الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيف السلطان وذهبه

إيهاب فتحي

2018 / 7 / 1
المجتمع المدني


لم يكن يوما لعلاقةٍ من عميق أثر في المجتمعات، كالعلاقة بين الحاكم والمثقف، فهي علاقة خطرة بمقدار اقتراب الطرفين من بعضهما، فقد تكون رؤية المثقف وفكره من الأدوات التي يستمد منهما الحاكم شرعية حكمه، ويرسخ بهما دعائم ملكه، وهو ما فطن إليه الحكام منذ القدم، فالمثقفون وذوو الفكر، ولاسيما الصفوة منهم، قوىً محركة.. ملوك الدولة الأموية استخدموا مثقفي ذلك العصر في الترويج لأحقيتهم في الخلافة، فإذا بشاعر كالأخطل، وهو مسيحي، يصبح من كبار شعراء البلاط الأموي، لشعره في استحقاق بني أمية الخلافة، وإضْفائه حقاً إلهياً على حكمهم، فقد كان الأخطل وغيره ينظرون إلى ذهب الأمويين، وكان الأمويون ينظرون إلى موهبتهم الشعرية ويرْنُون إلى أثرها.

إنها نقطة فاصلة في حياة المثقف حين اقترابه من السلطة، فأثرها لا ينحصر في المثقف وحده، بل يتجاوزه إلى مجتمعه.. فكم من كاتب غير منهجه، ومفكر ارتد على فكره، وفقيه مجدد تراجع عن فتاواه، ومصلح كان الناس ملء عينيه، فأمسى ينظر إليهم وهو لا يبصرهم، وكأن قدر الإبداع أن يَهْرم إذا خالط السلطة، فيفقد بريقه وحيويته، ويتحول إلى لوحات زيتية صمّاء يتوسطها حكام بملابسهم العسكرية، أو كَلِم ولحن لأغنية
لا يسمعها إلا السلطان، وشعب ينسى الكلمات بعد موته، وتموت الأغنية.
إذا بات المثقف في أحضان السلطة أصبح لسانها، وتخلى عن رؤيته وفكره لجهة فكرها.
إن كتّاباً كبارا أمثال العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم، كانوا أكثر الدعاة إلى الليبرالية، المختلفة ايديولوجيا مع توجهات عبدالناصر الاشتراكية والقومية، لكن نتيجةً لسجْن وتعذيب بعضهم، انبروا في الدعوة إلى الاشتراكية، قلة منهم صمتوا، وكان الصمتُ شجاعةً إذ من حولهم يهْذَرون رعباً، لكن المؤسف أن من المروجين من سارع إلى الاحتفاء بالقضاء على رموز الاشتراكية، والتبشير بالانفتاح ومنافعه، دونما أدنى محاولة للتبرير أو الإيضاح، فخدموا الأول خوفا من سيفه وسوطه، وأشادوا بالثاني طمعا في ذهبه ومناصبه السيادية..

ذهبُ السلطان قد يخرج الإبداع، وهو ما يعجز عنه السيف أو السوط، فلا يتأتّى إبداع بقرار سيادي، فبريقُ الذهب استخرج من الشعراء أروعَ ما جادت به قرائحهم من مدائح الشعر، ولسنا في معرض نصح الحكام في كيفية التعامل مع مثقفيهم، وأعتقد أنهم في غنى تام عن هذا النصح، فيكفي منهم الإيحاءُ برغبةٍ حتى تصبح قانونا، ومرة أخرى، يكون ذلك عن طريق مثقفيهم، فهم الأقدر على زرع الأفكار وإنمائها في أذهان المجتمع، وما قضية توريث الحكم في بعض الدول ذات النظام الجمهوري ببعيدة عمّا نقول، فتجد المبررين للتوريث، هم -من يُفترض بهم- أنهم كبار أدبائنا، ومن مبرراتهم أن ذلك أدعى لدوام الاستقرار و... ثم يذكرون ما لا يحصى من فوائده.. بعد انهيار النظام الصدّامي وسقوط العراق في ظلمات الفتنة المقيتة، بادر هؤلاء إلى تبرير الدكتاتورية السابقة -يرمون من وراء ذلك إلى تبرير الدكتاتوريات القائمة- فحاكم ديكتاتور ظالم يحكم بلدا مستقرا -بالقمع- خير من حاكم ديمقراطي يحكم بلدا محتلا أو منقسما، فاختزلوا الخيارات إلى اثنين أحلاهما مر، جعلونا لا نبصر إلا السيئ والأسوأ، وحرموا على عقولنا التفكير في غيرهما، وهذا ما دأب عليه مثقفو السلطان، فهم يسُوقون فكرك إلى أن تسلم بأنه لا يوجد أروع من الواقع الذي تعيش فيه.

لا أريد أن يُفهم من السطور السابقة، أن مجافاة السلطة فرض عين على كل مثقف، وأن الفرار منها واجب كالفرار من المجذوم، أو أن يكون أبو حنيفة ورفضه تولي القضاء، خوفا على دينه، هو المثل المنتصب أمام عين مثقف، أبدا لست أرى ذلك صحيحا، بل نحن نحاور المثقفين للوصول إلى ميثاق للتعامل مع السلطة.
فعلى المثقفين، خاصة كبارهم، أن يبقوا على مسافة بينهم وبين السلطة، فالصورة تكون أكثر وضوحا، إذا ابتعدت عنها قليلا، والمثقف يحتاج إلى هذه المسافة، لوضوح الرؤية، وإبراء للذمة، وثقة بالنفس، لأنه لن يثق بنفسه وكل من حوله يشك به، فذوبانه في السلطة مدعاة للريبة، وعليه أن يضع المجتمع نصب عينيه؛ من يوافقه منهم في الرأي، ومن يخالفه، ولا يسعى لكبت فكره وقمع رأيه، وأن يتمثل في ذلك مقولة الفيلسوف الفرنسي شارل مونتسكيو «مع أني أختلف معك في الرأي، إلا أني سأقاتل من أجل حقك في أن تقول رأيك».
وألّا يسمح لشخصيته بالانصهار في شخص الحاكم، وأن يقدر نفسَه وعلمه وثقافته، فلا يهونوا عليه، وأن يقول ما هو مقتنع به، فيستوي في نظره بريق الذهب ووميض السيف، وأروعُ منْ قولي، ما نظمه القاضي علي الجرجاني، نبراسا يضيء طريق كل صاحب فكر ورأي، فقال:

أَرَى النَّاسَ مَن دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهمْ ... وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وما كل برقٍ لاح لي يَسْتفزني ... ولا كل أهلِ الأرْضِ أرضاه منْعِمَا
إذا قِيلَ: هذا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ... وَلكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
ولم أَبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي ... لأَخْدمَ مَن لاقَيْتُ لكنْ لأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً! ... إِذِنْ فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كانَ أَحْزَمَا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عشرات المحتجين على حرب غزة يتظاهرون أمام -ماكدونالدز- بجنوب


.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - الأونروا: يجب إنهاء الحرب التي تش




.. الأمم المتحدة تنهي أو تعلق التحقيقات بشأن ضلوع موظفي -الأونر


.. أخبار الصباح | حماس تتسلم الرد الإسرائيلي بشأن صفقة الأسرى..




.. ما آخر المواقف الإسرائيلية بشأن صفقة تبادل الأسرى؟