الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول بعض التخرّصات الاستشراقية المضادة

حكمت الحاج

2018 / 5 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ليس ما اعتدنا أن نسمّيه بالاستشراق، سوى الوجه الآخر لنظرتنا لأنفسنا نحن، تلك النظرة المبسّطة الحاملة للكثير من تجريح الذات أو تهويلها، نقدّمها على أنّها هي حقا هي نظرة الآخر إلينا، فنكسرها، ونبني جدارا حولها، وإنّما نيأس من أنفسنا لأنّنا نسيء معرفة الآخر، فنسيء إلى تاريخنا، لجهلنا إياه، أو لاعتقادنا بأنّ ذلك الآخر لا ينال.
وفي كل الوقت، ما الذي قد حصل؟ لقد جاء من هو غريب عنّا ليقرأ بصوت مسموع، وأمام أعيننا، ذواتنا وظلالها. وبعد أن عرفنا بعض الأشياء وتعلمنا أنّ نقرب بعض الأشياء الأخرى، رحنا نلوح بعصانا يمنة ويسرة لنطرد جمعا من الأشباح التي لا يراها سوانا.
يقول وديع عساف، الفلسطيني التائه، أحد أبطال رواية (السفينة) للفلسطيني التائه الآخر، جبرا إبراهيم جبرا، في خضم حديثه إلى رفقائه وهم في عرض البحر: في هذا الوقت بالذات ونحن قد أرهقتنا الفلسفات والأوهام، ربما كان غيرنا، رحالة إنكليزي أو فرنسي مثلا، يقطع صحراء الربع الخالي، يغامر بحياته في رمال البوادي محاولا السيطرة على لغة تعصى على لسانه وحنجرته ويجد متعة في شرب حليب الناقة بعد ان يغسل وعاء الحليب ببولها. ما الذي نعرفه نحن عن صحارينا، والفيافي المفتوحة للمغامرين من خلق الله، والمغلقة دوننا، عن البدو مثلا من أمتنا، هؤلاء الذين يرسمون معالم الطريق وسط أوقيانوس الرمال بكومة من الحجارة؟
إنّ أكثر ما يسم رؤيتنا للإستشراق بهذه الطريقة- التي هي مجرّد تعرف على "من نحن" وليس "من نحن عند الآخر" – هو أنّنا ما سجنا عقلنا كما سجناه، داخل حدود ثقافة لا قابلية للحوار لها، لهذا الشكل القاسي، وأخذنا نزهو بوضعية مزعومة نعتبرها إطلاقا لإمكانات "عقلنا" نحو أفق أكثر اتّساعا وجمالا، بينما هي في الحقيقة مسخ ذاتي. وإن كان لا يسعنا مع ذلك إلاّ أن نتعرّف بين الحين والآخر إلى دوافع تطوّرنا الحضاري الذي هو الآن محفوظ في ذمّة الماضي، ومنه نحن انحدرنا على غير علم منه، فإنّه يحاول جاهدا أن يخنق وعينا هذا ويحوّله إلى قفزات مميتة من العبث واللاجدوى.
إنّ بروز ظاهرة "التصدّي للإستشراق" وسط عالم متغير في بناه الفلسفية والفكرية، ووسط عالم بات لا يؤمن إلاّ بالحوار الثقافي الخلاق والمفتوح إنما يستدعي على الفور السؤال التالي: أيّة بنية، هذه التي يمكن بالاستناد إليها أن نحاكم الآخر في نظرته إلينا؟
وإذا ما كان الإستشراق حركة علمية نشأت جذورها داخل الثقافة الأوروبية وكان الهدف منها التعرّف إلى تاريخ الشرق وجغرافيته وشعوبه وأدبائه وآدابه وتقاليده وأساطيره ولغاته، وحتى أحلامه، وكل ما يتّصل به ويعود إليه ويكشف عن نواياه، فإنّني كمشرقي، وبالتالي، كمن سينصبّ عليه فعل الإستشراق، أبادر إلى التحصّن في قلاعي خوفا من الانكشاف والإبانة، ولن آلُــوَ جهدا في تمييز الحركة كلّها على أنّها جهود سياسية للاحتواء لا غير، مضيعا بذلك على نفسي مرّة أخرى فرصة عظيمة لمواجهة الآخر، وبالتالي، لتشريح نفسي أمامها.
وهو ما يحصل الآن بكل بساطة.
كتابات حول الإستشراق بمناسبة أو بدونها، تنزع الموضوع من أصله لتحوّله إلى منظومة صراعية لقوى سياسية معلنة في جميع الأحوال، ومضمرة في أحوال أخرى، لكن من السهل تأشيرها.
هكذا يغدو جهد "التصدّي للإستشراق" ليس فعلا في المعرفة، بل هو دائما جملة واحدة ومعها تنويعاتنا عليها نحن أولاء، وما زلنا هنا. هكذا، بلا معرفة.
ولا يكون الإستشراق سوى حركة تخدم مصالح الآخرين وتسعى إلى إضعاف التشكيل الاجتماعي، واللغة، والدين ولا يكون المستشرق سوى ذلك الذي يلبس ثوب العالم، وينطق بلغة البلاد ويصطنع البحث العلمي.
ولكن، نحن من نكون؟
هل نحن أولئك الذين يعرفنا "الآخر" بنزاهة؟
وهل نستطيع أن نتجاهل نواياه المبطّنة وهو يستقرئ ماضينا ويحلم بصنع آليات حاضرنا؟ ليكن، تماما ذلك "الباحث" ومقاصده. لكن، أليس علينا أن نقوم بجهد ثقافي حضاري لفهم صراعاته وطرق تفكيره، من أجل فهم أشمل لصورتنا كما نريد أن نراها نحن بوضوح، وكما نريد أيضا أن يراها هو عبر رؤيتنا، بعيدا عن مماحكات ظرفية وسياسية لا تخدم إلاّ المزيد من الضباب علينا؟
دعنا نختم هنا بكلام لوديع عساف مرة أخرى. ففي رواية جبرا إبراهيم جبرا الآنفة الذكر، السفينة، والتي هي لحظة ميكروكوزمية عشية الهزائم العربية، يتساءل جبرا عبر بطله الفلسطيني الرافض لواقعه العربي عن ماهية المستشرقين قائلا: عم يبحث هؤلاء المغامرون؟ هل يبحثون عن النفط؟ ربما. عن المعادن؟ ربما يخدمون أغراضا خفية لدولهم؟ ربما. المهم هو انهم يقذفون بأنفسهم في بوادي المجهول ليعودوا بما يمكن أن يُـعلم ويـُحدد. خمس سنوات يقضيها رحالة بين الأعراب يتعلم لهجة من لغة لن يقرأها ولن يكتبها، ويعود إلى لندن أو باريس عودة قائد مظفر من معارك نائية ليصف طلوع الفجر على خيمة مرعز سوداء. وفي النهاية يكتب الرحالة كتابه وينشره ونقرأه نحن بلغته الأجنبية لنعرف شيئا جديدا عن أنفسنا. لنعلم أين بعضنا منا.
هل هذه هي الحكاية كلها؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة