الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقديس النص إلغاء الواقع

فراس سعد

2006 / 2 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بعدما يتناول العربي عقيدته على أنها حقيقة كلية أو مطلقة يندفع إلى تقديسها لأنها "حقيقة مطلقة" وهذه الحقيقة التي يقدسها تكون غالباً إما نص نقلي (كتاب مقدس) أوفكرة فلسفية أو نص وضعي في أدبيات حزب ما.
وتقديس النص يعود إلى تقديس المصدر الذي وضع النص واعتباره مطلقاً في القيمة والقدرة حيث يتحول النص بدوره إلى مطلق في القيمة والقدرة ويتلازم تقديسه مع تقديس المصدر – الإله. لكن تقديس النص تاريخياً، ومن خلال تجربـة الإنسان المعروفة، كان متوجهاً نحو شكل النص باعتباره وحياً فقط، ولم يتجاوزه إلى تقديس مضمونه، أي لم يتم الالتزام بمضمون النص المُقدّس، وهنا مفارقة؟
فالنص والعقيدة المقدسان في النظام الديني – الشرق – عربي الذي يعتمد الوحي والرسول و..، يضمنان رفع الإنسان فوق المخلوقات، ويجعلان منه مخلوق الإله المدلّل والأحب، بل يجعل بعضها الإنسان شبيه الإله ويدعوه لمحبة أخيه الإنسان وعدم أذيته، ويضمن له حقوقه الأساسية في العيش بسلام وحرية وكرامة ويدعوه للمسالمة ونبذ العنف والإجرام والكره.. مع ذلك وعلى الرغم من كون هذه المبادئ تدخل في صلب النص المقدّس وهي مبادئ إلهية وأوامر موجهة للإنسان الملتزم بهذه النصوص والعقائد، مع ذلك جاءت ممارسة هذا الإنسان لتثبت عبر التاريخ أن إنسان التديّن في أديان الشرق العربي – المسيحية والإسلام وغيرهما.. هذا الإنسان المتدين خرج على مبادئ ومسلّمات هذين الدينين إما لعدم وعي المتدينين بموضوع وفحوى النص أو لجهلهم تفاصيله.
فالمتدين المسلم يقدّس القرآن ويقّبلَه كلما حصل تماس بصري معه لكنه – لظروف العصر ولانشغالات المعيشة ربما، قد يجهل أغلب ما فيه من دعوات لإعمال العقل والتفكير ومحبة الآخرين والتعاون معهم وصلة الأرحام.. وبهذا فتقديس القرآن يتحول إلى تقديس الكتاب المطبوع، كتاب الورق والغلاف المزركش، وتقبيله لا يعدو عن تقبيل أي شيء نحبه ونحترمه "تقبيل قداسة" لكن هذا لا يعني معرفته أو وعي تعاليمه وتدبّرها، فالتقديس يكون غالباً على حساب العمل بتعاليم المقدّس وإن كان من العدل التفريق بين تقديس واع يمارسه قلة من المتدينين المثقفين وبين تقديس آخر وهو الغالب على جمهور المؤمنين يمكن أن نسميه "التقديس المُغلَق"، وهو تقديس النص بطريقة أدت وتؤدي إلى تحجميه وتجميده وتحويله إلى (تابو)، تقديسٌ وضع النص في قالب حديدي عزله عن الناس وعزله عن العقل فأبطل نظر العقل إليه وفيه، لأنه جعل النص محل المصدر أي الإله، والإله لدى العابد ليس محل تفكير أو نقاش. هكذا حصلت قطيعة عقلية بين جماهير "المُقدسين" والنص المقدَّس، سواء كانوا متدينين يقدسون نصاً إلهياً نقلياً، أو كانوا حزبيين يقدّسون نصاً وضعياً عقلياً، لقد أصبحت العقائد السياسية الكبرى – في البلاد العربية مثلاً – بمثابة أديان وتحولت أدبياتها إلى نصوص مقدسة، ورُفِع واضعوا نصوصها العقائدية إلى مرتبة الآلهة المقدسة. إن نفسية الشرقي تميل إلى تقديس الموضوع الذي تحبه سواء كان شخصاً أو نصاً أو جماعة أو حزباً.. ويبدو أنها رُكِّبت على أساس الميل والانجذاب إلى الموضوعات والأشخاص انجذاباً عاطفياً أكثر من ميل صاحبها – الشرقي العربي – إلى التفكير الموضوعي في ماهية الموضوعات والأشخاص ولهذا بالضبط يتعصّب العربي لكل ما يميل إليه من الموضوعات والأشخاص والأفكار تعصباً يصل درجة التقديس وفي نفس الوقت يتعصّب ضد كل من لا يميل إليه تعصّباً يصل درجة النفي والإلغاء والتكفير..
هنا يقع العربي في مطب إلغاء الواقع. فطالما أننا لا نعترف إلاّ بما نحب ولا نحب إلاّ ما نميل إليه فهذا يعني أننا لا نعترف إلاّ بجزء من الواقع، وهذا يعني أن جزءاً آخر قد يكون كبيراً لا يحظى باعترافنا.
فعلى مستوى الاعتقاد (أياً كان موضوع الاعتقاد: سياساً، مذهبياً، فكرياً..) نجد الإنسان العربي يتعامل مع موضوع الاعتقاد أو مع النص الوضعي الذي يتعاطف معه أو يعتنقه كما يتعامل مع المقدس النقلي (أي الكتب السماوية) فيحّول النص الوضعي من نص وُضِعَ من أجل خدمة الإنسان فكرياً أو اجتماعياً.. إلى مقدّس مغلق يغلق معه عقله ووجدانه ويقف عنده وكأنه الثابت الوحيد أو المطلق الوحيد وكل ما عداه عدم أو لا شيء.
يحوّل العربي النص الوضعي إلى مقدس معبود يقدم له فروض الطاعة والولاء تعصباً وجموداً فكرياً وانغلاقاً عقلياً. المفارقة هنا أنه في الوقت الذي نتعصب فيه للنص الوضعي يستمر الواقع في التحوّل باعتبار الزمن عاملاً متحركاً لا يتوقف في مكان أو زمان ولا يتوقف عند اعتقاد وضعي أياً كان، أي لا يتوقف عند النسبي باعتبار أن كل ما هو وضعي هو نسبي. الواقع يتحول باستمرار في الوقت الذي نقف فيه نحن عند نصٍ ما، محاولين إيقاف الواقع أو الزمن معنا، أو نتوهّم أن الواقع يقف مع وقوفنا عند النص ذاته.
تعصّبنا للنص يجعل النص مطلقاً وكل ما عداه نسبياً حتى الواقع نفسه الذي أسهم مع العقل في إبداع النص. بهذا نغيّب الواقع، واقعنا (الآن – هنا) لصالح موقف (الأمس – هنا) أو لصالح موقف (الأمس) عموماً، وبذلك نكون كمن يخون العقل نفسه لأننا نتخلى عن مبدع النص (العقل) لصالح تقديس النص نفسه الذي هو ناتج لا بدّ من استهلاكه عند حدٍ معين وخلال زمن معين ,
هكذا يلغي العربي العقل، يلغي "المصنع" ويبالغ في تقديس النص "المنُتَج". وحينما توقف العربي عند النص الذي لا بدّ من استهلاكه حتمياً. أغلق باب العقل وتوقف "الإنتاج". وفي أحسن الأحوال أعاد إنتاج ذات النص بذات المواصفات شكلاً ومعنى حتى صرنا إلى وقت يتغلب فيه النص المستورد الأحدث لأنه يلبي متطلبات وحاجات الناس المتبدلة والمتطورة، وبذلك تغلّبت "منتجات" الغير على منتجنا، وتوقفنا عن الإنتاج وتكدّست نسخ "نصّنا" المقدّس، وأخذنا في استهلاك نصوص الغير لأنها أكثر إقناعاً لنا وأكثر تلبية لحاجاتنا.
هذا ما حدث ويحدثُ عند العرب والشعوب المتخلفة على الصعيد الفكري. إنهم يستهلكون نصوص الغير بنفس العقلية التي توقفوا فيها عند نصوصهم المقدسة المتحجّرة، أي أنهم أخذوا يمارسون عادتهم الموروثة في التقديس فقدّسوا النصوص المستوردة والسلع المستوردة أيضاً، لكأن العقلية العربية تنبهر بكل ما هو خارج واقعها فتقدّس القادم من الماضي كذلك القادم من خارج الجغرافيا الوطنية، أي كل ما لا يستجيب لواقعها في الزمان والمكان، كل ما هو خارج الـ (هنا – الآن).
إن ذهنية العربي والحال كذلك تلغي الواقع وتلغي الإنسان أيضاً، أي تلغي ارتباطه بالواقع وتحيله إما إلى الماضي أو إلى الـ (هناك)، وفي الحالتين لا تستطيع مثل هذه الذهنية تلمّس متطلبات صاحبها وحاجاته وآلامه وآماله، لأنها تحيا خارج الزمان والمكان، خارج (هنا-الآن)، في الأمس و( الـ هناك) مع نصوص تأسر عقله، ولا تقدم له الحل الحقيقي لمشاكله التي تزداد تأزماً بازدياد غربته وخوفه وتجاهله للواقع. في محوريه الذات والآخر الوطني.


* نص من كتاب يصدر قريباً للكاتب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الكاتبة هند الضاوي: ‏لولا ما حدث في 7 أكتوبر..كنا س


.. تفاعلكم | القصة الكاملة لمقتل يهودي في الإسكندرية في مصر




.. عمليات موجعة للمقاومة الإسلامية في لبنان القطاع الشرقي على ا


.. مداخلة خاصة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت




.. 108-Al-Baqarah