الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الهوية وتطورها في الحضارات القديمة

بوناب كمال

2018 / 7 / 22
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الملخص:
تهتمّ هذه الورقة البحثية بالهوية وكيف كان يُنظر إليها في العالم القديم؛ يمكن تبسيط المسألة الرئيسية فيما إذا كانت علاقات الدّم (القرابة) أو الخلفية الثقافية المشتركة (اللغة، العادات، النظام العقائدي والثقافة) قد ساهمت في توحيد الجماعات السوسيو ـ سياسية القديمة؛ وبالتالي فإن القضية المركزية تتحدّد إلى حدّ ما بطبيعة / تغذية النقاش في العلوم الاجتماعية الحديثة، وربما أكثر من ذلك، انقسام الطبيعة / القانون (فيزيس / نوموس) في الفلسفة اليونانية، وفي كل الحالات يُقرّ الباحثون أن الإثنية (الدم) والثقافة (التراث المشترك) أدّتا أدوارًا في بناء الهويات القديمة.
Abstract :
This paper is concerned with identity and how it was perceived in the ancient world. The principal issue can be simplifi ed down to whether blood (kinship) relationships´-or-a shared cultural background (such as a common language, material culture, belief system, cultural practices) were what united ancient socio-political groups. Thus, the issue is in some sense related to the nature/nurture debate of the modern social sciences and, perhaps more pertinently, the nomos/physis divide in Greek philosophy. Scholars on each side of the debate are, of course, well aware that both ethnicity(blood) and culture (a shared heritage) played a part in the construction of ancient identities.
ازداد الاهتمام بالهوية في العقدين الأخيرين؛ وهي الفترة التي تلت انهيار الكتلة الشرقية وعودة ظهور القومية من بحر البلطيق إلى البلقان، والتطهير العرقي في رواندا، إضافة لما أفرزته مخاوف العولمة من رغبةٍ في تعزيز الهوية المحلية؛ والحقيقة أن الانشغال بالهوية الثقافية والبحث في أصول الجماعات ليس بجديد على الإطلاق، وإنْ كان قد لقي رواجًا في دراسات ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، فعلى سبيل المثال لا الحصر تقف كتابات هيرودوتس وكاتو الأكبر كدلائل راسخة في هذا الجانب.
غالبًا ما تشير هوية المجموعة إلى العوامل المشتركة التي توحّدهم، وفي ذلك تصنف الجماعة نفسها استنادا إلى نقيضها أو الهوية المعارضة؛ ومن الأمثلة المألوفة في العصور الكلاسيكية أنْ صنعَ اليونان "البرابرة" كنقيض لهم؛ وفي لغة الدراسات ما بعد الاستعمارية توصف هذه العملية بـ "الآخر الخارجي"، أي التأكيد على أنّ ما هو مختلف منحرف وخطير ويتأتى من الخارج؛ العديد يمكنه أن يتلمس هذه الأفكار اليوم في مواقف الغرب من الشرق.
هذه الأنواع من المواقف تؤثّر على الطريقة التي ترى بها المجموعة نفسها، وكيف تصف غيرها من المجموعات في الفنون البصرية والكتابة؛ وقد شهد البحر الأبيض المتوسط شعوبا عديدة عاشت حوله في العصور القديمة تشمل المصريين، الفينيقيين والأتروسكان، غير أن تركيز هذا البحث سينصب على الإغريق والرومان لما كان لديهم من اتصال مباشر مع الجماعات الهوياتية الأخرى.
1ـ الهوية في العالم اليوناني:
على الرغم من شيوع التطرف والانقسام السياسي، فإنه كان هناك شعورا بالهوية اليونانية المشتركة، حيث تم تقسيم الهيلينية إلى أربعة مجموعات إثنية (Acheans,Aeolians,Dorians, Ionians)، وكل مدينة (Polis) تعتبر نفسها تنتمي إلى واحدة من هذه الجماعات الفرعية؛ وقد وضع هيرودوتس، في واحدة من أكثر المقاطع اقتباسا عنه، كلماتٍ على أفواه الأثينيين في ردّهم على مبعوثي أسبرطة الذين أعربوا عن قلقهم من أن أثينا قد تميل إلى جانب الفرس؛ قام التفسير الأثيني الرافض بحزمٍ الانضمام إلى الفرس على دعامتين؛ الأولى الرغبة في الانتقام من حرق المعابد والثاني يتعلق بالرابطة المشتركة بين اليونانيين؛ بالنسبة لـ هيرودوتس تتكوّن هذه الرابطة من الدم، اللغة، الأضرحة، الطقوس والممارسات .
على الرغم من أن أغلبية الباحثين يؤيدون أن فكرة الدم كانت العامل الأكثر جدّية في سلوك أثينا، إلا أن جوناثان هال يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يفترض بأن نيّة هيرودوتس تمثلت في توسيع نطاق تعريف الهوية اليونانية لتشمل العوامل الثقافية؛ لذلك وجب النظر في كل عامل أكّده هيرودوتس.
استندت فكرة القرابة المشتركة إلى حد كبير على نظام دقيق من الأساطير التي سمحت لأبطال محليين وأُسرٍ رائدة بأن تكون مرتبطة في المنطقة بأكبر قدر ممكن من القصص المشتركة، ولكن من الواضح أن هذا، في جانب كبير منه، كان خداعا خَدمَ مقاصد هؤلاء في إضفاء الشرعية على السلطة وتوفير آلية لشرح وتطوير العلاقات بين المجموعة، وهو ما اُصطلح عليه بـ "دبلوماسية القرابة".
اِعتبر هيرودوتس أن اللغة عامل مثير للاهتمام وموحّدٌ لليونان، غير أن الواقع أثبتَ وجود أربع لهجات رئيسية، إلى جانب اللغة المستخدمة في الأدب الإغريقي، تجاوزت الحدود الاجتماعية والسياسية (اليونيك، الأتيك، اليونانية الغربية والأيوليك)، وبالأخذ في عين الاعتبار أن بعض الدول يمكن أن تأخذ بعدة لغات وبحالات متساوية (سويسرا في الوقت الراهن) يكون رهان هيرودوتس على العامل اللغوي غير مجدٍ كفاية للإقناع.
كانت هناك مزارات مشتركة لجميع اليونانيين، وأحيانا يتم الترحيب بالبرابرة في مواقع مواتية للتجارة كأولمبيا ومعبد الوحي دلفي؛ غير أن هذه الممارسات تُخفي درجة عالية من أقلمة الطقوس وتوطينها، فعادات تكريم الآلهة كانت متمايزة، ومهرجان الباناثينايك كان أثينيًا صرفًا؛ قد تكون الآلهة مطلقة في عالم اليونان القديم، بيْد أن طرق التعبد كانت مسألة أعرافٍ محلية قبل كل شيء.
العامل الأخير في الرابطة الهيرودوتسية هو أسلوب الحياة المشترك، وربما يكون العامل الأقل ترجيحًا؛ ففي الوقت الحاضر تزعم الدولة اليونانية أن البارثينون بمثابة أيقونة للهوية الوطنية، رغم أنه في العصور القديمة كان رمزا لمدينة واحدة؛ وعندما اقترح الخطيب أيشينز على القائد الطّيبي (نسبة إلى طيبة) إبامينونداس نقل البروبيلايا إلى كادميا، كان من الصعب عليه رؤية آثار الأكروبوليس كرموز عالمية لليونان؛ الظاهر أن الخطيب كان يسعى لإلهاب الفخر الأثيني.
كان الهدف الرئيسي في عقول الإغريق القدماء هو الشعور بالانتماء إلى مدينة خاصة، وتعبّر خطبة الجنازة لـ بيريكليس كما قٌدمت من لدن ثيوسيديديس عن هذا الاتجاه؛ لا يعني هذا أن الناس لم يكن لديهم إحساس بالهويات الشاملة سواء كانت هيلينية أو دُريانية، غير أن المقام الأول كان دائما لهوية الدولة ـ المدينة؛ البعض اِعتبر العلاقة بين الهوية وPolis كلغز الدجاجة والبيضة؛ ومع الوقت كانت علاقة الدم هي العامل الحاسم في فك طلاسم هذا اللغز، إذْ أنّ منح الجنسية للغرباء كان غير شائع نسبيا، وأصبحت المواطنة نظامًا مغلقا؛ بالنسبة لباحثين معاصرين كانت الحروب الفارسية نقطة تحول في تطوير الهوية اليونانية، وتذهب الحجة إلى أنه قبل الغزوات الفارسية آمن الإغريق بأن الهوية المشتركة ترتبط إلى حد كبير بنظام الأنساب الأسطورية، لكن بعد الحروب الفارسية أصبحت الهوية اليونانية تتحدّد بشكل متزايد من حيث الفرق والتفوق على البرابرة، لا سيما المشارقة منهم؛ هذه الهوية الجديدة دنّست الآخر وأدانته، أما العامل الإضافي الآخر الذي أتت به مواجهة الفرس فهو وزن كل مدينة بما قامت به في حملات الغزو، وهكذا تم تغيير طبيعة العلاقات كليا، ليس فقط بين الشرق والغرب، بل حتى بين المدن اليونانية ذاتها؛ غير أنه وعقب غزو الإسكندر للشرق بدأت الهوية اليونانية تتأثر بالتثاقف والاتصال بالتقاليد المحلية، ليتم لاحقا مناقشة قضايا اختلاط الثقافات ضمن نظريات "التهجين" أو "الأرض الوسطى".
2 ـ الهوية في العالم الروماني:
إذا كانت الهوية اليونانية نتاج تفاعل معقد بين العناصر العرقية والثقافية مع دورٍ بارز ومؤثر لعامل القرابة، فإنها في العالم الروماني تبدو مختلفة، فهي تُوصف على أساس ثقافي، أو بتعبير أدق تحدّد سياسيًا؛ فما يهم في هذا العالم هو المواطنة التي يمكن توريثها، ولكن، وبشكل حاسم، يمكن الحصول عليها أيضا نظريا من قِبل أي شخص؛ لقد كان هذا عاملا معترفا به في نجاح الإمبريالية الرومانية، حتى أن أسطورة رومولوس تُصوّر روما أنها تأسّست على حقّ اللجوء.
بحلول نهاية الألفية الأولى قبل الميلاد كان ما يهم هو المواطنة؛ كانت روما مترفةً بما فيه الكفاية لتسمح بتعزيز ما هو محلي طالما كان مكمّلًا لـعظمتها؛ في الواقع، لم تكن روما منفتحة على الدّوام، خصوصا أثناء تاريخها المبكر، حيث استطاعت أن تُقحم نفسها في نظام دبلوماسية القرابة القائم في العالم اليوناني، والذي يفترض علاقات الدم كرابطة حصرية في المقام الأول، كما أن فكرة الفخر بالهوية المحلية والرومانية على حد سواء كانت موجودة في إيطاليا لبعض الوقت؛ شاهدُ ذلك إشارة إنيوس إلى "قلبيْه"؛ لقد كان للنخب المحلية دافعا قويا يجعلهم يطمحون إلى أن يصبحوا مواطنين ومن ثمّ المشاركة في وقت لاحق في النظام المركزي للسلطة، ليصبح نجاحهم بعد ذلك مسألة فخر محلي.
إن استيعاب النخب المحلية لروافد الرومان الخارجية، واشتراكهم الواعي، وبحماس شديد، في الهوية الرومانية مكّن لعملية "الرّوْمنة" من أن تكون سريعة؛ فحتى بلاد الغال المتمسكة بعاداتها المحلية اُحتضنت في السياق الروماني بما لا يتناقض وعُمق معايير الإمبراطورية .
استولى الرومان على المفهوم اليوناني لـ البربري، لكنهم قاموا بتغييره؛ لقد عاش البربري في أطراف الإمبراطورية، على حواف العالم أين يسود المناخ القاسي؛ بهذه الطريقة أصبحت الهوية الرومانية مرادفة لـ "الحضارة"؛ فوَجبَ التذرّع بالفتح المتحضّر كمبرّر للإمبريالية، أي يجب احتلال الشعوب الهامشية وإدخالها بالقوة في التمدين.
مع إقرار "دستور أنتونين" أصبح الحد الفاصل بين الحرّ والعبد مشوشًّا، وأضحى الإعتاق ممارسة شائعة؛ وفي وقت لاحق كان لكلمة وثني Paganus دور أساسي في نشأة التمييز بين المسيحيين وغيرهم؛ وهكذا إذا أُريد للمقارنة بين العالمين أن تتم، فسيكون هناك إقرارٌ بتراجع العوامل العرقية على حساب نظيراتها الثقافية في تحديد مفهوم الهوية.
ملاحظات ختامية:
شُيّدتِ الهوية في العصور القديمة من أجل الفرد، يعرّف نفسه بها ويتلقى معايير المجتمع على ضوئها، كما أن العادات، التقاليد والأساطير خُلقت لتعزيز وإضفاء الشرعية على الشعور بالانتماء؛ غير أن بناء الهوية يمتاز بالمرونة ويمكن أن يطاله التغيير مع مرور الوقت، مثلما تتغير الطرق التي تتجلى فيها العادات والتقاليد التي يقوم عليها المعطى الهوياتي.
ينبغي للدراسات المستقبلية عن الهوية في العالم القديم أن تكون أكثر إيغالًا في الاختلافات القائمة بين الأفراد ومجموعات المصالح، والتي لها قابلية التغيير مع مرور الوقت، فالدول/ الإمبراطوريات تعمل على تعزيز العناصر المشتركة بين قاطنيها، لكن الارتكان إلى أيديولوجية الدولة في صناعة الهوية ليس إلا عاملا واحدا، فهناك عوامل أخرى تؤثر على رؤية الأفراد لأنفسهم مثل الاحتلال، المعتقد الديني، التوجه الجنسي، الثروة والوضع الاجتماعي.


قائمة المراجع:
- Edward Herring. Ethnicity and culture, in : Andrew Erskine (ed), A companion to ancient history, Willey-Blackwell, U.K, 1st published, 2009.
- Jonathan Hall. Hellenicity between ethnicity and culture, University of Chicago press, Chicago, 2002.
- Hugh Elton. Warfare in Roman Europe, AD 350-425, Oxford classical Monographs, New York, 1996.
- Elizabeth Fentress. Romanizing the Berbers, Past and present, volume 190, Issue 1, February 2006.












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل