الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ستيفن هوكنغ : لا غالب إلا العلم

حسن عجمي

2018 / 4 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ستيفن هوكنغ فيزيائي كبير و عالِم رياضيات و فيلسوف. إشتهر هوكنغ بإضافاته العلمية القيّمة في ميادين الكوزمولوجيا والجاذبية الكمية وخاصة في دراسة الثقوب السوداء. نرصد في هذا المقال أهم معالم أفكاره العلمية و الفلسفية.

الثقوب البيضاء

نجح هوكنغ في قلب النموذج الفيزيائي السائد حين طرح نظريته الفيزيائية الثورية القائلة بأنَّ الثقوب السوداء ليست سوداء حقا ً بل هي ثقوب بيضاء. الثقوب السوداء هي التي من المفترض أن تبتلع كل ما يقترب منها و تفنيه. بذلك الثقوب السوداء تفني المعلومات ما يعارض مبدأ حفظ الطاقة الذي يؤكد على أنَّ طاقة الكون لا تفنى. من هنا , واجه العلماء مشكلة علمية أساسية ألا و هي كيف من الممكن أن تكون الثقوب السوداء فعلا ً موجودة ضمن المجرات كما تصر الفيزياء المعاصرة و تفني المواد و معلوماتها و أن يصدق أيضا ً مبدأ حفظ الطاقة الذي يقول باستحالة فناء الطاقة فاستحالة فناء المعلومات.

لكن تمكن هوكنغ من حل هذه الإشكالية فعبّرت نظريته الفيزيائية عن أنَّ الثقوب السوداء هي بالفعل ثقوب بيضاء بمعنى أنها لا تفني المعلومات و بذلك وجود هذه الثقوب لا يعارض مبدأ حفظ الطاقة. بالنسبة إلى هوكنغ , الثقوب "السوداء" تبث إشعاعات معينة على نقيض مما كان يظن العلماء مُسبَقا ً. و هذه الإشعاعات أصبحت تُعرَف بإشعاعات هوكنغ. و بما أنَّ هذه الثقوب تبث إشعاعات معينة فإذن هي لا تفني ما تبتلعه بل تعيد صياغته و تبثه بشكل إشعاعات ما يحتِّم في النهاية موت الثقوب "السوداء" لاحقا ً. هكذا حافظ هوكنغ على مبدأ حفظ الطاقة و استحالة فنائها بفضل طرحه نظرية أنَّ الثقوب "السوداء" هي حقا ً بيضاء و تبث إشعاعاتها الخاصة.

نجح هوكنغ في كل ذلك من خلال اعتماده على نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية القائلة بوجود جُسيمات افتراضية تُولَد من العدم و تُفنَى بشكل متسارع و متواصل. فبما أنَّ الكون الموصوف بميكانيكا الكمّ يحتوي على جُسيمات افتراضية تظهر كتوائم من جُسيميْن لكل جُسيم منهما شحنات إيجابية أم سلبية تعارض شحنات الجُسيم الآخر ما يسبِّب اختزال الجُسيميْن معا ً , إذن إن وُلِدت هذه الجُسيمات الافتراضية على تخوم الثقوب "السوداء" فمن الممكن أن يختفي جُسيم من التوأم و يبقى الجُسيم الآخر و يتم قذفه نحو الفضاء مُشكِّلا ً إشعاعات الثقوب "السوداء".

الخلق التلقائي و الأكوان الممكنة

يشرح هوكنغ كيف من الممكن للكون أن ينشأ من العدم. فالعدم يتكوّن من طاقات متعارضة و لذا تختزل بعضها البعض فيتشكّل العدم. لكن بما أنَّ التقلب الكمي (الخاص بميكانيكا الكمّ و الذي لا يسمح بثبات أي شيء) يحكم العدم كما أي شيء آخر , إذن من المتوقع أن تفلت طاقة ما من العدم و لا يتم اختزالها ما يتيح في المجال أمام تحوّل تلك الطاقة إلى عالم موجود بالفعل. هكذا من الممكن نشوء الكون من العدم. على هذا الأساس , يقول هوكنغ إنَّ الكون يخلق ذاته من خلال العدم. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ , تنشأ الجُسيمات الافتراضية من العدم و من ثم تختفي بسرعة هائلة ما يجعل من الممكن أن ينمو الكون من العدم. هكذا يخلق الكون نفسه تلقائياً بفضل العدم و قوانين الطبيعة كقوانين ميكانيكا الكمّ و قانون الجاذبية المسؤول عن تكوين النجوم و المجرات. لذا يؤكد هوكنغ على أنه من الممكن تفسير وجود الكون بدلاً من وجود لا شيء من خلال العلم و قوانينه فقط.

بالإضافة إلى ذلك , يعتقد هوكنغ بوجود نظرية كل شيء التي تؤكد على إمكانية توحيد النموذجيْن العلمييْن الأساسييْن ( ألا و هما نظرية النسبية لأينشتاين و نظرية ميكانيكا الكمّ ) في نظرية واحدة منسجمة. يعتبر هوكنغ أنَّ نظرية الأوتار العلمية قادرة على أن تكون نظرية كل شيء أي أن تكون النظرية الكاملة و الشاملة الناجحة في تفسير كل الظواهر في الكون. فبالنسبة إلى نظرية الأوتار , كل الجُسيمات هي في الحقيقة أوتار كما أنَّ كل المواد و الطاقات تولد من هذه الأوتار و أنغامها ما يسمح بتوحيد كل الطاقات المختلفة المنتمية إلى النموذجيْن العلمييْن المتنافسيْن (ألا و هما نظرية النسبية لأينشتاين و نظرية ميكانيكا الكمّ) فنصل إلى نظرية كل شيء. لكن هذه النظرية ما زالت بحثا ً جاريا ً و لم تكتمل معالمها التفصيلية بعد. و بذلك تدفع نظرية كل شيء العلماء إلى مزيد من البحث العلمي ما يغني العلم و يضمن استمراريته.

من جهة أخرى , يؤمن هوكنغ بوجود أكوان ممكنة مختلفة موجودة بالفعل بالإضافة إلى وجود كوننا الواقعي و ذلك اعتمادا ً على النظريات العلمية المعاصرة كنظرية الأوتار. تقول نظرية الأوتار العلمية إنَّ الكون عزف موسيقي. بالنسبة إليها , يتكوّن الكون من أوتار و أنغامها , و مع اختلاف ذبذبات الأوتار تختلف مواد الكون و طاقاته. تستلزم نظرية الأوتار وجود أبعاد عدة بالإضافة إلى الأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة (العمق والطول والعرض) والبعد الزماني. في هذه الأبعاد الإضافية من الممكن للأوتار أن تتخذ هندسات مختلفة تربط الأوتار فيما بينها. لكن قوانين الطبيعة تختلف باختلاف هندسات الطبيعة. بذلك ثمة إمكانية وجود قوانين طبيعية مختلفة تحكم أكوانا ً ممكنة متنوّعة في تلك الأبعاد الإضافية. هكذا توصلنا نظرية الأوتار إلى نتيجة أنه توجد أكوان ممكنة عديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد. بالإضافة إلى ذلك , ثمة بلايين من الحلول المختلفة و المتعارضة لمعادلات نظرية الأوتار. و بذلك كل حلّ منها يصف كونا ً ممكنا ً مختلفاً عن الأكوان الممكنة الأخرى التي تصفها الحلول الأخرى لنظرية الأوتار. من هنا , تصر نظرية الأوتار على وجود أكوان ممكنة مختلفة.

إعتماداً على نظرية الأكوان الممكنة يجيب هوكنغ على السؤال الأساسي الذي حيّر الإنسانية ألا و هو : لماذا نوجد و لماذا يوجد عالَمنا بقوانينه و حقائقه بالذات؟ بالنسبة إلى هوكنغ ، بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة و عديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد , إذن من الطبيعي أن يوجد عالَم كعالمنا تحكمه قوانينه الطبيعية بالذات و تسمح بنشوء الحياة و نشوئنا. الأعداد الهائلة للأكوان الممكنة تجعل من غير المستغرب وجود أكوان شبيهة بعالمنا أو مطابقة له تتمتع بحقائقها و قوانينها بالذات و قادرة على إنجابنا. فكما أنه توجد أكوان تمنع قوانينها و حقائقها نمو الحياة و العقل, ثمة أكوان أخرى تسمح بوجود حياة و عقل و تؤدي إليهما. و لذا من غير المستغرب أن نوجد في عالم من تلك العوالم الملائمة لنشوء الحياة. هكذا يفسِّر هوكنغ لماذا نوجد و لماذا يوجد عالَمنا بالذات. فكل العوالم الممكنة موجودة ، و لذا من الطبيعي أن يوجد عالَمنا أيضا ً و أن نوجد.

فلسفة العلوم

فلسفة العلوم تدرس طبيعة النظريات العلمية و تسأل إن كانت النظريات العلمية صادقة أم مجرد مقبولة. يعتبر هوكنغ أنَّ النظريات العلمية ليست صادقة و لا كاذبة بل هي مقبولة فقط لكونها تفسِّر الظواهر الطبيعية و تتنبأ بها بنجاح. بذلك اتخذ هوكنغ موقفا ً لا واقعيا ً في فلسفة العلوم معارضا ً للفلسفة الواقعية التي تقول إنَّ النظريات العلمية صادقة بمعنى أنها تطابق الواقع. يعتقد هوكنغ أنَّ النظريات الفيزيائية مجرد نماذج رياضية و بناءات عقلية نحن مَن نبنيها و بذلك سؤالنا عما إذا كانت النظريات الفيزيائية مطابقة للواقع هو سؤال بلا معنى. من هنا , يحق لنا فقط أن نسأل ما إذا كانت النظريات تفسِّر الظواهر الطبيعية و تتنبأ بها. فلسفة هوكنغ اللاواقعية (ليس بالمعنى السلبي) سمحت له بقبول نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية رغم تعارضها مع ما نعتبره بديهيا ً.

بالنسبة إلى نظرية ميكانيكا الكمّ , عالَم ما دون الذرة غير مُحدَّد و هذا ما يُعبَّر عنه بِطرق عدة كأن تكون قطة شرودنغر حية و ميتة في الوقت نفسه فتمسي غير مُحدَّدة إن كانت حية أم ميتة. لكن هوكنغ لا يجد مشكلة في قبول هذه النظرية و إن عارضت ما نراه في الواقع الملموس لكون أي قطة لا بد أن تكون إما حية و إما ميتة في عالَمنا المحسوس. و بالفعل يقبل هوكنغ نظرية ميكانيكا الكمّ رغم تعارضها مع عالَمنا المحسوس لأنه لا يطالب النظرية العلمية بأن تكون صادقة أي بأن تكون مطابقة للواقع لكونه يعتبر أنَّ النظريات العلمية مقبولة فقط و ليست صادقة و لا كاذبة. هكذا موقفه الفلسفي من النظريات العلمية شكّل موقفه العلمي أيضا ً الكامن في قبول ميكانيكا الكمّ. من هنا , توحّدت الفيزياء و الفلسفة. بالنسبة إلى هوكنغ , النظرية العلمية مجرد أداة لتفسير الظواهر الطبيعية و التنبؤ بها و ليس من الضروري أن تكون مطابقة للواقع كما هو و لذا من المتاح قبول كل النظريات العلمية الناجحة رغم التعارض فيما بينها كقبول ميكانيكا الكمّ القائلة بأنَّ قوانين الطبيعة احتمالية و قبول نظرية أينشتاين النسبية القائلة بأنَّ قوانين الكون حتمية. هكذا يتخذ هوكنغ موقفا ً منفتحا ً على كل النظريات العلمية رغم تعارضها و صراعاتها فلا يرفض ما قدّمه الآخرون من نماذج علمية مختلفة.

الميتافيزياء

يقدِّم هوكنغ فلسفته الخاصة في الميتافيزياء التي تدرس الواقع و صفاته فلسفيا ً. بالنسبة إلى هوكنغ , الواقع في ذاته موجود بشكل مستقل عنا لكن صفاته والعلاقات بين صفاته معتمدة على نموذجنا الفكري أي معتمدة على تفسيرنا و وصفنا لها. و بذلك تتغير صفات الواقع بتغير منظومتنا الفكرية. من هنا , الواقع مستقل عنا من جهة و غير مستقل من جهة أخرى. هذا موقف فلسفي بامتياز مدعوم بأمثلة علمية. فمثلا ً, يبدو الكون حتميا ً من منظور النظرية النسبية لأينشتاين بينما يبدو الكون ذاته غير حتمي من منظور نظرية ميكانيكا الكمّ. وهاتان النظريتان مقبولتان رغم اختلافهما وتعارضهما لنجاحهما في تفسير الكون. و قبولهما معا ً متاح بالنسبة إلى هوكنغ لأنَّ تشكيل صفات الواقع معتمد على نظامنا الفكري. فبما أنَّ صفات الواقع تتشكّل بمعنى ما على أساس نظرياتنا , إذن لا تستلزم صفات الواقع صدق نظرية ما دون أخرى. على ضوء هذا التفكير الفلسفي يقبل هوكنغ كلا ً من نظرية النسبية لأينشتاين و نظرية ميكانيكا الكمّ رغم الاختلاف فيما بينها.

بالإضافة إلى ذلك , يعتبر هوكنغ أنَّ العقل كمبيوتر متطور. بالنسبة إلى هوكنغ , بما أنَّ النظرية العلمية مجرد نموذج رياضي ناجح في تفسير الظواهر و التنبؤ بها و ليس من المطلوب من النظرية العلمية أن تطابق الواقع ، إذن من الطبيعي أن يقبل هوكنغ نظرية أنَّ العقل كمبيوتر متطور على ضوء إمكانية نجاح الكمبيوتر المتطور في التشبه بجميع وظائف العقل. فلا بد من دراسة العقل و تحليله على ضوء المنجزات العلمية كالكمبيوتر. من هذا المنطلق لا يقبل هوكنغ سوى بالعلم و ما يستطيع العلم أن يقدّمه لنا فلا غالب إلا العلم.

نشر العلم و انتصار الحياة

تميّز هوكنغ بنشر العلم من خلال كتبه العديدة ككتاب " تاريخ موجز للزمن " فقدّم النظريات الفيزيائية إلى العلماء و غير العلماء بلغة سلسة و توازن منطقي ما ساهم في ترويج النظريات العلمية و فهمها من قبل الجميع. و في هذا خدمة كبرى لعالَم الثقافة و المثقفين. أما حياته فكانت عبارة عن أيقونة رمزية سامية و دقيقة و حاسمة تعبِّر عن مقدرة الإنسان على تخطي الصعاب و المرض لتحقيق إنسانيته و إنسانية الآخرين. فبعد أن قيل له بأنه سيموت باكرا ً بسبب مرضه ( الذي سبَّب له الشلل تدريجيا ً ) إختار أن ينتج نظرياته الفيزيائية قبل موته المنتظر و يحقق إنسانيته بها ما دفعه إلى صياغة أفكاره الفيزيائية و هو شاب. لكن الحياة كانت أقوى من أي مرض فاستمر في نسج حياته علميا ً و فكريا ً إلى أن بلغ 76 سنة مستغلا ً هذا الوقت في تطوير أفكاره و نشر العلم بين مختلف القرّاء فأصبح العالِم الفيزيائي الأول بعد أينشتاين. يمثّل هوكنغ انتصار الحياة على الموت و انتصار العلم و الإبداع على أكاذيب الماضي و سجونه.

كان هوكنغ يؤمن فقط بالعلم و بأننا نستطيع تفسير كل شيء من خلال العلم ما أدى به إلى الإلحاد. و كتابه " التصميم العظيم " خير مثال على ذلك حيث أوضح فلسفته الإلحادية و دافع عنها. لكن هذا الإلحاد مجرد إيمان بالإنسان و مقدرته على معرفة كل شيء و تفسير كل الظواهر من خلال العلوم التي ينتجها. بذلك هو إلحاد المؤمن بالإنسان. الإيمان الحق إيمان بالإنسان و العلم.

المراجع


1- Stephen Hawking: A brief History of Time. 10th Anniversary edition. 1998. Bantam.

2- Stephen Hawking: The Theory of Everything. Special edition. 2006. Phoenix Books.

3- Stephen Hawking & Roger Penrose: The Nature of Space and Time. Revised edition. 2015. Princeton University Press.

4- Stephen Hawking: The Universe in a Nutshell. 2001. Bantam.

5- Stephen Hawking & Leonard Mlodinow. The Grand Design. 2012. Bantam.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا لتفريق المحتجين| الأخبار


.. مؤشرات على اقتراب قيام الجيش الإسرائيلي بعملية برية في رفح




.. واشنطن تتهم الجيش الروسي باستخدام -سلاح كيميائي- ضد القوات ا


.. واشنطن.. روسيا استخدمت -سلاحا كيميائيا- ضد القوات الأوكرانية




.. بعد نحو 7 أشهر من الحرب.. ماذا يحدث في غزة؟| #الظهيرة