الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحليل الموروث كنتيجة موضوعية لذات النص

احسان طالب

2018 / 5 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


استكمالا لمبحث النص ، المنشور في مقالات سابقة مثل النص ذاتا وموضوعا وهوية، وأيضا المعالجة الواعية للنص ، وما هو النص ومعنى الإشكالية بين المحكم والمتشابه ، مقاربة حداثية للتراث ، يأتي المقال أدناه .
لقد بات غنيا عن الشرح علاقة النص ـ أي نص كان ، أدبيا أم فلسفيا أم دينيا أم مقدسا ـ بالبيئة التي صدر منها ، والثقافة السائدة و العقل والحس الجمعي المشترك لأي مجتمع كان ، وبذلك يسهل فهم دواخل النص وسبر معانيه ودلالاته ، وبالأخص النصوص التاريخية ذات الانتشار الأفقي اللامحدود جغرافيا وزمنيا . ما يسوقنا تلقائيا لاستبصار البيئة الثقافية والاجتماعية المنشئة ، لبزوغ النص ، ومع المعرفة بإمكانية تجريد النص كليا من كل المؤثرات المحيطة به بما فيها ذات المؤلف أو الكاتب ، للوصول إلى فهم مجرد لمعاني الكلمات والأصوات ، إلا أن ذلك واحد من المسارات لمعالجة النص لا يوجب بالضرورة حجب مسارات أخرى ترتبط ارتباطا وثيقا بإمكانية الفهم والشرح والتأويل .
( إن العبارات والأصوات التي تخرج من فم الإنسان ، أو العلامات التي يكتبها المرء على الورقة تعتبر موضوعات موجودة في العالم مثل أي موضوعات أخرى ، إن قدرتها على التعبير مستمدة من قصدية العقل وليس من قدرة ذاتية لها ) ـ 1ـ
فتلك الكلمات التي خطها المصنف أو المؤلف لها أصل قصدي عقلي في سياق نصه ، فلندعها تصل إلى قصدها قدر الإمكان . فتحليل النص مرتبط أنطولوجيا بما يتاح من مؤثرات متعددة تترك بصمتها وتتدخل في جوهر هوية النص ، فتجريد الكلمات من ارتباطها الوجودي ، ومن ثمة ما تفرزه من سلوك وقناعات ومفاهيم وآداب ، يحّول النص المراد تأويله واستخراج ظواهر وبواطن معانيه إلى نصا خاص محدود بالقراءة المجردة ، يكون من المفيد الاطلاع عليه بيد أنه أصبح نصا آخر غير ذلك الأولي ، ولعله بات بعيد عن موضوعه بقدر قربه من ذات قارئه.
بالانتقال إلى النصوص التاريخية والمقدسة تصبح الحاجة ضرورية قدر الإمكان للبعد عن ذاتية القارئ والاقتراب قدر الإمكان من موضوع النص ، أي قارئ للقرآن الكريم له الحق في الانفراد بكلمات التنزيل ، والغوص في روحانياتها كما يفتح له أفق عقله وروحه ووجدانه ، لكن لا يحق له فرض ذاته على بقية القراء ، فيكون منتج الفهم المجرد حالة خاصة ، في حين وبحسب المكانة التشريعية للنص يغدو التفسير والتأويل مرتبطا ارتباطا عضويا بمجمل العناصر التاريخية والأنثروبولوجية والاجتماعية المحيطة بانبثاق النص وما تفتح عنه من تأثيرات اجتماعية وفكرية وسياسية وتشريعية ، حيث باتت تلك الأخيرة مؤشرات وأدلة بل وقرائن لازمة للتحقق والتبصر.
فحوامل النص التاريخي ، كناقليه ولغته وبيئاته الاجتماعية والفكرية والتاريخية ـ السائدة قبله والمسايرة لسرده واللاحقة له ، باتت مكونا من بنيته ، يختل توازن التأويل والتفسير والفهم بتجاهلها أو تجاوز بعضها .
( جذور اللغة السياسية الإسلامية كجذور غيرها من المظاهر الإسلامية بحيث يجب التفتيش عنها في القرآن وفي أحاديث الرسول وفي الممارسة التي مارسها المسلمون الأوائل وهذه بدورها لها جذور في الجزيرة العربية أيام الجاهلية وفي مختلف العقائد الدينية من مسيحية ويهودية ووثنية ، التي كانت موجودة قبل نشوء الإسلام ) ـ 2ـ
وسيكون من السهل سياق العديد من الأدلة على ما سبق ذكره من تفاعل وامتزاج الثقافات والعادات والأديان وارتباطها وتداخلها ببعضها البعض حسب السياق التاريخي ، وليس فقط التسلسل الزمني بل السياق المرتهن لتبادل التفاعل والتأثر إلى درجة التكامل ،التنافس والصراع .
" إنما بعثت لأتمم مكارم ( و في رواية صالح ) الأخلاق " .ـ 3 ـ
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) سورة المائدة الآية 44
(نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) سورة آل عمران الأيات 2 ـ 3 ـ 4 ـ
مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا ، وَيَقُولُونَ : لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ " ـ 4ـ
لا أدل ولا أصرح على التكامل والاستمرارية مما ذكر أعلاه ، ما يجعل مسألة ارتباط فهم النص بصيرورته حتى اكتماله بحدوده ، كما ارتباطه بسيرورته التي انبثقت عنه فهما وتطبيقا ومؤسسات .
أفلاطون نقل إلينا كُتب سقراط وابن رشد نقل وشرح الكثير من كتب أرسطو ولم تعرف بعض كتبه إلا عن طريق ابن رشد ، ومع ذلك نحن نقرأ بعناية بالغة تلك الكتب وندرس مضامينها ومعانيها بعد ما يربو على الألفي وخمسمائة عام ، وتأثيراتها مازالت عميقة وحية ومنها انبعث التنوير الأوروبي حتى فلسفة ما بعد الحداثة لا تهمل ذلك التراث ولا تضرب به وجه الحائط
المقاربة التراثية العربية هنا ضرورية ، فالقول بأن كل كتب التراث قمامة ، أو تجاوزها الزمن ، أو هي سبب تخلف العرب والمسلمين ، والدعوة إلى إقصاء كل الموروث باستثناء القرآن المحفوظ في المصحف هو قول متسرع وينطوي على جهل شديد ، فجزأ من ذلك التراث ساهم في النهضة الأوروبية ، والصرح العلمي الإنساني كما أن العديد من البحاثة والفلاسفة الغربيين ما زالوا إلى اليوم يشيدون بابن خلدون وابن رشد وابن عربي وبعض من مؤلفات الغزالي ، وأبا حيان التوحيدي وابن باجة وابن سينا والفارابي والقائمة تطول هذا بالقياس المنطقي يظهر بطلان تلك الدعوة السخيفة
أما من حيث المنهج العلمي ، فما السيرورة الإسلامية بما فيها من تراث وتاريخ وحضارة إلا نتيجة لمقدمة النص القرآني وفهومه وتأملاته ، اشتهر عن الإمام علي قوله " لما بعث علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج قال له " لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه ، ذو وجوه ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنة ، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا " هذا النص المشهور يعطي دلالة جلية لرأي واحد من أهم الشخصيات الإسلامية ، ويطالب بالاحتجاج بالحديث لما عرفه من حجيته ومدلولاته . فالدراسة التجريبية ـ التطبيقية ـ للإسلام مبثوثة ومهمورة بختم الأثر ، ولا يستقيم على الإطلاق تجاوز التراث والانفراد بالنص القرآني وكأنه أسطورة تاريخية لم يخضع المسلمون لها طوال قرون عديدة وما زالوا ، هذا من منطق علمي تجريبي يثبت بطلان وجهة نظر كثير من متنطعي التنوير بأقصاء التراث كليا أو جزئيا . .
أيضا الدراسات الأنثروبولوجيا تتحذ من الحديث والسيرة والتاريخ مجالا مفتوحا وحجة علمية ضرورية لتفسير الصيرورة الإنسانية .
حتى من منطلق فلولوجي ، فلسفة اللغة ، فنحن بحاجة ماسة لفهم القرآن من أجل تفصيل معنى الحرف والكلمة والجملة والنص في القرآن ، بل أكثر من ذلك يستعين بعض من يريدون إقصاء الأثر الإسلامي ، بالشعر الجاهلي أي ما قبل البعثة مع أن ثبوته وسنده لأصحابه أقل قطعا حجية من سند وحجية الأثر ( الموروث ).
فالتعامل المنطقي مع الموروث ينبغي أن يبتعد كلية عن جزئية الرد والرفض لمكونات أساسية كالحديث النبوي الشريف أو إلغاء دراسات علم الأصول، أو حرق كل كتب الفقه ، أو نسف كل التفاسير وكتب التأويل ، وما إلى ذلك من ترهات وفي تقديري المسألة وأقصد قضية الاكتفاء بالنص القرآني ما هي إلا دليل عجز وضعف وجبن ،
فواحد من أهم شخصيات السيرة الإسلامية عمر بن الخطاب عالج النص القرآني بمقتضى الواقع ، قضية إيقاف حد القطع عام الرمادة أو انهاء حق المؤلفة قلوبهم من بين مصارف الزكاة ، فمثل هذه الحادثات ذات أهمية بالغة لقربها الشديد بل اللصيق بزمن التنزيل و السرد النبوي ، أيضا ذلك الجدل الذي حصل بين الإمام علي ومخالفيه من الخوارج ، الذين جعلوا أنفسهم أوصياء على النص ، ضروري للوقوف على حقيقة القصد الأولي للتنزيل . وهذا عنصر حيوي من الموروث والمنقول .
القراءة والتحقيق النقدي والعقلاني وترسيخ المنهج العلمي والبحث الموضوعي و التعامل بروية وصبر ودأب ومثابرة مع المأثور والمنقول من كتب العلماء والمحققين والفلاسفة وعلماء الكلام وعلماء اللغة ، هو المطلوب بل والضروري ، فنحن كأمة لم تتمكن إلى اليوم من صناعة حداثتها ولم تتمكن من الانفكاك عن ماضيها كرائد ومرشد ، ولم تستطع بناء حضارتها الراهنة ، يتوجب على مفكريها ومثقفيها التعمق والموضوعية في فهم العلل والخلل وليس مجرد النقض السطحي أو الدعوة لحرق كتب التراث ـ كما حرقت كتب ابن رشد ـ
بتقديري إلى اليوم لم يتم استيعاب عقلانية إمام الحرمين أبو المعالي الجويني الميلاد: 17 فبراير 1028، الوفاة: 20 أغسطس 1085 ، ولا فلسفة وإدراك مقاصد إبراهيم بن موسى الشاطبي الوفاة 1388م كنماذج يبدو لي كثير من يتصدرون التوعية والإرشاد والتنوير متخلفين عن بعض مما وصلوا إلية ، من علم ودراية وحتى عقلانية ، على سبيل المثال لا الحصر .

مراجع وهوامش:
1 ـ جون سيرل كتاب القصدية صفحة 12 نسخة pdf
2 ـ بيرنارد لويس لغة الإسلام السياسي ، ترجمة عبد الكريم محفوظ صفحة 18 ـ 19 نسخة pdf
3 ـ قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 75 :
رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم ( 273 ) ،
أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا .
4 ـ حديث متفق عليه رواه في صحيح مسلم برقم 4247 والبخاري في صحيحه كتاب المناقب برقم 3341








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا