الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبقرية طه حسين (3) وحيدا مهملا بلا أنيس أو خليل

عمر أبو رصاع

2006 / 3 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كان يوما من أيام الخريف في عام 1902 ، حمل القطار طه حسين برفقة أخيه ليجاور في الأزهر الشريف وما هي إلا سويعات يجد عقبها طه حسين نفسه مصليا الجمعة في الأزهر ، ويذكر لنا أنه ما خلا الراءات والقافات المفخمة ما وجد فرقا بين خطبة الخطيب هنا وخطبته في بلده فهي هي كما تعودها.

سأله أخوه عن رأيه في درس القراءات والتجويد فأباه وقال بل أريد العلم ، وكان العلم في حدود ما نما لعلم طه الفقه والنحو والمنطق والتوحيد، وما أن استقر طه بجوار عامود من أعمدة الأزهر ومسه بكفه حتى ابتدره قول أبيه له " إني لأرجو أن أراك صاحب عامود في الأزهر" وما أن جلس طه لأول حلقات المشايخ حتى اهتزت نفسه أسفا ويصف شعوره ذاك بأنه كان قد اسقط العلم في عينه فاحتقر العلم! ذلك أن الشيخ المحدث ما أن بدأ حتى وصل قوله "ولو قال لها أنت طَلَاقٌ أو أنت ظَلَامٌ أو أنت طَلالٌ أو أنت طَلاةٌ ،وقع الطلاق ولا عبرة بتغير اللفظ ، فاهم يا أدع – يعني جدع-" .

يكتب طه حسين ذلك وابنته في حجره يسلى عنها بقصة أوديب الملك ويختلف لذهنه بين هنيهة وأخرى الفتى القاصد العائد للأزهر ومنه نحيلا شاحب اللون فقيرا معدما زري الهيئة ليستمع لشيخه يقول له "ولو قال لها أنت طَلَاقٌ أو أنت ظَلَامٌ أو أنت طَلالٌ أو أنت طَلاةٌ ،وقع الطلاق ولا عبرة بتغير اللفظ ، فاهم يا أدع " ، يتذكر كم يلقى الأزهري من مشقة في سبيل ما يحصل وكيف أنه يعيش على خبز الأزهر الغني بصنوف من القش والحشرات والحصى شهورا يتذكر كيف أن الأزهري من أهل الريف يجاهد ويلقى من شظف العيش ما يصعب اليوم أن نتخيله مهما بلغ بنا ضيق ذات اليد وفقر الحال ليحصل علما أو ما كان يعرف بأنه العلم وما أن ينهي سنته ويقفل عائدا حتى يجلس لوالديه محدثا بنعيم كاذب ورغد عيش مزعوم لأنه أيضا مطالب بأن لا يقلقهما ويثير شفقتهما وشعورهما بالعجز.

كان طه مقبلا على الدرس بظمئ رهيب يصفه قائلا " كان له شعور غامض بأن العلم لا حد له وبأن الناس قد ينفقون حياتهم كلها ولا يبلغون منه إلا أيسره . وكان يريد أن ينفق حياته كلها وأن يبلغ من هذا العلم أكثر ما يستطيع أن يبلغ مهما يكن يسيرا. وكان يسمع من أبيه الشيخ ومن أصحابه من أهل العلم أن العلم بحر لا ساحل له .... وأقبل إلى القاهرة وإلى الأزهر يريد أن يلقي نفسه في هذا البحر فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت فيه غرقا. وأي موت أحب إلى الرجل النبيل من هذا الموت الذي يأتيه من العلم ويأتيه وهو غريق في العلم!"

كم هو رائع أن يلقى الانسان فعلا هذا المصير يأتيه الموت من العلم ويأتيه وهو غريق في العلم ، تحضرني هنا بإلحاح جنة سقراط أبو الفلاسفة والمعلم الأول حين حكم بالإعدام فقبله ورفض الهروب عنه كما أراد مريدوه فسألهم : لماذا حكمت أليس لرأي رأيته؟! فماذا بالموت إذن إما نوم هو راحة للنفس من شقاء مضطهدي وإما هي جنة الله حيث تخلو لكل عقل تريد تحاوره حرا فلا تعدم ولا تكفر.
تتداخل هذه النماذج من البشر الذين كبرت نفوسهم وملأها حب المعرفة وتتبع الحقيقة واستجلائها ، وهل أعظم من العلم مقصدا وغاية ؟ بما ميز الله آدم عن ملائكته؟ أليس بأنه علمه الأسماء ؟
يصف طه المكرور المكرور الذي يستفتح به ويعاد ولا يزاد من درس :
" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المؤلف رحمه الله ونفعنا بعلمه آمين.....".

بدأ طه دروسه فوجدها يسيرة الفهم وبدأ بالحديث فكان يفهم بجلاء ما يلقى عليه ولا ينكر منه على حد وصفه " إلا تلك الأسماء التي كانت تساقط على الطلبة يتبع بعضها بعضا تسبقها كلمة حدثنا وتفصل بينها كلمة عن". وما كان طه حافلا لا بالعنعنة ولا المعنعن عنهم وإليهم ولا بتفسير الشيخ وإنما بالمتن نفسه ، وكانت عبارة واحدة تعني أن الدرس انتهى في الأزهر دائما وهي والله أعلم، فيفهم صاحبنا أن الشيخ انتهى.

كان طه الصبي يقاد إلى حجرته بعد الظهر ليجلسه أخوه على حصيرته فيها ويغادره فيقضي طه ساعات وساعات وحيدا مهملا بلا أنيس أو خليل ولأن نفسه كانت عزيزة فما كان يشكو ليقضي في هذه الحال ما شاء الله له أن يقضي حتى يأتي المساء. – يتبع –








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على


.. 174-Al-Baqarah




.. 176--Al-Baqarah


.. 177-Al-Baqarah




.. 178--Al-Baqarah