الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأنيث و المنفى

محمد بن زكري

2018 / 3 / 6
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


ليس من وجودٍ لجوهرٍ طبيعي ، فوق تاريخيّ ، للمرأة أو الرجل ، و فيما عدا الفروق البيولوجية المتعلقة بالحمل و الولادة (و الولادة هي فعل إعطاء الحياة لإنسان) ، فإن كل الفروق النفسية و الاجتماعية و حتى الفسيولوجية ، القائمة بين الجنسين في الوقت الحاضر ؛ هي فروق طارئة ، ارتبطت في سيرورة التحولات التاريخية للنوع البشري ، بتقسيم العمل جنسانيا داخل العائلة ، منذ استحواذ الذكور على وسائل الإنتاج (الأرض الزراعية) ، و من ثم نشوء الملكية الخاصة ، حيث أسنِدت للمرأة أعمال البيت ، بل و أصبحت هي نفسها جزءً من أملاك الرجل .
فدونية وضع المرأة ، في المجتمع المحكوم - تاريخانيا - بغلبة الثقافة الذكورية ، ما هي إلا نتيجة مترتبة عن العلاقات الاجتماعية السائدة ، المؤسسة على تقسيم العمل الاجتماعي ، بين من يملكون و من لا يملكون ، مع نشوء نظام المِلكية الخاصة ، بما في ذلك تقسيم العمل (جنسانيا) بين الرجال و النساء ، و ليست خاصية أنثوية ، مرتبطة بالتكوين البيولوجي للإنسان الأنثى . بل إن دونية المرأة في المجتمع الذكوري (الطبقي بطبيعته) ، لا تختلف إلا في الدرجة - و بخلفية كهنوتية - عن دونية الرجل الفقير .. أو فلنقل الرجل (المُفقَر) إذا أردنا الدقة .
و إن ما يحيل إليه المفهوم الذكوري المفخخ ، لمصطلح (الأنثوية) ، من الربط الشرطي بين الأنوثة و بين بعض السمات السلوكية للنساء ، كالعاطفية و الانفعالية و الضعف و الميل للانقياد إلخ ، ليست أنثوية بالطبيعة ، بل هي صفات مكتسبة نتيجة للتكييف الثقافي - الاجتماعي . و إن الفروق الراهنة بين الجنسين ، وظيفيا و سلوكيا ، هي فروق مرهونة ببنية المجتمع الذكوري ، انعكاسا لسيادة الرجل تاريخيا ، و نتيجة لتقسيم العمل جنسانيا ، و تكريسا لثنائية : المتسلط - المقهور ، في النظم الراسمالية و مجتمعات الفرز الطبقي الحاد ، على اختلاف أيديولوجياتها الليبرالية و الشمولية الدينية . فالأنثوية (كمصطلح مموّه) ، هي في المفهوم الثقافي الاجتماعي السائد ، ليست غير تشويه للأنوثة ، و تنميط سالب للإنسان الأنثى ، ترسيخا و إعادة إنتاج للمجتمع الذكوري .
و حتى يحافظ المجتمع الأبوي (البطريَركي) الطبقي على تماسكه البنيوي ، و يضمن استمراره عبر الأجيال ، في ملحمة الصراع من أجل السلطة ، معتمدا في ذلك على تأثير موروث الفكر الديني السائد ، ذي المرجعية التوراتية التلمودية ، المعادي للمرأة ، و الذي لا زال بدرجات متفاوتة ، يشكل جزءً من الذاكرة و الضمير الجمعيَّين لغالبية وازنة من الناس العاديين في العالم ، كما يتضح من دراسات علم الاجتماع الديني و علم النفس الاجتماعي ، ذات الصلة ؛ فقد كان كل ما سجله تاريخ النوع البشري ، من أساليب و منهجيات تنميط الأنوثة ، و قولبة الإنسان الأنثى ، في سياق ثنائية (المتسلط – المقهور) ، بكل تمظهراتها الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية ، بما فيها ثنائية : الرجل - المرأة ، أو الذكر - الأنثى ؛ تأصيلا أيديولوجيا للتمييز الجندري ضد النساء .
إن تنميط الأنوثة سلبيا ، كان دائما هو الشرط التاريخاني لتبخيس المرأة و تهميشها ، في مسار عملية الفرز الاجتماعي ، و داخل أطر العلاقات التراتبية للمجتمع البطريركي ، تكريسا لمفهوم (الأنثوية) المؤدلج ، كأساس لدونية المرأة وجوديا . و ذلك بواسطة التكييف الاجتماعي و الثقافي ، الذي يستهدف النساء ، بمناهج التعليم ، و بطرق التربية و أساليب التلقين ؛ فالتكييف الاجتماعي هو وحده ما يقولب المرأة في النموذج النمطي للأنثى : المتلقية ، السلبية ، الهشة ، الضعيفة العاطفية ... إلخ من الصفات المرتبطة بالمفهوم المفخخ لمصطلح (الأنوثة) ، في الثقافة البطريركية السائدة عالميا ، التي (تنفي) المرأة خارج ذاتها ، كإنسان أنثى كامل الأهلية الإنسانية و مساوٍ للرجل .
فبواسطة منظومة التكييف الاجتماعي - جنسانيا - و بالتالي تقسيم العمل جنسانيا بين الرجال و النساء ، تستبطن أو تتمثل المرأة ، قيمتها و مكانتها المعيارية الأدنى ، قياسا إلى قيمة الرجل و مكانته الأعلى ، و تتشكل لديها مجموعة خصائص سلوكية نمطية ، سلبية الطابع ، هي ما يعتبرونه في الثقافة البطريركية (أنثوية صحيحة) ، و بالتالي يبررون بها قبول المرأة - كإنسان مستلب و مقهور - لدونيتها الذاتية و دونية وضعها الاجتماعي . و يتفق في ذلك المجتمع الشرقي التقليدي .. بثقافته (المحافظة) و المجتمع الغربي البورجوازي .. بثقافته (الاستهلاكية) ، استثمارا استغلاليا في تجهيل النساء بالأساس المادي / الثقافي لدونية وضعهن ؛ تحايلا على الواقع ، و افتئاتا على الطبيعة .
و كلنا يعلم أنه منذ السنوات الأُوَل للتنشئة ، و في إطار تقسيم العمل جنسانيا .. في المجتمع البطريركي ، يعمد الأهل إلى تدريب البنت على الأدوار (الأنثوية) ، فيأتون لها بالدمى ، لتقضي الوقت في العناية بها ، تلبسها .. و تهدهدها .. و تضعها في المهد ، و تناولها البزازة .. الخ ، بهدف قولبتها نفسيا و ثقافيا كأنثى ، بالتدريب على أدوار المهن البيْتيّة ، مما لا يمكن اعتباره إلا نوعا من القسر و الإلغاء و التدريب على التبعية و (الخضوع) . بينما يأتون للولد بلعب ذكورية : حصان ، عربة حربية ، طيارة ، سلاح .. إلخ ، ليتدرب على أدوار القيادة و المغالبة و (الهيمنة) و ما إلى ذلك مما يقتضيه شرف الانتساب لعالم الرجال .
و كما لاحظت الألمانية أورسولا شوي ، في كتابها الموسوم : أصل الفروق بين الجنسين* ، (الذي تتقاطع معه هذه المقاربة النظرية - كمرجع بحثي - في بعض نقاط التناول) ؛ قد يسمح الأهل للبنت - أحيانا و إلى حدٍ ما - أن تشارك الولد في بعض لُعبه .. كألعاب الكرة مثلا ، لكنهم لا يسمحون أبدا - و بالمطلق - للولد أن يشارك البنت في لُعبها ، فلعِبُ الولد بألعاب بناتية .. لا يستدعي فقط استياء الأهل و تأنيبهم ، بل هو أيضا يستثير لديهم الاستهجان و الازدراء و الاستهزاء به ، فلا يليق بـ (الرجل) أن يتصرف كما (النسوان) ، و إلا جرى اعتباره مخنثا و (بنّوتي) ، ليفقد من ثم اعتباره الذاتي و الاجتماعي كرجل (محترم) في المجتمع ، فالأنثوية تعني (ضمناً) الدونية و النقص ، في منظومة قيم المجتمع الذكوري .
و نتيجة لعملية التربية والتكييف الاجتماعي ، المعززة بالمقدس الديني ، تتم صياغة السلوك الجنسي لأفراد النوع البشري ، في إطار إعادة إنتاج البنية التسلطية وتقسيم العمل جنسانيا في المجتمع البطريركي ؛ فالطابع السلبي الذي يغلب على سلوك المرأة في النشاط الجنسي ، داخل الأطر العلائقية للبنية البطريركية ، ليس سلوكا طبيعيا ، بل هو محصلةُ عمليةِ صياغةٍ اجتماعية لبنيتها النفسية والفيزيائية ، تتمثل المرأة بواسطتها عناصر الثقافة النمطية البطريركية ، وتُطور من خلالها أشكالَ وعيٍ وخصائصَ نفسيةً وأنماطا سلوكية مكتسبة ، تتماهى فيها مع ما يعتبره مجتمع الذكور طبيعة أنثوية .

وبالتالي فإن الانقيادية والسلبية و وضعية التلقي عند النساء ، في ممارسة العلاقة الحميمة ، ما هي إلا سمات مكتسبة من خلال عملية التربية والتكييف الاجتماعي للأنثى ، أي إنها تشوهات نمطية طارئة على الأنوثة ، مفروضة عليها من خارجها ، وليست في أصل البنية النفسية والفيزيائية للمرأة ؛ الأمر الذي ينفيها خارج كينونتها الإنسانية ، ويعطل طاقتها الإبداعية ، ويختزلها - بفجاجة - في البعد الجنسي الحسي لجسدها ، ويجردها من طبيعتها الخلاقة الأصيلة كإنسان أنثى .
و لذا ، فإنه طالما ظلت الثقافة الذكورية ، السائدة اجتماعيا ، و المحصنة ضد النقد و المراجعة ، بقوة رُهاب المقدس الديني ، هي منطلق رؤية الرجل للمرأة ، في بلادنا المتخلفة حضاريا . و طالما ظلت مناهج التعليم ، و خاصة في مرحلتيْ التعليم الأساسي ، تحشو أدمغة التلاميذ بمقولات : " محمد يكتب ، و أحمد ولد مِقدام / فاطمة تطبخ ، و عائشة بنت مطيعة " ؛ فإنه بالمحصلة ، مهما حاول الرجل الشرقي أن يبدو على غير حقيقته : متحضرا و إنسانيا ، فإنه لا يمكن إلا أن يتكشف بسرعة عن دكتاتور صغير معبأٍ حتى الحافة بكل ميراث قيم التخلف الاجتماعي ، التي تهيئُ له أن المرأة - أيّاً كانت - لابد أن تكون متطابقة مع المعايير النمطية لـ (الأنثوية) ، متجسدة في نموذج (الأنثى الحقيقية) : الهشة ، ضعيفة الإرادة ، الخاضعة ، القابلة (للترويض) ، الباهتة ، المطيعة ، متواضعة القدرات العقلية ، العورة ، العاطفية ؛ التي ما أن تلتقط إشارة رغبة منه ، حتى تشتعل الحرائق في جسدها ، و ما أن تستمع إلى كلمة إطراء منه ، حتى تتلعثم و تحمرّ وجنتاها و تدبّ القشعريرة في بدنها . و من ثَم ، فما أن تبتسم له من باب المجاملة ، أو تتعاطى معه إنسانيا من باب اللياقة الاجتماعية ، حتى يتبادر إلى ذهنه و يستقر في وهمه ، أنه قد ضمن اصطحابها إلى السرير ! بما تستدعيه الوضعية التقليدية لممارسة الجنس ، في المخيال الذكوري ، من تشوهات الصور الذهنية ، لعلاقة الفوق و التحت .
و إذن ، فإنه تأسيسا على كل ما تقدم ؛ نخلص إلى القول بأن تحرر المرأة ، لا يكتمل إلا بتحررها من كل الاستلابات الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية ، بدءً من تفكيك العلاقة التسلطية ، في تقسيم العمل جنسانيا ، ضمن تفكيك بنيات نظام الهيمنة الأحادية لمجتمع الفرز الطبقي ، بالتوازي و التزامن مع التحرر من قيود القيم - الدينية - البطريركية ، الملازمة لنظم الاستبداد الشرقيّ ، و المتساوقة مع استبدادية راس المال الاحتكاري المعولم .
و إذن ، فإنه لا رقي ولا تحرر لأي مجتمع ، إلا بتحرر المرأة أولا ، لتكون إنسانا كامل الأهلية الإنسانية ، لا مجرد كائن بيولوجي مؤنث ؛ وذلك من خلال إعادة صياغة العلاقات التي تحدد مكانة المرأة في المجتمع ، على أساس المساواة الكاملة بين الجنسين ، و على مستويي القناعة الفكرية والممارسة العملية في آن معا ، سواء في البيت أم في مواقع العمل و في المجتمع ، كما في العلاقة الحميمة بين الذكر والأنثى ، انطلاقا من إلغاء تقسيم العمل جنسانيا بين المرأة والرجل على المستويات كافة ، في سياق ثورة التحرر الاجتماعي ، الواقعة بالضرورة عندما تنضج ظروفها الموضوعية - تاريخانيا و بقوة الوعي - هنا أو هناك ، و التي ستكون النساء في مقدمة طلائعها الثورية ، و هو حُلم .. نعم ، لكنه حُلم واعٍ بجدلية و اتجاه حركة التاريخ .
----------------------
* أصل الفروق بين الجنسين . تأليف أورزولا شوي . ترجمة بوعلي ياسين . الناشر دار الحوار السورية . الطبعة الثانية 1995.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بسبب شكلها وعمرها.. التنمر يطارد ملكة جمال ألمانيا الجديدة


.. 34 عاماً من النضال والتضحية... جثمان الشهيدة زوازن حسكة يوار




.. الرقة 28 4 2024فوزية المرعي مثال للعطاء ومسيرة حافلة في الا


.. الناشطة السياسية مي حمدان




.. الصحفية فاتن مهنا