الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبقرية طه حسين (4) طه حسين طالب الأزهر

عمر أبو رصاع

2006 / 3 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بعد أيام من اختلاف طه حسين للأزهر مجاورا ، انبأ باختبار القبول ليصبح طالبا رسميا مقيدا في سجلات الازهر ، وكان لهذا اليوم ذكرى أليمة في نفس طه حسين ، ذلك أنه أخذ إلى حيث يعقد الاختبار ووضع في زاوية العميان وشد ما هاله وحز في نفسه كالسكين الجملة التي نودي بها ووقعت في قلبه أسوء موقع :"أقبل يا أعمى" فجلس أوأجلس إليهم عنوة بيد أخيه وما كاد يسأل عن سورة فيتلو عليهم مطلعها حتى يسأل عن أخرى ثم قيل له إنصرف يا أعمى فتح الله عليك.

قدرت سنه بخمس عشرة رغم أنه ما أتم الثالثة عشر ذلك أن من شروط الانتساب للأزهر أن يتم سنيه الخمس عشرة الأولى ، فتعجب طه من ذلك كيف كان الاختبار وقسوة المصطلح الذي نزل منه منزلا مؤلما عميق الغور دون اعتبار لحس أو ذوق ، والاختبار ذاته الذي لا يختبر حفظا ولا يقدر معرفة ، والتسنين الذي جعل له ليسجل في الازهر كل ذلك دار في ذهن الفتى مدارا كاملا حول جدوى مثل هذا الاسلوب في القبول والتصنيف لطلبة العلم.

كان من حظ طه أن جلس أول ما جلس لشيخ مستجد من المشايخ الذين تأثروا بفكر الأستاذ الإمام المجدد محمد عبده ، لكن تأثره كان كما وصفه طه :"كان كغيره من أقرانه في ذلك الوقت بارعا في العلوم الازهرية كل البراعة. ساخطا على طريقة تعليمها سخطاً شديداً. قد بلغت تعاليم الأستاذ الإمام قلبه فأثرت فيه، ولكنها لم تصل أعماقه. فلم يكن مجددا خالصا ولا حافظا خالصا، وإنما كان شيئا بين ذلك. وكان هذا يكفي لينظر الشيوخ إليه شزراو يلحظوه في شيء من الريبة والاشفاق" ، إذن كان طه مؤمنا مقتنعا بمنهج الإمام الأكبر في التجديد ، لكنه يرى كما هو واضح من وصفه لشيخه الأول أنه ما استطاع إلى ذلك سبيلا فالتجديد في التعليم كما فهم ذلك الشيخ أن لا يقرأ على تلامذته مثلا من الكتاب وإنما يعلمهم مباشرة وأن لا يعطهم إعراب بسم الله الرحمن الرحيم الذي كان يرهق التلاميذ صعدا بل يبتدر تلاميذه بتعليمهم الاعراب نفسه ، لكن ذلك ليس ما آمن به طه حسين من دعوة لتجديد التعليم التي كان محمد عبده مؤمنا بها داعيا لها ، والتي قدر لصاحبنا فيما بعد أن يكون فارسها الحقيقي ، الدعوة التي تروم فتح باب العقل والتفكير والنقد والبحث والكف عن الاكتفاء بالترديد والحفظ وتكرار القديم كأنه مسلمات لا يرقى إليها الشك ، وكل ما يلزم ذلك من متطلبات العلم الحديث والانفتاح على معارف الغرب وعلومه .

قطع ابن خالته عليه عزلته المقيتة عندما جاء ليساكنه ويرافقه وهو في مثل سنة مزيلا بذلك عن نفسه غمة الغزلة المقيتة وساعاتها الطوال التي كان يقضيها وحيدا مهملا ، فمنذ تلك اللحظة صار لطه خليل يلزمه ويسري عنه وحدته ويصحبه من درس لدرس ومن مسجد لمسجد ، والأهم أن يقرأ له ما تيسر قراءته وفي هذا لذة عقل طه المتعطش للعلم.

خلا طه لشرح الكفراوي في النحو على أحد المشايخ وكان هذا الشيخ غليظ الطبائع كأغلب مشايخ ذلك الزمن ويفسر لنا طه لماذا كان الطلبة لا يجرؤون على سؤاله أو مناقشته " كان سريع الغضب لا يكاد يسأل حتى يشتم فإن ألح عليه السائل لم يعفه من لكمة إن كان قريبا منه، ومن رمية بحذائه إن كان بعيدا من مجلسه ... وكانت نعله مليئة بالمسامير وكان ذلك أمتن للحذاء وأمنع له من البلى. ففكر في الطالب الذي كانت تصيبه مسامير هذا الحذاء في وجهه أو فيما يبدو من جسمه!" ، ويصف لنا فيما يصف أن الإذن بشتم التلاميذ وضربهم يناله الشيخ ضمنا بنيله الدرجة.

وعاد طه في أول إجازاته لقريته حاملا معه ما تيسر له حمله من البحر الذي لا ساحل له ، ولم تمضي أيام إلا وبدأ طه صدامه مع أبيه حين قال في قراءته للدلائل : قراءتها عبث لا غناء فيه. فاستهجن منه ابوه ذلك وقال : أهذا ما تعلمته في الازهر؟ فرد طه : نعم وتعلمت أن كثيرا مما تقرؤوه في هذا الكتاب حرام يضر ولا ينفع ، فما ينبغي أن يتوسل الانسان بالانبياء ولا بالأولياء، وما ينبغي أن يكون بين الله وبين الناس واسطة ، وإنما هذا لون من الوثنية.

إكفهر وجه الأب لهول ما سمع ورده ردا عنيفا : اخرس قطع الله لسانك لا تعد إلى هذا الكلام وإني أقسم لئن فعلت لأمسكنك في القرية ولأقطعنك عن الأزهر ولأجعلنك فقيها تقرأ القرآن في المآتم والبيوت. لم تزد هذه القصة طه إلا إصرارا وعنادا من هنا نذر طه نفسه لمحاربة الجهل والتعلق بالخرافات ونذر نفسه من أجل الحق لأن الحق أحق أن يتبع دائما حيث وجد مهما كانت المعارك التي قد تتولد من ذلك لكنه كان هذا تماما محراك طه حسين ليس الصبي فحسب بل طه حسين في كل ما كان منه وحوله وظل أبدا الإنسان الذي يثير زوبعة حيث حل ذكره وتبادرت الأذهان ما كان من شأن هذا الإنسان، ومما يذكر بخصوص تلك القصة التي دارت مع أبيه حول دلائل الخيرات ومنازل الأولياء يسرد طه ما أراه درسا فريدا في التعامل مع الشخصية المصرية ، ومدخلا كذلك لإيصال العلم فأبوه الذي هاله رد طه عليه بخصوص قراءة الدلائل ومنازل الأولياء عاد يسأله في غيرما وقت كيف ينفق وقته في القاهرة ؟
فرد طه أنه ينفقه في زيارة الأولياء وقراءة الدلائل!
فانفجر الحضور بالضحك وأولهم أبوه الشيخ ، لتلحظ معي أمرين أولهما مرونة الانسان المصري البسيط وأنه وإن كان ينكر بقوة الغريب عن ما توارثه ورسخ في صدره لكنه يعود إليه سائلا مفتشا عن كنه هذا الرأي الغريب ، متقبلا رويدا رويدا إمكانية التفكير فيه ، لأن بذرة الشك لا تلقى لديه أرضا بورا وإنما عقلا مهما أحكمت أقفاله لن يستعصي على تلقي بذرة الشك وإنبات أوراقها وارفة مظلة ، إنها بذرة الشك التي عرف طه الصبي الأزهري قيمتها مدخلا في الفكر قبل أن يعرفها منهجا فلسفيا كلف به أشد الكلف وهو منهج الشك الديكارتي الذي تعلمه في السوربون.

لم يلبث رأي طه في الكرامات والأولياء أن ذاع وفشي في قريته فأنكره عليه المنكرون وقال بعضهم :"إن هذا الصبي ضال مضل قد ذهب إلى القاهرة فسمع مقالات الشيخ محمد عبده الضارة وآراءه الفاسدة المفسدة، ثم عاد بها ليضل الناس."

لكنهم صاروا يلحون في طلبه ومجادلته فيها وجلهم ينصرف عنه مستغفرا الله من الذنب العظيم مستعيذا به من الشيطان الرجيم.

عاد طه للأزهر أشد كلفا وولعا فلم يكن ليكتفي بدروس الأزهر بل صار يروم غيره من المساجد المحيطة به يتلقى من هنا وهناك وعلى هذا الشيخ وذاك ، متنقلا بين الأزهر ومسجد محمد بك أبي الذهب ومسجد الشيخ العدوي ، وكان طه لجب السؤال كثير الجدال يرهق شيخه صعدا ، لذا كان لا يحب الجلوس إلا لمن يرضى بالمجادل من الطلبة وما أقل هؤلاء حتى يومنا هذا ، ويتذكر طه حسين شيخه الذي أحتد جداله معه حول علامة الفعل قد حتى صاح الشيخ :"الله يحكم بيني وبينك يوم القيامة"!
يستذكر بإكرام شيخه هذا الذي ربت على كتفه بعد الدرس وقال له :"شد حيلك الله يفتح عليك".

أمضى سنته الثالثة وما أحس أنه أصاب فيها شيء من العلم إلا أقله وضاقت بأسئلته الحلقات وتكلف الصبر فما أطاقه وأكثر الشيوخ طرده من حلقاتهم ما أن خالفهم الرأي أو جادلهم ، فضاق بهم طه كما ضاقوا به وكاد ينصرف عن العلم وأخذه وما كان يدرك غير الأزهر أن ذاك له بابا ، حتى اهتدى إلى درس الأدب الذي غير مساره وأشبع نهمه للمعرفة وفتح أمامه مجاهيل هوى لها عقله وفؤاده معا. – يتبع -








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على


.. 174-Al-Baqarah




.. 176--Al-Baqarah


.. 177-Al-Baqarah




.. 178--Al-Baqarah