الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- وهم المعرفة - - عرب الهايكو ورأس الديك

باسم القاسم
شاعر وناقد

(Bassem Ahmad Al Kassem)

2018 / 7 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


" وَهْمُ المعرفة "
عربُ الهايكو ورأس الديك
توطئة :

ربّما وددتُ أن أفتتح هذه الدراسة بكلماتٍ لمفكّرٍ غادرنا منذ أشهُر وهو العالم البريطاني " ستيفن هوكينغ " من حيثُ أنّ الأوساط العالمية مهتمة جداً بتفاصيل سيرته وكأنّها حديثةُ عهدٍ بأفكاره وموضوعاته أو كأنّنا للتوّ عرفناه ،هكذا مثلما أننّا حديثو عهدٍ بشعر الهايكو نسبيّاً بعد مضي اربعة قرون على موت مبتكره((ماتسو باشو))* ..
ولعلنا مع " ستيفن هوكينغ " وهو معاصرٌ لنا ،مواكبٌ لطبيعة مادة التفكير السائدة في هذا العصر سنكون بغنىً عن الاستشهاد بعباراتٍ من الزمن الغابر لنقارب بين طبيعة الزمان الذي قيلت فيه وطبيعة عصرنا هذا ولذلك سنكتفي بفذلكة له مهمّة على ما أعتقد تساعد في منحنا مدخلاً موفقاً لقصديّة هذا البحث وهي وردت في عبارته الكاملة " إنّ أعظم عدوّ للمعرفة هو ليس الجهل ، إنّما هو وهمُ المعرفة "

وحيث أننا لابدّ وأن نكون مسؤولين أمام هذه الحيرة العارمة التي تندلع وساوسها في ذهنيّة القارئ العربي أمام قصيدة الهايكو وكذلك كتّابه على حدٍّ سواء ، فلا غرو لو تفحّصنا أنفسنا كمهتمّين بشأن الهايكو(1 ) لنعرف هل نحن مصابون بـ"وهم المعرفة " حتّى وصلنا إلى مقام الحيرة والجنوح في تعاملنا مع موضوعة شعر الهايكو !

تمهيد :

إنّ العودة إلى أبسط تعامل مع هذه الظاهرة لفيه مندوحة كبيرة عن ضلال التفاصيل وفوضى الفرعيات
فبكل بساطة نحن مع الهايكو وقبل كل شيء نتعامل مع مفهوم " الوافد الأدبي" وإنّ مقاربةً محكّمة نقوم بها عن طريقة تعاملنا مع الأنماط الشعريّة التي وفدت إلينا من جهة وهي كثيرة وبين تعاملنا مع الهايكو هذا الوافد الجديد من جهة أخرى ستحقق لنا تكوين نواة صلبة وحقيقيّة على ما أعتقد يمكن أن نرتكز عليها في تقيمنا لأنفسنا في هذا الصدد وكيف وصلنا إلى مانحن عليه الآن .
إنّ الوافد الأدبي بتكوينه يحمل سمةَ تغيير المألوف وهذا التغيير إمّا أن يكون شكليّاً أو جوهريّاً وربّما كلاهما ولعلّ الوافد لا يحمل شرط أن يكون مصدره لغة أجنبيّة على لغتك فمثلاً مصدر الموشّحات هو عربي مغاربيّ وقد كان أوّل ما ظهر واستشرى التوشيح في الأندلس والمغرب العربيّ فتمت مواجهته باستنكار وتهميش حين وفد إلى المشارقة ثمّ ما لبث أن فطن له المشارقة وبدأوا باستخدام التوشيح وفي ذلك دراسات لمن يحبّ الاطلاع
من جهة أخرى وهي الأهم وفيها مقصدنا وهي تلك الأنماط الوافدة إلينا من مصادر أجنبيّة علينا وعلى سليقتنا الشعريّة ولعلّ أهمها قصيدة التفعيلة تلتها السوناتا تلتها قصيدة النثر فالأبغراما فالومضة ..إلخ
لن أختلف مع أحد في الترتيب السلمي المرحلي لبروز هذه الأنماط وكذلك لن ندخل في صميم السبب الذي جعلنا نسميها وافدة أو أنّه لا يحق لنا أن نسميها كذلك وسنتجه مباشرة إلى طريقة تعاملنا معها وكما اتخذتُ من عبارة "هوكينغ " مدخلاً للحديث كوننا حديثي عهد بغيابه فسأتخذ من المفكّر و الشاعر السوري أدونيس مثالاً يحتذى به في هذا الصدد وهو ما يزال بين ظهرانينا، فلعل الألقاب التي لحقته كونه منظر الحداثة الشعرية ورائدها تتيح لنا أن نتداول مع بعضنا اسماً لا خلاف على جدارته في سياق مقاربتنا

المحور :

إنّ تنظير الشاعر السوري أدونيس حول قصيدة النثر العربيّة وأخواتها من حيث الوفود والجِدّة وراءه ما وراءه من خلفية ثقافية وذهنية ذات بعد معرفي مُقتدر بلا شك ولكن سنترك هذا الجانب ونتجه إليه وهو يمنحنا مثالاً تطبيقياً واضحاً لمقاربتنا ، فلقد عاد أدونيس في مشروعه إلى شعر الزمن الغابر عند العرب في فصول من كتابه «مقدّمة للشعر العربي» ولكنّه لم يكن يسعى فقط الى مواجهة الحملة التي قام بها حينذاك الشعراء المحافظون والتقليديون ضد الشعر الحديث بل كان يمضي في ترسيخ مشروعه «الحداثي» أيضاً مستعيناً بالتراث نفسه ومعيداً قراءته قراءة معاصرة ونقدية. وتمكّن أدونيس انطلاقاً من هذا "المشروع" الضخم أن يشرح هامشاً قد تم تغييبه عن الشعريّة العربية والتي تعطي صفة " شعر" للكلام بدون الاهتمام لقضية البناء والشكل وأنّ قصيدة المعنى هي أرقى تجلّيات الشعريّة العربيّة وليثبت احتفاء العرب بالمعنى الشعري على حساب الشكل واحتفائهم بتوليد اللغة الشعريّة قديماً وقيمة الموسيقى الداخليّة من خلال تعمّقه في مؤلفات شعريّة تراعي التسلسل الزمني وكذلك مقولات فقهاء الشعر في زمانهم وغيرهم ليصل إلى نتيجة (( لا يجوز إذن أن يكون التمييز بين الشعر والنثر خاضعاً للوزن والقافية ،فمثل هذا التمييز شكلي لا جوهري )) ويعتدُّ بشواهد على ذلك كثيرة ولكن سأضع شاهدي الخاص كشاهد الزمخشري في كتاب الكشّاف أن حسان بن ثابت لسع زنبورٌ ابنه عبد الرحمن وهو طفل فقال : ما يبكيك بنيّ فقال :" لسعني طويرٌ كأنّه ملتفٌ في بردة حبرة " فضمّه إلى صدره وقال : قد قلت شعراً بني ..
من هذه الزاوية ينبغي للبصيرة الحاذقة أن تعرف بأنّ أدونيس أراد أن يثبت بشكل غير مصرح به في جزء من مشروعه بأنّ الوافد إلينا من هذه الأنماط مهما كان متقدّماً فهو لا يمثل ظاهرة من الانقطاع الكلي عن التراث الشعري العربي بل فيه إكمال لما بدأهُ آباؤنا ويجب علينا أن نستمر في التطوير وأنه في النهاية ثمّة أصوليات لغويّة شعريّة عربيّة كثيرة تسير في ذات السياق الشعري لهذا الوافد ، وهذا ما سهّل حقاً على العرب إمكانية مواكبة النمطيّة الشعريّة العالمية السائدة آنذاك بقدرة كبيرة وطمأنينة وقد وصلت أسماء بعض الشعراء العرب إلى مصافّ العالمية ومن هؤلاء البعض من انطلق بمسيرة الحداثة بدون أن يعود حتّى لأدونيس وأقرانه فقد كان مكتفياً بجهده ..
إن أدونيس من هذا الجانب و باختصار كان يهدئ من روع الشاعر العربي المُحدّث شكلانياً وكذلك القرّاء على حدٍ سواء، فالجوهر لم يتغيّر من ناحية الإجراءات المعتمدة في اللغة الشعرية والجماليّة الباهرة الصادرة عنها ولكن موضوع القصيدة ومناقشاتها هو من ناله التغيير ..وكانت طريقته هذه الأكثر جدوى ونجاعة في التعامل أو التبشير بالوافد الشعري الجديد وذلك حين يثبت أنّه ليس بالجديد "جوهريّاً" إنّما هو مغفلٌ عنه لدينا حين وفدت قصيدة النثر وحسب ..
ولكن هل أدونيس وأقرانه العرب الأكفاء صدر عنهم هذا الجهد الكبير من مزاولة التخمين على نصوص غربية شعريّة ((مترجمة )) وحسب ؟أم على افتراض يحتاج للبرهنة أم اقتراح قابل للترجيح أم على ليّهم لعنق الشعريّة " الوافدة " ..! بالتأكيد هم جديرون بأن لا يقعوا في هذا الفخ ، فخ" وهم المعرفة " وذلك لأنّهم مطلعون ومتبحرون في النتاجات الفكرية والنقدية لتلك الشعوب التي وفدت إلينا أنماطهم الشعريّة فضلاً عن أنّهم يقرأون النصوص الشعريّة الوافدة بلغتها وهم على معرفة بخصائصها الدلاليّة العامّة والكلّية قبل أن يكونوا ضليعين بقراءة تراثنا الشعري وهويّته الابداعية ، ولعلّ أجمل مؤلفات أدونيس تلك التي حاولت إجراء مقاربة جريئة هو كتابه " الصوفية والسورياليّة " ، فإذاً وبمثل هذه اللياقة وحسب يمكن أن ينجو أحدنا من فخ " وهم المعرفة بالوافد الشعري " ..

المتن :
حسناً
ما الذي حصل مع شعر الهايكو ؟
الذي حصل هو أنّ أغلبيّةً ممن استهواهم هذا الوافد الجديد الهايكو - وحريٌّ به أن يستهويهم - كانوا يشعرون بمسؤولية وضرورة التوطئة لهذا الوافد الجديد إلى العرب فانقسموا إلى فئتين :

الفئة الأولى :

حاولت أن تعتمد الطريقة الأدونيسيّة - والتي أوضحتها من زاوية بعينها سابقاً – وهي طمأنة الكاتب والقارئ والتخفيف من صدمة الاحتكاك بنص الهايكو ولعمري إنّها لصدمة ، ولكنها وقعت في فخ " وهم المعرفة " الذي لم يقع فيه أدونيس فالمطلّع على مجمل تنظيراتهم يجدها قد اتبعت مبدأ " رأس الديك " وهي حكاية تستخدم عادةً لتشرح علاقتنا مع الغيب حيث قيل (( إنّ رجلاً أصابه العمى في الطفولة ولكنّه قبل أن يصاب رأى رأس ديك فقط فكان كلّما ذهب أهله لمناسبة أو لقاء سألهم عن المجريات والأشخاص وقبل أن يسأل كان يبدأ سؤاله عن الشيء بـ / أين هو من رأس الديك / فمثلاً إن كان سؤاله عن العروس كانوا يقولون هل تعرف الأحمر في عرف رأس الديك فإنّ ثوبها كان أحمر كهذا العرف … وإلخ ، هو يسأل هكذا باعتبار أن كل شيء سوى رأس الديك هو غيبٌ بالنسبة له "

وعلى ذلك نجد أن الحفريات عند هذه الفئة بدأت في عميق المراجع العربيّة من ابن رشيق إلى الآمدي وصولاً إلى الجرجاني والقرطاجنّي وكلّ أولئك المسؤولون عن فقه الشعريّة العربيّة وذلك في سبيل إيجاد عبارات " أُخرِجت عن سياقها " لتخدم آلية رأس الديك فنجد حفراً وتفتيتاً في مفهوم المجاز والصورة وتنقيباً في مفهوم البلاغة والمماثلة والمشابهة عند العرب لنجد أمامنا اشارات ملتبسة في علاقتها بنص الهايكو فنضعها كطابع بريد ونرسلها إلى المهتمّين وربّما الأمر ذهب بالبعض إلى أبعد من ذلك وهو التنويه إلى أنّ أدبيّة الهايكو الياباني فيها الكثير من حداثة شعريّتنا العربية ! وهنا يبرز سؤالٌ مهم
لماذا أعتبرُ أنّ طريقة التعامل هذه تشبه طريقة التعامل مع الغيبيات ولماذا الحديث عن رأس الديك
الجواب هو أنّنا لو تعمّقنا في درس أدبيّة الهايكو الياباني وفي مراجعه اليابانيّة والأوربيّة على حد سواء وبأننا لم نكتفِ بعناوين أو بالمرورات النقديّة السريعة على موضوعة الهايكو أو بنصوص يابانية فقط مترجمة لاتغني ولا تسمن من جوع في قضية فقه نحويّة الهايكو حصراً لوصلنا للخلاصة التالية :
1- إن الهايكو اليابانيّة بما لها وعليها تشكّل قطيعة بائنة مع شعريّة تراثنا و جديدنا الشعريّ مهما نقّبنا واستنبطنا في المراجع العربية حول ( كيف يكون الكلامُ شعراً ) بالتحديد، وإن ذلك لن يخدم طريقة تعاملنا مع موضوعة الهايكو الوافد
2- حين نتعمق في أدبيّة شعر الهايكو الياباني نجده ينقلب على الشعريّة العربيّة والغربيّة على حدٍ سواء وبمواضيع عِدّة جوهرية لا تحصى فمن لم يعرف ذلك أو يتحرَّ عنه سيبدو لنا أنّه يحدّث الجمهور عن غيب ولكنّه ليس كذلك فالمراجع والمكتبات المختصّة تملأ هذا العالم القرائي ونحن لسنا بحاجة إلى رأس الديك..
حسناً هل يمكن أن نفرد في هذه الفسحة الضئيلة من البياض جانباً نبيّن فيه كيف أنّ هذه القطيعة الجذريّة هي حقيقة ، سنحاول في بنود مختزلة ولكنّها تمثّل جوهرانية وأدبيّة شعر الهايكو بحيث أنّنا لو أسقطناها من أي نص فهو سيخرج عن حمى الهايكو :
أوّلاً:
في هذا البند أعرض لقرارات وسأكتفي بها فهي تخزل الكثير من المفهوم السائد عن الترابط بين الشعر والشاعر والذي ظهر في مجلدات وكتب صدرت عن فقهاء الشعريّة العربيّة والعالميّة إن جاز التعبير على مدى قرون " ميتا فيزيقيا الشعريّة العربية والغربيّة " ،وأقول هي" قرارات " ليس من باب دوغمائيّة أمارسها بل لأنّ الهايكو حين يصبح جليّاً بأنّه يخالفها نجدُ ردة الفعل عند من يتبنّى هذه العبارات تتهكم على الهايكو وربّما تسفّهُ أحلام كتّابه لأنّ الهايكو لا يتبنّاها :
ـــ الجاحظ / (( الشاعر يصور الطبيعة ويحاكيها فيضيف إليها أو يختصر منها أو يصور العواطف فتكون خيراً أو شرّاً ، أيّ أنّ فن الشعر بالنهاية ليس نقلاً حرفيّاً للواقع في محاكاة للأصل ، والقارئ حين يأتي فإنّه يتفاعل مع ما يخلقُه الشاعر )) ,أشير إلى أن هذا الخلاصة سبقها أرسطو ومن قبله أفلاطون حين عدّا أن الشعر هو محاكاة للطبيعة مع تباين بينهما أي بين الشعر والطبيعة الأصل ، أي أنّ الشاعر داخل القصيدة يحاكي الطبيعة بما تمليه عليه ذاته المنفعلة مع ما يراه أو يتخيّله
ـــ مارتن هايدغر / ((اللغة تقول الوجود، كما أن القاضي يقول القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصا تلك التي ينطق بها الشاعر، بكلامه الحافل، أما الكلام الزائف فهو كلام المحادثات اليومية ،إن هذا الكلام سقوط وانهيار)) إن الاختيار الدقيق لهاتين العبارتين أعتقد أنّه كافٍ ومختزل لأغلبية المقولات في سؤال عام وهو " ما الشعر ومن الشاعر " والمطلعون يدركون أنّ روافد وأنهار كثيرة للأفكار عن الشعر والشاعر تصب في بحر هاتين العبارتين فالشاعر داخل القصيدة هو نبوءة أو جزء منّها هو القاضي هو الخلّاق المؤثث هو الرائي داخل النص …إلخ حتى عند أصحاب المذهب الرومانتيكي في الشعر فإنّ قرارات الشاعر حاضرة داخل القصيدة وهي المايسترو الموزّع لرومنسية وصفه للطبيعة وربّما يسعفني في هذا توضيح القرار الأخير من
ــ رومان ياكبسون / ((إن الوظيفة الشعرية كالزيت الذي يغير مذاق كل ما يؤكل إلى درجة أن السمكة تغير اسمها لتصبح سمكة بالزيت )) …
والآن إلى الهايكو :
- ((إنّ الهايكو لا يقرّر و لا يحكم على الأشياء وإذا وقع ذلك فهو ليس هايكو))#
بمعنى أنّ الهايكو لا يقيّمُ حضور الأشياء ، والشاعر لا يقرّرُ فيها شيئاً إنّه وحسب يقدم صورة موضوعيّة عنها وكما يقول المثل الياباني " إنّ صورة واحدة خير من عشرة آلاف كلمة "
- (( إنّ محتوى الهايكو ليس عن الشاعر، أو كيف يفسر محتوى قصيدته. هذه هي أعظم المخاطر على كتابة هايكو جيدة))#
يمكن أن نعدّ ما لا يتسع له المقام هنا من هذه التباينات الجذريّة في هذا البند ولعلّي أقدم مثلاً يفهم منه الكثير حول هذا التباين والرفض المتبادل بينهما وهي عبارة تشير مباشرةً إلى ما يقصده آباء الهايكو عن محتوى النص مع أنّ صاحبها ليس يابانيّاً فالممتع في ذلك هو أن ننظر إلى أدونيس كيف يردّ عليها وهي عبارة أوردها في مؤلّفه " الصوفيّة والسورياليّة " ورد عليها في نفس المؤلّف وهي للاهوتي غريغوار بالاماس**
يقول :(( لا يقدر أي كلام أن يأمل أيَّ شيء غير فشله الخاص )) فيردّ أدونيس على هذه العبارة بعدها مباشرةً ((وهل يسع الإنسان إلّا أن يستمرّ في ذلك )) على ما يبدو أنّ الانسان يسعهُ ألّا يستمرّ في ذلك حين يريد أن يتكلم شعراً فشعر الهايكو يحقق ذلك بل وهدفه ذلك ..
وتصرخ في وجوهنا عبارة لأدونيس تقصي أي محاولة للمقاربة مع الهايكو فيقول (( الشيء الذي توضّحَ ، ولم يعد يخفي إلا الوضوح ولم تعد له طاقة إلّا طاقة الوضوح ، يفرغُ من الشعر)) في حين أنّ الوضوح النادر والبساطة الجميلة معاً هما روح الهايكو ، وربّما لو أردت أن أحضر مقولة تفصّل بإيجاز ميزة الهايكو في مواجهة مقولة أدونيس في هذا الباب بالذات فسأجدها عند الكاتب والمترجم السوري أسامة أسعد أحد مثقّفي الهايكو العرب أجدها حين قال :
"فلسفْ الهايكو – خارج النص - ولكن لا تتفلسف فيه – داخل النص- "
ثانياً :
إن الشعريّة العربيّة والغربيّة على حدٍّ سواء لم تضع أهمّية أو شرط أساس على الشاعر في طريقة ومناخ انفعاله بالمحيط أو الأحداث التي يكتب عنها أو كتب قصيدته لأجلها فالباب مفتوح على الغارب لكل ما يمكن أن يصبح الشاعر ممسوساً به ابتداءً من الافتراض والتخيّل الذهني أو التقمّص الشاعريّ أو تعطيل الحواس أو تجربة ذاتيّة حقيقيّة أو يتمثّل حدثاً إنسانياً عن بعد أو حتّى لأنّه يتبنّى ايديولوجيا ما في كلّ ذلك لا تثريب عليه وهو يبتكر القصيدة في مختبره اللغوي .
والآن إلى الهايكو :
نجد أن الهايكو يضع إجراءً اساسيّاً يعيش مناخه الشاعر ليتولّد عنه نص " هايكو " :
(( التمِسِ الصنوبرَ إن أردتَ أن تتعلم ماهية الصنوبر، أو الخيزران إن أردتَ أن تتعلم ماهية الخيزران ، إنّ الشعر الحقيقي ينبثق من تلقاء ذاته فقط حين تصبح أنت والغرض واحدًا/ باشو لتلميذه ))
ربّما نجد اعتراضاً يقول : ولكنّ العرب والغرب حبّذوا الشعر خصوصاً حين يصدر عن تجربة ذاتية ولم يدينوه ، أقول نعم ولكن لم يكن ذلك عندهم شرطاً أساساً فإن سقط فهو يخرج نصّك الشعري عن الشعر ، فإن قلتَ أن هذا التقييد بهتانٌ مبين فشرط الحرّية من القيود الكتابيّة هو أساس الابداع الشعري وعلينا أن نسقط هذا الشرط أثناء كتابة نص هايكو ، سأقول لك فليبق هكذا الأمر عندك فإنّ "ماتسو باشو" لن يكترث كثيراً وربّما لو كان حيّاً لاكترث حقّاً كيف أنّه الشاعر الذي أصبح الأحجية الأكثر دراسةً وشهرة في العالم ، وهذا ليس عندي وعندك لنختلف عليه ، هي تقييمات عالميّة صارت واقعاً ..
الفئة الثانية :
هي نخبة وبعد اطلاعها على المرجعيات خرجت بخلاصة ظهرت على شكل قرار حاسم يحمل سمة الثورة والانقلابية وكسر القالب والتجديد …إلخ – كما يسمّونها - ولكن خلفيتها ناتجة على ما يبدو عن يأس ، وللأسف أنّ هذا اليأس اتهم به القارئ العربي حيث أنّهم قرروا ما يلي :
(( إنّه من الميؤوس أن يحبذ القارئ العربي نص الهايكو بصفاته الجوهرية التي ذكرتها سالفاً وعلى ذلك فإنّه لابد أن تظهر في قصيدة الهايكو أساليب الشعريّة العربية من بلاغة واستعارة وكنايَة بنسبة ملحوظة ونزاوجها مع موضوعيّة مشهد الهايكو وقد ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك وهو أن العربي عندهم يجب أن يستأنس حتى لإسم هذا النمط في الشعر وقد حدث ذلك بالفعل وتم ابتكار تسمية!))
أعتقد أنّه كان أخفّ علينا بكثير أو أنّه أقرب للدقّة لو قلنا " نحن من نكتب الشعر يائسون من أن نستطيع كتابة نص هايكو ونحن في قطيعة " بنيويّا " مع الأساليب الشعرية التي ورثناها أو اكتسبناها عربياً وغربياً " فالمتلقي العربي جديرٌ بتطوير ذائقته للجمال الايحائي بلاشك فهو مؤمنٌ بقدرة اللسان العربي ولكنّه يعرف بنفس الوقت أن قواعد ما يجعل الكتابة شعراً هي قابلة للقلب والنقض دائماً وهي ليست قدراً ولا ينبغي لها أن تكون كذلك

إنّ ما أغفلته هذه الفئة نجملهُ في النقاط التالية :

أوّلاً :
إن شعر الهايكو يرفع شعاراً لا يمكن أن يتنازل عنهُ وهو أنّه شعرٌ ( حقيقيٌّ ) وشاعرهُ ( صادق )
فيسأل أحدهم : وهل تاريخ طويل عريض من الشعر العربي وحتّى الغربي كان كاذباً ؟
أقول القضية هي في ماهية معيار " الحقيقي والصادق " في الشعر فهما متباينان جداً بين الهايكو وسائر المذاهب الشعرية عموماً ..
- وقبل أن أخوض في هذه النقطة أريد أن ألفت النظر إلى أن كلمة صادق أو كاذب لا تأخذ هنا على المحمل الأخلاقي وإّنما تأخذ على محمل أنّ هذا الانجاز هل هو صادقٌ أم كاذب في اقترابه من أن يكون شعراً حقيقيّاً ..مثلما نقول حملٌ كاذب هنا يكون ثمّة حمل في الرحم وجميع علاماته المرافقة ولكن ليس ثمة جنين سليم ولا ولادة حياة فالأم لم تكذب فالحملُ هو الكاذب ..

- والآن تعال معي نبحثَ عن المعيار في قول عبد القاهر الجرجاني : " إنه قد أجمع الجميعُ على أنّ الكنايةَ أبلغُ من الإفصاح، والتعريضَ أوقعُ من التصريح، وأنَّ للاستعارة مزيةً وفضلاً وأنَّ المجاز أبداً أبلغُ من الحقيقة " ثم يقول " وهكذا قياس التمثيل ترى المزيّة أبداً تقعُ في طريق إثبات المعنى دون المعنى نفسه" ... الواقع هو يحدد الشعر الحقيقي في العدول عن أسلوب الحقيقة إلى أسلوب المجاز فهو حقيقة الكلام الفني المؤثر والمتحقَّق في الشعر بحيث تجعل الكلام يوهمُ أنّ المجاز حقيقةٌ وتلك هي خاصيته البلاغية ولن يكون الشعر حقيقيّاً إلّا بها ..
-ومن ناحية الصدق نجد أنّ معياره يريد منك أن تكون معتدل في أسلبة الكلام فالصدق هو الاعتدال في استخدام هذه الأساليب مع الحرص على خدمتها لقضية ((تجعل الكلام يوهمُ أنّ المجاز حقيقةٌ )) فالمبالغة كذب والكتابة عن الشي كما هو في الواقع سذاجة وإغفال بمعنى أنك تكون صادقاً حين تكون وسطيّاً في حسن استخدامك لهذه الأساليب في الاستعارة والكناية وأنت تحاول أن تجعل الكلام يوهم أن المجاز حقيقة هو حقيقة الشيء..
- الواقع إن اكتفائي بوجهة نظر الجرجاني أجد فيه لما تصبو إليه هذه الفئة و ينجم عن عدة أسباب ومنها مكانته المرموقة في النقلة النوعية التي انتقل بها العرب من القديم إلى الحديث في موضوع البلاغة وهي خصوصاً ما اعتمد عليها شعراء قصيدة النثر الحديثة في إخراج الحجج والبراهين وكذلك يعتبر الجرجاني من أكثر الفقهاء البلاغيين في الشعر الذين تمت المقاربة بينهم وبين من تناول البلاغة في الغرب وهذا ما قدّمه بوضوح د. محمد العمري في مألفه " البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول " حيث تناول الثنائيّة البلاغيّة الشهيرة (( الشعريّة كذبٌ ربّما يصْدُق والخطابيّة أو الحِجاج صدقٌ حتى يكذّب )) ، وأخيراً لأنّ الجرجاني بكلامه الحافل هو المشجب الذي اعتمد عليه الكثيرون من أصحاب هذه الفئة في الهايكو في تعليق قراراتهم عليه ..
- وإذا كنت سأورد شيء من الغرب فسأكتفي بعبارة واحدة حيث ظهر مصطلح ((اللّا- أدب )) و يعود استعمال هذا المصطلح إلى "كلود مورياك " ويقصد به :
الّلا أدبية هي التعبير عن الالتزام بالتلقائيّة والبساطة والابتعاد عن المحسنّات اللفظية والتكلف في التعبير عن الموضوعات الأدبيّة لأن هذا الكلام سيكون كلاماً لا أدبيّاً
والآن إلى الهايكو :
1- (( إنّ الوردة هي وردةٌ في الهايكو وفقط / باشو لتلميذه ))
2- ((قد يكون شعرك جيدا إذا كانت مشاعرك ليست على طبيعتها ولكن إذا كنت تكتب عن شيء ونجدهُ في القصيدة شيء آخر فإن شعرك ليس شعرا حقيقيا بل مجرد تزييف ذاتي / باشو لتلميذه))
3- (( عندما نرى شيئاً طويلاً فلا ينبغي أن نفكّر بأنه أطول من اللزوم إذا كان في الواقع طوله طبيعياً ولا ينبغي أن نفكّر بتغيير هذا الطول / ماساأوكا –تشيكي*** ))
وفي معيار الصدق والكذب :
4- ((عليك أن تترك اهتمامك الذاتي بنفسك. وإلا فأنت تفرض نفسَك على الغرض ولا تتعلم. ينبثق شعرُك من تلقاء ذاته حين تصبح أنت والغرض واحدًا – حين تغوص في الغرض غوصًا من العمق بحيث ترى ثمة شيئًا أشبه بالبريق الخفي / باشو لتلميذه ))
- أعتقد أنني لا أجد ما يمكن أن أشرحه في هذه العبارات فهي واضحة وتشرح نفسها فقط تحتاج أن يقوم القارئ بالمقاربة بينها وبين ما سبقها ليجد أن ما سميّ بالانقلاب والثورة وكسر القوالب من قبل هذه النخبة يُعدم الهايكو ولا يُبقى له أثراً فنجد أن النص ومضة بارعة التقنيّة ،والخلاصة في هذه المقاربة يمكن نقولها بسطر واحد : إن الشعر الحقيقي –عندنا- هو الذي يكتب كنه الأشياء والظواهر التي ننفعل بها والشاعر الصادق هو الرائي الذي يشرق في وعيه كنه وجوهر الأشياء فيكتبه بلغته العالية
أمّا في الهايكو فتختزله عبارة هينغسون الجليلة عن الهايكو " إن الأهم والأصدق هو أن أشاركك المشاعر وذلك بأن أكتب لك الحادثة التي أدت إلى مشاعري وليس أن أشرح لك هذه المشاعر "
وفي نهاية فقرتنا هذه تحضرني بشدّة مقولة "سير والتر رالى WRaleigh والتي استشهد بها " ألفن كرنان" في مؤلّفه الممتع موت الأدب ويف أنّ السير والتر يقترب من جوهر الهايكو بدون قصد فقال :
(( لو استطاع شابٌ ناشئ أن يجد مجتمعاً لا يتكلّم فيه الناس إلّا بما يرونه حقّاً فقط ، ولا يتكلّمون إلّا بما يعرفونه وذلك بأوّل ما تيسّر لهم من الكلمات فإنّ هذا المجتمع سيكون أخيراً مدرسة الأدب ))
ثانياً :
إنّ في هذه النقطة التي سأطرحها إشارة إلى ما يمكن أنّه ربّما سقط من حسابات هذه الفئة التي قالت أنه لابد أن تظهر في قصيدة الهايكو أساليب الشعريّة العربية من بلاغة واستعارة وكنايَة حتى يمكن أن يتواصل معها القارئ لأنّه معتاد ومفطور على هذه الأساليب ، فقد يعتقد المتابع أن اليابانيين ليس لديهم إلّا قصيدة الهايكو وأنهم مفطورون عليها وبالتالي فطرتهم في القيمة الجمالية للشعر الحقيقي هي غير فطرتنا وسليقتنا !
عزيزي القارئ : فلتعلم أن الارث الشعري الياباني والذي هو سائد إلى الآن بقوة وأن حجم قرائه يفوق وفق الاحصائيات بمئات الألوف قرّاء الهايكو هو قصيدة الواكا أو التانكا القديمة ، أنت تعرف ما يعني لك شعر امرئ القيس والمعلّقات والمتنبي ، إنّ قصيدة الواكا أو التانكا القديمة(2 )تعني لهم كما يعني لك هذا الشعر والأكثر من ذلك هو أن أمرين امبراطوريين صدرا على فترتين متقطعتين تأمر بجمعهما في كتابين وصلا إلى مرتبة القداسة وهما " كوكين واكا شو " و" قصائد الواكا الأنيقة والمهفهفة " ولكن أين القضية ؟ القضية هي أنّ هذه القصائد مضمخة بالعاطفة والتعبير عن الذات والاستعارة والكناية والجزالة وكل ما يمكن أن يجعلها " تحفة لغويّة " في 31 صوت عند اليابانيين وسأعرض إحداها هنا
للشاعرة ((ايزومي – شيكيبو )) بداية القرن الحادي عشر في عصر هييان :

مستغرقةٌ في الأوهام
اعتقدتُ أنّني رأيتُ قرب المستنقع
في طيران الحباحب
وفي الوادي ، بعيداً عن جسدي
روحيَ المتشرّدة

فإلى أين نحن ذاهبون في حجتنا مع هذه الفئة ! فالمفطور عليه العرب في القيمة الجمالية للشعر يتعاضد مع ماهو عند اليابانيين بالإرث ، الواقع نحن نتجه أيضاً إلى فخ " وهم المعرفة بالوافد الشعري "
أوليس واضحاً لنا أن ابتكار "ماتسو باشو" هو الثورة والانقلاب فاحتضنه المجتمع لأن هايكو وجدت لترفع معاناة وبؤس الحياة اليومية إلى مصافّ الجمال فيصير المعاش اليومي بطريقة أو أخرى حياةً جديدة من لحظة جمالٍ موضوعيّ كنّا غافلين عنه .. تارة يمتص حزننا ويحرّك فرحنا تارة أخرى
سأترك للقارئ إملاء السطور الفراغة المتعلقة بهذه النقطة فقد أصبحت الأدوات متوفرة في كل ما عرضته سابقاً …ولعلّه صار واضحاً أنّ إضافة جديدة إلى الهايكو بهذه الطريقة (( العروبيّة )) ستهدمهُ

الخلاصة :
السيدات والسادة :
إنّ الهدف والغاية من هذا المطالعة لا يمثل كلّ شيء عن الهايكو بل هو قليل ولكنّه جوهريّ وهو بالتأكيد ليس تأطير أو تنميط لقصيدة الهايكو بشكل نهائي ، إنّما الغاية والقصد أنّك حين تأتي لتخوض في الهايكو عليك أن تعرف أين تجد ضالتك ولمن ستعير انتباهك ،عليك أن لا تكون مع الوافد الشعري ماضويّاً فلابد أن تتحضر للمستقبل وأنت تملك طاقة اللسانيّات العربية الهائلة العظيمة التي هي جلدك الذي لا ينبغي أن تنسلخ عنهُ وتضعها تحت تصرّف لغة شعريّة جديدة جداً وعلى غرارعبارة للسادة المتصوّفة ((التخليَة ثمّ التحلية )) ثمّ بعدها :

- تعال لنتحدث كيف فعلت بنا ترجمة بائسة لنصوص هايكو وفعلت ، وضلّلتنا حين اعتمدنا عليها فقط

- وسنتحدث أيضاً كيف أنّ " ساتوري " لا تعني في النص الياباني أنك تكتب مجازاً بقدر ماهي تجربة ومعايشة تجعلك أنت والشي تصبحان ذاتاً واحدة وهذا لا يمكن أن يحدث وأنت على طاولة مكتبك أو وأنت ساهمٌ أمام فنجان قهوتك تنبش في صندوق مشهديّات افتراضيّة

- وبأنّ ما تعتبره وتجده قولاً مجازيّاً عقليّا مقصوداً وتعتبره مشروعاً في الهايكو عند اليابانيين ستجده لا يعدو أن يكون استدلالٌ في نصوصهم على مناسباتهم الطقوسيّة والدينيّة والتراثيّة أو هي عبارات الاعتياد في مجتمعهم انتقلت إلى مرحلة العمومي المفهوم والايحائي الواضح بدون تأويلات ولم يبق فيها من المجازيّة شيء وأنت لا تعلم !

- وتعال لنتحدث كيف أن العالم الغربي تعثُر أولاً فأعتقد أن الهايكو هو الزّن(3 ) وبدأ يمارس " زا زن " ثم تدارك الأمر ليقرّ بأنّك شاعرٌ أولا ولا ضرورة لأن تتبنّى ديناً فلسفيّاً وذلك بعد أن تبحّروا في حياة باشو والآباء أكثر فأكثر قالوا :
" إذا كان ثمّة صراع في هايكو بين الشعر والزن يذهب الزن ويبقى الشعر / Rh. Blyth"

-وتعال أخبرك كيف أن الهايجين الياباني الداعي لحداثة الهايكو يتعامل معك ومع نصوصك بالمسايرة ليقينه التام –وقد صرّح بذلك في أكثر من مناسبة اليابانيون - بأنّك لن تدرك كيف توفّر " يوغن / وابي - سابي / هاسومي / كرومي … إلخ " في نص الهايكو ومع أنها تبدو غنوصية ومبهمة هذه الأسماء ولكن حين نعرف ماهيتها سنجد أن لسانياتنا العربية تستطيع تحقيقها في النص بسهولة وهكذا أشفقوا علينا وقالوا : سنساعدكم بشيء تعرفونه ولا تجيدون غيره أنتم وسائر الأجانب وسنقول أنّها هايكو ..وحينها سأخبرك كيف أنهم اعتمدوا في ذلك على إدخال مفهوم " kokoro " وهومن أدبيات الثقافة اليابانيّة عموماً تجلّت بوضوح شعرياً في ( واكا / تانكا ) فأدخلوها إلى الهايكو / سنناقشه في مناسبة أخرى / ..وهذه الأدبيّة لو تتبعتها لوجدتها تعتمد مبدأ الفراغ الدلالي في شبكة النص التي نجيدها والغرب معاً ولكن لليابانيين طريقتهم وفق خصيصة الهايكو

- لماذا تجاهلنا أن المعاصرة والتحديث قائمان تماماً ومفتوح لهما باب الهايكو على مصراعيه حين يمكنك التخلي عن العبارة الفصلية( كيغو) وعن عدد السطور وعن أن يكون موضع الهايكو خارج الطبيعة وأنك قد تمزج بين البشري( سينيريو) كموضوع والطبيعة وناطحات السحاب والمترو في ذات النص وأنّ كلّ منا يمكن أن يستخدم الأمثلة الشعبية والطقوس الدينية والتراثية الخاصة به في الهايكو كاستدلال موحي ، كل هذه تنازلات من الهايكو الياباني بشرط أن لا تمس جوهرانية وروح الهايكو في أنّه كتابة موضوعيّة بحتة ليس للتأويل شغلٌ فيها لا عند قراءتها ولا عند كتابتها
إنّها الايحائيّة الموضوعيّة وحسب وأجمل تجلّياتها في الهايكو حين تكون إيحائيّة مفخّخة
- وتعال لنتحدث عن مصير الذات الشاعرة في نص الهايكو وربّما الأهم الذي أدعوك إليه هو تعال لنر كيف أنّ نصوصاً عدّة لأسماء هايجين يابانيين بما فيهم الآباء كانت نصوصاً ودّ أصحابها لو أنّهم لم يقولوها
وقد دار حولها قدح وذم طويل وأنا بذلك أريد لك أن لا تتخذ منها دريئة لإثبات رأيك فـ "النادر كالعدم" حين نريد أن نُشكلن أي منتج أدبي بالعموم .انظر معي إلى ضعف نص كيوشي تاكاهاما وهو من أعلام الهايكو الياباني مع ترجمة دقيقة :
أهو لهبٌ ؟
أم أنّه قلبي ؟
برعم الفوانيا
وذلك في مقابل نص " بوسون" :

بتلات الفوانيا
تسقط فوق بعضها البعض
اثنان أو ثلاثة

وعلى ذلك لن نُشهر في وجوه بعضنا البعض نصوصاً مرتبكة لأوربيين و أمريكان فقط لأنّها جاءتنا معنونة على أنّها " هايكو" فلننظر قبل ذلك كيف همّشها أرباب نقد الهايكو في تلك البلاد

- وتعال لنناقش أثر قنبلتين ذريتين أسقطتا على اليابان
كيف أوغلت في عمق الذهنيّة اليابانيّة فتحوّلوا من متبوع إلى تابع على مستويات شتّى ولن نستثني منها الهايكو بالتأكيد

كلّها عزيزي القارئ نستطيع أن نخوض بها ونفصلها معاً وبجهد متضافر.. سنتناقش ونتداول أطراف الحديث كما يفعل الجميع في هذا العالم ولكن بشرط وهو أنّنا لن نقع في فخ " وهم المعرفة " ويجب أن ننجوَ منه .. أمّن نجاتك من الوهم ثمّ ستجد السهولة والمتعة والجدوى السريعة في تداولنا للهايكو ولكننا لن نتحصّل عليها ونحن ((موهومون )) بل ونمارس الإيهام

ثمّة تنويه أريد أن أجعل منه علامة فارقة في هذه المطالعة فأقول : ماذا لو سأل أحدهم بعد قراءة البحث لائماً الروّاد العرب الأوائل في الهايكو وكيف أنّهم أغفلوا هذه القضيّة عنّا إلى اليوم ..!
الواقع غير ذلك بالتأكيد حيث أنّ الكاتب والشاعر السوري (محمد عُضَيمة ) أفرد لها على طريقته دعوة عامة لمن يريد مزاولة فن الهايكو الشعري في مقدمته لكتاب شعر الهايكو الياباني وفي كل مناسبة حديث عن الهايكو وكان يعتبره أكبر همومنا في الهايكو ، صحيح أنّ هذه الدعوات لم تأتِ بهذه التفاصيل والمقاربات التي عرضتها هنا في هذا البحث والتي تعرض لأوّل مرّة ولكن يبدو أنّ هذه الدعوات مُزّقت قبل قراءتها أو أنّها تعرّضت للتهميش وسقطت من حساباتنا
هذا البحث عزيزي القارئ هو الكثير من التفاصيل بعد تزويم جديد لعدسة مجهر البحث يدفعني إلى ذلك أحدث التفاصيل التي أغرقنا بها كعرب ذهنيّة الهايكو حتّى اليوم
ولنقل أنّني أحاول فيها إستكمالاً وإعادة التنبيه إلى جوهر ٍ لم يبق لدينا فيه إلّا القليل من الرمق
فهل يمكن بعدها أن نستمتع معاً ونحن نقرأ للهايجين السوري "ماهر حرامي" :

هذه السنة
قد تُلقي شجرةُ الكبّاد بثمارها
على باحة جارنا !

كلمة أخيرة :
إنّ تاريخنا الشعري السابق واللاحق برأيي الشخصي تحفةٌ لغويّة جماليّة لامثيل لها ونحن ما نزال نحاول فيها ، في صيرورة لجماليات لغتنا الشعريّة التي نؤمن بها
لا أريد مما تم طرحه أعلاه أن يُوظّف باتجاه النقمة والاستهتار بهذا المكنوز والذخيرة العربية الشعريّة
كلّ ما في الأمر هو أن ساعة الحقيقة حين تدقّ في ساحة النقد والتنظير الموضوعي حول الهايكو فإنّ كلمة الحق لابدّ أن نقولها .. إنّ شعر الهايكو هو قارة جديدة مكتشفة لم تنجز خرائطها البنيويّة عالمياً بعد .. هل يمكن أن يكون لنا نحن العرب مساهمة في ترسيم هذه الخارطة.. هل نستحق أن نساهم بذلك
أعتقد أنّه لابدّ من ذلك ..
..
د.باسم أحمد القاسم سوريا / دمشق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تم ذكر أسماء أصحاب المقولات بين قوسين في متن البحث نفسه

المصادر :
- أدونيس " الصوفية والسورياليّة
- أدونيس " كتاب الشعر العربي
- البيان والتبيين / الجاحظ
- مارتن هايدجر، الوجود والزمان
- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة
- قضايا الشعريّة /رومان ياكبسون
- معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة / د.سعيد علوش
- قلب الهايكو - تأليف: الشاعرة الأمريكية جين هيرشفيلد
- سيرة حياة باشو / ماكوتو أوئيدا
- تاريخ " ماساوكا – تشيكي " موسوعة العالم الجديد
- أوكا – ماكوتو / محاضرات في التقاليد الشعريّة اليابانية ت: محمّد عُضَيمة
- ألفن كرنان (( موت الأدب))
....
# جيم كاسيان / شرح الأفكار الأولى لمبتدئ الهايكو

* ماتسوؤ – باشو / اسمه الأصلي ماتسوو مانوفوسا عاش (1644-1694 م) رحل إلى "كيوتو" (العاصمة الإمبراطورية) ليتابع دراسته في الآداب. عام 1681 م، فضل حياة العزلة، فانزوى بالقرب من "إيدو" (طوكيو اليوم) في مكان أطلق عليه اسم "صومعة شجرة الموز" (باشو-آن)، ومنها استمد لقبه (باشو)
**غريغوري بالاماس / لاهوتي ولد في مدينة القسطنطينية في العام 1296 للميلاد وبالمناسبة تجده في حياته قريباً من فكرة الهايكو حيث أنّه يصر غريغوري على الجانب التجريبي للنعمة. ويهدف لاهوته إلى الدفاع عن أولئك الذين يعيشون من الآن فصاعدا على الطاقات الإلهية " الوجود "، والطاقات التي لا تظهر الكلمات، ولكن التي لا تزال مع ذلك يمكن إدراكها في الأعمال
*** ماساأوكا – تشيكي / ولد ماساوكا في 17 سبتمبر 1867 في ماتسوياما ، في محافظة إهيمه الحالية. الاسم الأصلي هو ماساوكا نوبورو ، ويعتبر شيكي كشخصية رئيسية في تطور الشعر الهايكو الحديث مؤسس أهم مجلّة أدبية في الهايكو Hototogisu

(1) قصيدة الهايكو :
نص شعري ياباني مؤلّف من 17 صوتاً وفق طبيعة اللغة اليابانية يكتب يابانيا سطراً واحداً .. بدأ بمرحلة " الهوكو " مع المبتكر ماتسو باشو 1644 م ثمّ " الهايكاي " ثم أسماه شيكي ماساأوكا " هايكو " 1867 م
(2 ) قصيدة ( واكا / تانكا القديمة ) :
من أجمل نتاجات الشعر الياباني وهي ضاربة في القدم ولم يعثر لها على تاريخ تقريبي في انطلاقتها مؤلّفة من 31 صوت موزّعة على خمسة أسطر

(3) الزّن :
دين فلسفي تطوّر عن البوذية ، نشأ في الصين ثمّ انتقل إلى اليابان في القرن السابع الميلادي
___________








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء ومفقودون جراء قصف الاحتلال أحياء عدة في مدينة غزة


.. شاهد| تدمير وتكسير محتويات منزل فلسطيني في بيت فوريك شرق ناب




.. المعارضة السورية تتقدم بشكل سريع في مدينة حلب وريف إدلب.. ما


.. مظاهرة في طوكيو تضامنًا مع فلسطين في ظل العدوان الإسرائيلي ع




.. الفصائل المسلحة تتقدم في حلب.. والحكومة السورية تتوقع وصول م