الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهندسة الوراثية.. ووئد الطبيعة البشرية

شكداني أمين

2018 / 2 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الهندسة الوراثية.. ووئد الطبيعة البشرية
لا يخفى على أحد، مثقفا كان أو عاميا، ما يعرفه العالم اليوم من هجوم كاسح لتطبيقات العلم التقنية على الوجود الإنساني، وتأثيرات ذلك على الإنسان والمجتمع، تلك التي غيرت الشيء الكثير من معالم وأعراف العيش المشترك بين بني البشر.
لقد اتخذت الثورة التكنولوجية الحديثة زمرة من التجليات، منها على سبيل المثال: الذكاء الصناعي والهندسة الوراثية. إذ يشكل هذين التخصصين العلميين قمة الهرم الذي وصلت إليه الفتوحات العلمية في العقود الأخيرة من القرن الماضي (20)؛ ذلك إذ جعل الأول من إمكانية صنع آلة ذكية نسخة طبق أصل من الإنسان سلوكا وفكرا أمرا يلج حيز الإمكان، بينما جعلنا التخصص الثاني على بينة من البنية الوراثية للإنسان.
هذا ما فتح باب الإمكان على مصراعيه أمام إمكانات علمية لم تكن لتخطر على بال بشر، منها، على مستوى الهندسة الوراثية، التحديد القبلي لجنس، وكدا المواصفات الفسيولوجية والذهنية للمولود وهو في عالم بطن الأم. يتم هذا من خلال الكشف عن البنية الوراثية والخارطة الجينية للجنين، وهو الأمر الذي ولج حيز الإمكان سنة 2001.
اختراق التركيبة الوراثية للجينوم الإنساني، لا شك، واقع ترتب عنه متاهات أخلاقية وإحراجات اجتماعية، بل، الأكثر من هذا، مشاكل وجودية تتعلق بالمنطقة الحساسة والحرجة، والمسئولة عن تشكيل جوهر ونواة الإنسان بما هو إنسان. لعل أبرز هذه المتاهات تحوير الطبيعة البشرية، بل وئدها بالجزء أو الكامل. الأمر الذي أدى إلى اختفاء الإنسان الطبيعي، إنسان الفطرة الأولى والأصلية، الإنسان البعيد عن كل تدخل لا مشروع في معالم وخواص إنسانيته كإنسان.
إن وئد الطبيعة الإنسانية ومحقها، أمر تحققت بوادره حينما تحول البحث العلمي من بحث في الطبيعة باعتبارها كتابا مفتوحا يمكن صياغته وفق قوانين كلية ثابتة، الأمر الذي يمكن الإنسان من التحكم فيها، ومن ثم التنبؤ بمستقبل أمرها، إلى بحث في الإنسان، وسحب هذا التصور الميكانيكي الآلي للطبيعة على الإنسان بدوره، باعتباره جزءا ماديا من الطبيعة ذاتها؛ وبالتالي فهو كيان قابل لأن يتحدد وفق قوانين وعلاقات ثابتة وضرورية، شأنه في ذلك شأن الطبيعة.
وعليه، صار الإمكان التحكم في الإنسان وضبطه، كما صار مع الطبيعة، عبر الكشف عن القوانين والعلاقات السببية التي يتحدد وفقها هذا الكائن الحي، الذي لم يعد يزيد شيئا من حيث القيمة، عن كونه نظاما آليا، أو آلة قابلة للتعديل والتغيير كلما دعت الضرورة إلى ذلك، كما قال يوما ذ. حسان الباهي في كتابه "جدل العقل والأخلاق في العلم".
هذه النظرة الآلية للإنسان، والتي هي وليدة العصر الحديث، مع غاليلي وديكارت بالخصوص في القرن السابع عشر، كانت سببا في كثير من ويلات الإنسان المعاصر، الذي غدت تنظر له التقنية باعتباره كيانا ماديا مستهلكا لمنتجاتها لا أقل من ذلك ولا أكثر. كيان فاقد لناصية العقل ولفعل التفكير ولكفاية السؤال والمساءلة الرامية لمساءلة ما وراء السطور، كيان همه الوحيد كيف يلبي رغباته الوهمية، ويشفي نزواته الحيوانية. بل كيانا، ما يجري إلا وراء ود الترف المصطنع، والحاجات الزائفة، والحياة الغير الأصيلة.
هكذا، كانت بوادر وأصول مشروع وئد الطبيعة البشرية، والذي أخذ صورته الأكمل مع الثورة التكنولوجية المعاصرة، خصوصا مع الذكاء الصناعي عبر صنع آلة ذكية فكرا وسلوكا، ثم الهندسة الوراثية التي كشفت معالم الخارطة الجينية والتركيبة الوراثية للإنسان؛ حيث صار أمر تشكيل الخلايا الجينية على النمط الذي نشاء، أمرا ممكنا.
وعليه، فبموجب التطبيقات التقنية، في مجال الهندسة الوراثية بالخصوص، أصبح في حيز الإمكان التحكم في صيغة التركيبة الوراثية للإنسان بالشكل الذي يجعلنا قادرين على صنع الإنسان الذي نشاء، نوعا، وجنسا، وصفات، وقدرات ذهنية وجسمانية. فأصبح بالإمكان للذكر أن يصير أنثى، والأنثى ذكرا، كما غذى بالإمكان أن يغدو الغبي ذكيا، والقبيح جميلا .. هكذا، أصبح بالإمكان، تحقيق ما ظل في غياهب العدم أمرا محال.
يدفعنا هذا الواقع إلى محاولة استنطاق الغايات التي يرمي إليها البحث العلمي وتطبيقاته التقنية، العلمية العملية. وهل هي في خدمة الإنسان والإنسانية، أم تمثل مصلحة فئوية ؟ وهل هذه الغايات ترنو، في جوهرها، إلى خلاص البشرية أم وئدها وتدميرها وتخليصها من وجودها ؟
لعل الواقع الذي نعيشه يوميا، خير من بيده الإجابة عن شتى تساؤلاتنا ها هنا. إنه الكفيل والقادر وحده على ذلك، بدون لف، وبدون مجاملة، فهو المصور الأمين لواقع أليم ينذر بطمس معالم هذا الوجود المشترك طمسا كليا، بعد أن تم طمس معالم وهوية الطبيعة البشرية، بشكل به كلي؛ بذريعة التقدم والتطور العلمي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا