذير (الرواسب الغنية بشكلٍ كثيف لتاريخ قراهم وأراضيهم وتقاليدهم الشفهية).
في منظور سعيد أن الصراع بين العرب واليهود في فلسطين هو تكرار لصراعٍ قديم بين الغرب والشرق، إنه صراع حضاري. ويبدو سعيد أكثر قسوةً مع الاقليات المسيحية في الشرق الأوسط حين يتهمها بتغذية الصراع ايدلوجياً ضد الإسلام لدى المسيحيين في أوربا عن طريق الصور المقولبة والكليشهات التشهيرية عن النبي محمد كونه "زانٍ، نبي زائف، طالب لذة منافق"، صور سوف يستعيد الصهاينة استخدامها لاحقاً.
في الكتاب المعنون (سياسات السلب: الكفاح من أجل تقرير المصير الفلسطيني) نتيقن من ألتزام سعيد بالقضية الفلسطينية وعلاقته المتضاربة والمتباينة مع ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية التي أقام معها قطيعة في نهاية المطاف لتقديم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني. ويلوم سعيد الدول العربية لأنها لم تقدم سوى دعم بلاغي أجوف وغير فعلي وواقعي للفلسطينيين. كما أنه يعتبر انتفاضة الداخل الفلسطيني 1987 إحدى أكبر الثورات المناهضة للكولونيالية في العصر الحديث. في حين ينتقد بقسوة ياسر عرفات حين (أنحاز عن طيش ولا روية وبطريقة اجرامية إلى صف صدام حسين حين غزت جيوشه الكويت وقامت بضمها: كان ذلك الموقف أحد أكبر الأخطاء الستراتيجية لعرفات). كما ينتقد الزعيم الفلسطيني بشكل حاد على توقيعه لإتفاقيات اوسلو سنة 1993.
انتهى المطاف بأدوارد سعيد بأن اصبح (مثقفاً دون تفويض) حسب تعبير الكاتب الألمالي غونترغراس بعد قطيعته في نهاية 1993 مع عرفات الذي اتهمه سعيد بالفساد وخيانة القضية الفلسطينية. وقد قام عرفات برد فعل أنتقامي حين منع تداول كتب ادوارد سعيد وبيعها في الضفة الغربية وقطاع غزة.
2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل