الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصيدة النثر بين أزمة المرجعية ومرجعية الأزمة

محمد علاء الدين عبد المولى

2006 / 3 / 30
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


إذا كانت (قصيدة النثر) تعتقد أن أي كلام يسطره أي كان – كما هو حاصل – يمكن لها أن تنسبه إليها على أنه شعر, فهي مخطئة بحق نفسها أولا. ونحن نقصد بالـ (القصيدة) أصحابها طبعا الذين خلقوا واقعا مشوشا عبر أجيال متعاقبة, تساوت فيه الكتابات كيفما كانت سويتها وعلاقتها بالأدب. حتى تجاوز الكثيرون جدا جميع الخطوط الحمراء باسم الحرية, واضطر كثيرون على الطرف الآخر إلى الصمت والمجاملة خوفا من الاتهام بـ(الأصولية) و(السلفية المستحدثة). وبرر بعض الصامتين موقفهم بأنه تعبير عن رغبة في أن تسود الديمقراطية في مشهدنا الثقافي. حتى نشأت علاقات أدبية تحكمها المصالح الآنية أو الإعلامية بين كتاب النثر وعدد من الشعراء المتميزين, تواطؤا من هؤلاء وأولئك بغية (تسويق) ظاهرة أو مرحلة ما, أو إرضاء لمرجعيات عقائدية وأقلوية, وصار المثل الشعبي (غاب القط العب يا فأر) هو خير عنوان لهذه المرحلة العجيبة من التسيب وعدم الانضباط ضمن أي حالة يمكن تحديدها للتعامل معها والحكم عليها. مرحلة دفعت شاعرا بحجم محمود درويش إلى عدم التفصيل كثيرا في رأيه حول (قصيدة النثر) وقال:أنا أخاف الميليشيات ... وفي خوفه من الميليشيات إشارة ذكية تستدعي المقارنة بين ميليشيات الحروب الأهلية والعقائدية في مكان ما, والتي كان الشاعر شاهدا عليها, وبين ميليشيات جماعة (قصيدة النثر)التي يتقن بعضها جيدا الحوار على طريقة العشائر. وفي الحقيقة يسود مثل هذا الحوار حياتنا الراهنة بدءا من حوارنا مع تفاصيانا المنزلية وانتهاء بحوارنا مع الشعر والنظام. إذا في هذا المناخ غير المعافى والمسدود الآفاق, أصبح الشعر قميصا رخيصا معلقا على طرف السوق يحق لأي متدرب أو متدربة أن يلبسه بعد أن يدفع ثمنه كتابا سيئا, أنيق الغلاف باذخ الطباعة موشوما بصفة (شعر) على الغلاف, وبكلمة على الغلاف الثاني تبرع به (شاعر) متميز يرى في هذا الكتاب صوتا مبشرا وتجربة مختلفة عن السائد. وبعد أسبوع تنشر في صحيفة ما مقالة إنشائية عن هذا الكتاب تغوص عميقا في فرادته وابتكار صاحبه أسلوبا جديدا, حتى لتظن أن المقصود بالتجربة والصوت المختلف هو (طاغور) أو (محمود درويش) أو (الماغوط) ...
ولكــــن؛ لا بد من مواجهة نقدية شاملة تسمي الأشياء بمسمياتها وتدعو لإعادة الأوراق إلى طاولة اللعب ليبدأ اللعب على المكشوف! فقد ارتفعت نسبة الغش في اللعب. وإذا كان محمود درويش يخاف الميليشيات فلنحاول في هذا الكتاب ألا نخافها. لا بد أن نضم صوتنا إلى صوت (أدونيس) في قوله التالي: ((صحيح أنني شخصيا تحدثت عن القطيعة والرفض – لكن في سياق آخر يختلف كليا, وعلى مستوى آخر مغاير كليا. كنت أقصد في حديثي هذا أن أقول إن الشاعر العربي, مهما كان عظيما, لا يجسد في نتاجه اللغة العربية – فهي أوسع منه, وأن أقول, تبعا لذلك, إن على الشاعر الجديد أن يرتبط باللغة الأم, لا بنتاجها. ولئن كان يولد من الرحم الواحدة أبناء يتناقضون في كل شيء, فبالأحرى أن يكون في اللغة أبناء لها يتناقضون كتابيا, في كل شيء. فهذا التناقض دليل غنى – وهو لا يعني القطيعة أو الرفض في أية حال. فهذان لا يتمان إلا في حال واحدة:أن نرفض الأم ذاتها, أي أن نرفض اللغة التي نكتب بها.
دون هذا الوعي, دون هذه الإحاطة النظرية, سوف تتعثر الحداثة الفنية – الأدبية في اللغة العربية, وهذا مما بدأت ملامحه بالظهور. وهذا مما يفرض على الشعراء الشبان, وبينهم مواهب شعرية كبيرة, أن يتعمقوا في فهم الحداثة ومشكلاتها, فيما وراء التشكيلات, وفيما وراء النثر والوزن. إن عليهم أن يدركوا أن الذين أسسوا الحداثة الغربية, كمثل رامبو وبودلير ومالارميه, كانوا كلاسيكيين – أعني أنهم لم يخلقوا الحديث إلا بفضل ارتباطهم العضوي العميق بالقديم.
وقد يقول بعضهم اتهاما: الشعراء العرب الحديثون ينقلون أشكال الشعراء في الغرب. هذا كلام باطل. الذين يعرفون اللغة الشعرية, يعرفون أن الشكل لا يؤخذ, لسبب بسيط هو أنه لا يوجد في ذاته – معزولا, كشكل لوعاء ما, أو كشكل لآلة ما. الشكل للقصيدة كمثل الجسم للإنسان: لا يستعار. فالشكل هو دائما شكل جسد معين, قصيدة معينة. ثم إن تشكيل اللغة العربية يختلف, لاختلاف مادته – الموسيقية خصوصا, عن التشكيل في اللغات الأخرى. لذلك لا تمكن استعارة أو نقل شكل قصيدة أجنبية لقصيدة عربية إلا في حالة واحدة: حين تكون هذه الأخيرة مصنوعة كما تصنع آلة جامدة. اللغة كما قلت كيان – لا يقبل زراعة أعضاء غريبة عنه, لا يقبل إلا ما ينبثق منه. لا يقبل ما يكون لصقا)). (1)
قبل التفصيل في كلام أدونيس نورد ما رأيناه من أسلوب وشكل التعبير في هذا المقطع المأخوذ من فصل بعنوان (مقدمة لنقد الحداثة العربية) فأهمية كلام أدونيس من الوهلة الأولى تأتي من كونه إعادة نظر في أطروحات سبق وأن تم طرحها في مرحلة (مجلة شعر) وكان أدونيس نفسه من أبرز من طرحها. إعادة نظر أدرك هو بعد ما يقرب من أربعين عاما ضرورة إجرائها بعدما فهمها أدعياء الحداثة والشعارات الملفقة فهما قاصرا بكل الاعتبارات. كما تكمن أهمية هذا الكلام أنه جاء في صيغ حازمة لا هوادة فيها (الشاعر العربي مهما كان عظيما) (إن على الشاعر الجديد) (هذا مما يفرض على الشعراء الشبان أن يتعمقوا) (إن عليهم أن يدركوا) (هذا كلام باطل) (لا تمكن استعارة أو نقل شكل قصيدة) (اللغة كيان لا يقبل ... لا يقبل ... لا يقبل) وهي صيغ واضحة أكدنا في مقاربتنا لـ (قصيدة النثر) على استخدامها بشكل حازم وواضح, وهذا كله مما يشكل علامة – بدءا من أدونيس – على أن الأمر لم يعد يحتمل المزيد من المراوغة ولغة الإخوانيات والإشفاق. ثم إن الأهمية القصوى لهذه الأفكار, أن الذي قدمها هو أدونيس نفسه, الذي يحتمي عديمو الموهبة به ويدعون التلمذة على شعره ونظرياته, وهو بريء منهم, بل عليهم إذا قرأوا كلامه هذا أو إنتاجه الأخير أن يشعروا بقليل من الذنب، أو ضرورة إعادة قراءة ما فعلوه. لأن مواقف أدونيس الصريحة بعد نصف قرن من الحداثة تعتبر بمثابة (فك ارتباط) بينه وبينهم. وأنا أتصور كم من الضجر أصيب به أدونيس وهو يرى إلى هذا النتاج الهابط من (قصيدة النثر) على أيدي من يريدون التخفي بقلعته كما تتخفى أسراب الخفافيش.
ماذا نستخلص من موقف أدونيس؟
لا قيمة لمعنى القطيعة إذا فهمت على أنها مقاطعة التراث عبر لغة شعره ونثره. ففي التراث نتاج ضخم قدمه أصحابه باللغة العربية, وعلينا الآن أن نتصل مع هذه اللغة كحاملة للنتاج الذي نقدمه نحن من موقعنا الآن وفي هذه اللحظة. فلا قطيعة إذا مع اللغة, مهما اشتدت الأقاويل حول ضرورة تفجير اللغة وتطويرها. لأن تفجيرها لا يمكن أن يطالها هي كبناء نعتمد عليه في تعبيرنا الشعري. نحن نفجر صيغة العلاقة الفنية مع اللغة, نختلف عما أنتجته اللغة, نطورها بأن نجعلها أكثر حيوية بخلق شكل علاقة إبداعية مع إمكانياتها وطاقاتها. وإذا فعلنا عكس ذلك, نكون كمن يرفض الأم ذاتها, أي (نرفض اللغة التي نكتب بها). كيف يقطع أهل (قصيدة النثر) مع اللغة بمعنى إلغائها وهم يكتبون بها؟ ليرفضوها إذا وليختاروا لغة تناسب ميولهم وآمالهم!
ماذا عنى ذلك الفهم للقطيعة مع اللغة؟ عنى, باعتبار كلام أدونيس, تعثر الحداثة الفنية- الأدبية على أيدي (الشعراء الشبان) الذين يهدر بعضهم مواهبه في طريق خاطئة.
كما يفيدنا كلام أدونيس في الخوض في مسألة أخرى هي المرجعية الغربية لـ (قصيدة النثر) والتي يعتبر الخوض فيها أمرا منضويا على كثير من الحرارة نظرا لما فيه من محاذير ومخاطر وقابلية للاتهامات. حيث تعلو دائما نغمة ضرورة المثاقفة مع الآخر والانفتاح على إنجازاته ومفهوماته وإبداعاته, حتى ننفي عن أفكارنا صفة الانعزالية, وعن شخصيتنا تهمة الانغلاق, ونثبت لهذا الآخر أننا أصحاب ذهنية حضارية تقبل بالحوار معه. وهذا كله مطلب ثقافي ملح، لحاجتنا نحن العرب إلى تأكيد وجودنا في قلب العصر, وأننا نشارك في صناعة هوية الكون بأسره لا هويتنا فقط. مطلب (استراتيجي) كما يقال وهو جزء من علاقتنا مع (الآخر) في عصور عربية وإسلامية قوية ومعافاة, تدفقت فيها على (الداخل) العربي كل ثقافات وأفكار وفلسفات الآخرين وأسهم هذا في تجديد مستويات التفكير في العقل العربي, وأعطاه زخما هائلا لتنشيط طاقاته على النقد والشك والتوغل بعيدا فيما منع وكبت وألغي من ميدان التداول.
ليس الانفتاح على الآخر إذا ملصقا معاصرا على شخصية الذات العربية. وهو ليس (اليد التي توجعنا) كما يظن البعض من المصابين بأمراض الحداثة, حتى يمسكونا منها, بل إنها يدنا الحقيقية التي لا نخجل منها. ويمكن أن نشهر أمثلة قوية بدلالتها ومغزاها حتى من أولى مراحل تكون (كيان) ما للعرب على عهد الرسول محمد (ص) . ولم يكن حتى القرآن الكريم النص المقدس الأول لدى المسلمين – عند نزوله – بمعزل عن علاقة العرب بالقوميات الأخرى, بثقافاتها وعاداتها ولغتها. وهذا ليس موضع التفصيل في ذلك. لكننا نريد من خلال الإشارة إليه أن نتمثل – من حيث الأساس - المبدأ القائم في قلب تكويننا عبر التاريخ وهو مبدأ المحاورة والتثاقف مع الآخر. ولا يسعنا إلا أن نتذكر الآن من مسار تاريخنا تلك اللحظات التي لم يجد العربي في أي مستوى كان, أي حرج في أن يترجم فلسفات اليونان وسواهم, ويتأثر بها ويضيف إليها, حتى أن هذا العربي في فترة ما أغرق في حواره مع الآخر حتى فقد زمام المبادرة, وسلم هذا الزمام إلى الآخر الذي استطاب هذه الأفضلية الممنوحة لـه, فقام بضرب ضربته والسيطرة على الإرادة العربية سيطرة قلبت موازين الأمور, وارتفع الحوار من العلاقة, ليحل محله الاستبداد بالرأي وإلغاء العربي والتآمر على وجوده وذاكرته. وكشف سياق الأحداث تاريخيا فيما بعد أن هناك خللا بنيويا في آلية هذا الحوار مع الآخر, فقد ثبت أن العرب كانوا ينفتحون على الآخر في كثير من اللحظات انفتاحا ساذجا مصحوبا بكثير من النوايا الطيبة التي لا تتفق وخطورة الموقف، ولا تأخذ بعين الاعتبار إمكانية تغير قواعد اللعبة. فهذا الآخر كان ذكيا بالإيقاع بهذا العربي وإغرائه بتقديم كل ما عنده وكشف جميع أوراقه من أجل الاستفادة منها وتحويلها إلى طاقة مضادة للعرب. فالآخر كان ينهض اقتصاديا وسياسيا ومعرفيا, وكان بحاجة إلى توظيف كل ما يصادفه من كشوف ثقافية وعلمية في سبيل إنعاش عملية نهوضه. فكانت العملية الحوارية لدى هذا الآخر شكلا من أشكال امتصاص طاقات الطرف الآخر واستنزاف كل ما لديه حتى لا يبقى لـه شيء, وليس الأمر هنا واردا لتحويل الكلام إلى كيفية استثمار أوروبا للعلوم لدينا والطب والفلسفة, وجعل كل ذلك عنصرا أساسيا داخلا في (ماكينة) إنتاجها إبان ثورتها ونهضتها, بحيث أخضعت ثقافة الآخر الذي هو (نحن) إلى عملية (تبيئة) تحقق لها التلاؤم بين ما تستورده من مفهومات, وبين خصوصية مجتمعاتها وبناها الداخلية الخاصة. وبهذا دُفِع العرب دفعا, بفعل عوامل داخلية بالدرجة الأولى, إلى خسران القيمة الكبرى لانفتاحهم على الآخر, وتحولوا إلى تابع لـه في لحظة ما تعتبر نكسة حضارية بكل المعايير.
مع ذلك – وبعد هذا الاستطراد الضروري – لا أحد من شعراء الحداثة العرب أنكر علاقته بالآخر وتأثيره على بداياته الأساسية, وذلك نزولا عند المبدأ الأساسي القائم في تكويننا وهو مبدأ إمكانية الانفتاح على الآخر إلى أقصى درجة. ولا داعي للدخول في حيثيات العلاقة بين شعر الحداثة الأولى وشعر كل من (إليوت – باوند – بودلير...) فتفاصيل وشؤون هذه القضية موضحة في كتب النقد ومن أرَّخ لبدايات الشعر الحديث. وقد اتسعت رقعة التأثر بالآخر فيما بعد حتى بدأ الحديث يدور حول مرجعية جنس أدبي عربي مرجعية (فرنسية) وأقصد ما يخص مشكلة هوية (قصيدة النثر) وهي المرجعية التي حولت (التأثر) بالشعر الأوروبي إلى موضوع (انتماء) إليه. من هنا دخل الحوار شكل المشكلة وخرج عن كونه حوارا مشروعا. لأن تأثر شعراء التفعيلة في البدايات بالشعر الأوروبي لم يكن ينال من هوية قصيدتهم ذاتها, فلم يتحول السياب إلى تابع لإليوت أو ستويل مثلا, كما لم يتحول أدونيس في قصيدته الفراغ, التي تعتبر حتى بنظره هو, منعطفا هاما في الكتابة الشعرية العربية, لم يتحول إلى تابع لإليوت في الأرض الخراب, حيث اعتبر البعض – ربما كان يوسف الخال – أن قصيدة (الفراغ) لأدونيس هي (الأرض الخراب) العربية! مع أن أدونيس كما يصرح هو لم يكن يعرف إليوت بعد. ومع كل هذه الأقاويل عن تأثير إليوت وسواه على شعرنا الحديث, فإن السياب بقي شاعرا عربيا, وبقيت (الفراغ) لأدونيس قصيدة مليئة بهويتها العربية, وبقيت نازك الملائكة شاعرة عربية... ولم يصبح التأثر أزمة على ما يبدو إلا مع (قصيدة النثر) مما يؤكد – في تصوري – على أن أي قضية تتعرض لها (قصيدة النثر) تعود في النهاية إلى أزمة (هويتها).
إن (التأزم) في علاقتنا مع الآخر على أي حال لم يكن في الحقيقة وليدا خاصا بـ (قصيدة النثر) بل هو أصبح صفة ملازمة لهذه العلاقة مع الآخر منذ بدايات ما يسمى (عصر النهضة) وذلك على أرضية تفوق غربي وقوة عسكرية تغلفها قوة الاقتصاد والمعرفة, مع ضعف وهشاشة على الجانب العربي. وإذا كان هذا ليس شأنا شعريا, فإننا نشير إليه لنضع المسألة في منظومتها الكلية. إن الأمة عندما كانت قوية منتجة للمعرفة والأفكار, كان الحوار الذي تديره مع الآخر حوارا مثمرا يتم من موقع امتلاك الإرادة والإدارة معا, على المستوى الحضاري الشامل الذي تموضعت فيه الأمة, خالقة لحظتها الفاعلة في بنيان الحضارة الإنسانية. ولكن وفي سياق المنظور التاريخي والمنعطفات الحادة التي تعرضت لها هذه الأمة, تم إغلاق العقل العربي وتجميد نشاطاته بفعل عوامل داخلية وخارجية. ومع أن إطلالة (النهضة) في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت أمرا واقعا تعاملت معه الأمة, لكنها تعاملت معه وهي مشبعة بالتأخر واضطراب الشخصية وتشظي القدرات. ولم يعد خافيا على مثقف أو مبدع, أن الأمة في راهنها الممتد قرنا من الزمان, هي الطرف الأضعف والمستلب والمشلول, في طرفي العلاقة بين الذات والآخر, وذلك في ظروف تبعية كاملة للآخر, الذي استثمر بشكل سافر ولا أخلاقي مكامن الضعف والجمود في الأمة, فقادها إلى حوار غير متكافئ هو حوار التابع والمتبوع, القوي والضعيف, السيد والعبد في كثير من اللحظات مع الأسف.
في ذلك الأفق المضطرب والهلامي, لم نعد نكتشف العالم, لأننا لم نعد نكتشف الذات, أصبنا بفراغ المعنى, فأصبحنا عاجزين عن إنتاج المعنى: معنى الشعر, معنى النقد, معنى الفلسفة, معنى الحرية... الخ وأصبح موقعنا الهش يرشحنا لاستيراد كل هذه (المعاني) من الآخر دون نقد لها ولا وضعها موضع الامتحان على أرض الواقع, لأننا في فراغ نريد أن نملأه بأي شيء. مما زاد الأمر سوءا والتباسا. فجأة وجدنا أنفسنا أمام آخر يبتكر ويعطي وجوده معنى وقوة وينشر أفكاره ومنتجاته المعرفية والإبداعية بالقوة وبكل الوسائل, دون أن تتوفر لدينا عناصر القوة لننتج أي شيء. وأصبحت الصورة هكذا: حوار مع الآخر يسنده انغلاق على الذات. فتوهمنا في هذا الوضع المأزوم أننا دخلنا عصر الحداثة, فاستوردنا له مفهوما خاصا به, إذ ليس لنا الوقت ولا القدرة لننتج مفهومنا عنه. كل ذلك وفر أخصب تربة لتنبت عليها أفكار هجينة حول قضايانا الأصيلة. وهكذا فان ما جرى كان بحثا عن (اسم) خارجي لـ (شيء) داخلي, كنوع من استجلاب (المعنى) لما أحسسنا أنه بـ (لامعنى) وكنوع من الشعور بالخصاء الفكري أمام حداثة الغرب. وأعتقد أنه بذلك نكون قد وضعنا موضوعنا المطروح في مهاده الفكري والثقافي والتاريخي, حتى لا نقوم بعزل أزمة هوية (قصيدة النثر) عن الأزمة الكبرى, ولا نحملها بذلك مسؤوليات أكبر من حجمها, لأننا بعد هذا التمهيد النظري سنرى أن (قصيدة النثر) هي ضحية لهذه الأزمة الكبرى ووجه أساسي من وجوهها.
في قول أدونيس المذكور سابقا نستخلص الآراء التالية فيما يخص المرجعية الفرنسية لـ (قصيدة النثر):
- لم يخلق الشعراء الفرنسيون حداثتهم إلا لكونهم كلاسيكيين مرتبطين بصورة عضوية بقديمهم, بتراثهم .
- إن نقل الشاعر العربي لأشكال الشعراء في الغرب, هو يدخل في باب الباطل. فالشكل الشعري ليس معزولا عن سياقه ولا موجودا في ذاته. بل هو شكل قصيدة تنتمي إلى قديمها المستمر فيها عبر اللغة, مما يجعل استيراد الشكل الشعري مستحيلا.
- تشكيل اللغة العربية ذو خصوصية موسيقية, وهو مختلف بهذه الخصوصية عن التشكيل في اللغات الأخرى, لهذا لا يستطيع الشاعر العربي أن يدعي أنه يكتب قصيدة عربية بشكل فرنسي.
ليس هناك توضيح أكثر من ذلك, في رأيي، يشخّص الوضعية الإشكالية لعلاقة (قصيدة النثر) بمرجعيتها الفرنسية. هي إشكالية تنم في أحد جوانبها عن التناقض والقلق اللذين يتحكمان بأصحاب (قصيدة النثر) وهم يشرّقون تارة ويغربون أخرى في محاولة لتسمية مولودهم. فمرة ينسبونه إلى (النفري أوالبسطامي أوالسهروردي...) ومرة يلبسونه زيا فرنسيا, ومرة زيا أسطوريا. وقد خلق هذا غربة مزدوجة لـ (القصيدة). فما كتب على نظامها لم يكن منتميا إلى اللغة العربية ذات الخصوصية الموسيقية من جهة, مع أنهم نسبوا هذا النظام إلى التراث, ومن جهة ثانية فان انتسابهم إلى القصيدة الفرنسية إقرار صريح منهم بهذه الغربة. وثمة تناقض يلوح شبحه في هذا الوضع, فإذا كانت هذه (القصيدة) بنت (النفري) فلماذا لا نكتب نتاجها بتطوير لغة (النفري) لإثبات هذا النسب العربي؟ فما كتب يتحرك أساسا خارج خصوصية اللغة العربية (ونحن نتحدث عما هو ظاهرة مكرسة لا عن استثناءات لم تشكل ظاهرة بديلة مع إقرارنا الكامل بوجود استثناءات سيأتي ذكرها في وقته) وإذا كانت هذه (القصيدة) عربية, فما مبرر كتابتها بـ (شكل فرنسي)؟ الواقع أرى أن نسمي هذه الوضعية حالة (غش) متكاملة. فأن تستورد منتجا فرنسيا وتقول لي إنه صنع في التراث العربي, فأنت تضلّلني وتستخف بي, وتوهمني بأنك تنتسب في كتابتك لهذا التراث.
لقد كتب (أنسي الحاج) بيانه المشهور, وهو الذي وضع كمقدمة لكتابه (لن) عام 1965, شكل من أشكال التأسيس المشروع للكتابة على نظام (قصيدة النثر). وفي البيان / المقدمة تبرز عدة مواقف لم أجد أنها مبنية إلا على ردود فعل ارتجالية من تراثنا الشعري, الذي لا يرى فيه أنسي إلا (الوزن والقافية) والموسيقى الخارجية, ويصف فيه الشاعر العربي (التقليدي) بأنه (رجعي) و(الشعر العربي) بأنه ضعف وانحطاط! ولا ينسى أن يصف قارئ هذا الشعر بأنه قارئ رجعي يعقد حلفا مع شاعره الرجعي. وأمام هذا الانحطاط والرجعية والتقليدية لا بد من (خلاص) يجده أنسي موجودا وجاهزا في البنود التالية: إذ لابد عند ذلك أن (نبـجَّ) هذا السد المنيع من العبودية والجهل والسطحية, وينصح بـ (الهدم والهدم والهدم) هكذا ثلاث مرات وكأنَّه يؤلف (ثالوث الهدم) وكذلك(لا تجدي غير الصراحة المطلقة, ونهب المسافات, والتعزيل المحموم والهسترة المستميتة) و(إثارة الفضيحة والغضب والحقد) ... يشعر القارئ بأنه أمام برنامج زعيم جماعة مقاتلة بنوده قائمة على (البـجّ- الهدم – النهب – التعزيل – الهسترة – إثارة الفضائح – الغضب – الحقد). بهذا البرنامج الخارق يريد أنسي الحاج خلاص الشعر. وبالطبع ينهي برنامجه بالدعوة إلى (قصيدة النثر). وفي الواقع فقد نفذ (الحاج أنسي) برنامجه بحذافيره. فكتابته في كتابيه (لن) و(الرأس المقطوع) ما هي إلا (بـجٌّ) للغة العربية, ونهب لأسرارها وخصوصيتها في جو محموم من الهستيريا والغضب والحقد على كل ما هو عربي. ومع (قصيدة نثر) أنسي الحاج في كتابيه المذكورين نحن أمام (قصيدة فرنسية) بامتياز مكتوبة بلغة عربية, أو بكلام أدق (مرسومة بالحرف العربي). إذ استعار لكلامه شكلا لا يمت بصلة إلى لغته التي يبدو أنه في أعماقه لا يمت لها بصلة جوهرية. ومع أنه يتبنى الوصفة الفرنسية لـ (قصيدة النثر) والتي وضعتها (سوزان برنار) والتي من شروطها (الإيجاز), ومع أنه يتعاطف مع (إدغار ألن بو) فيما قاله عن القصيدة, أي قصيدة طبعا, من أنها يجب ألا تكون طويلة, ويقول أنسي بأن التطويل يفقد القصيدة وحدتها وأن (قصيدة النثر أكثر من قصيدة الوزن حاجة إلى التماسك)... مع كل ذلك يكتب (قصيدة النثر الطويلة) حتى في (لن) فنصّه (صياح يقف ويركض) جاء في (9) صفحات, ونصه (الحب والذئب) جاءت مقاطعه ممتدة من ص (87) حتى (110) أما كتابه (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع... ) فقد جاء عبارة عن نص واحد من ص (11) حتى ص (88) > ويكفي أنسي مفخرة أنه أنزل مفهوم الشاعر في (لن) إلى (المرحاض) حيث لم يجد لـه مكانا للتأمل في الوجود والتبحر فيه إلا هذا المكان. ها هو يقول ((في العمل كان لا بد أن أدخل إلى المرحاض حيث أتبحر في الخليقة دائما وكالمعتاد سرحت نظري في يدي وأنا أبذل ذاتي)) (2) فبمثل هذه الروح العالية أراد أنسي تقديم الخلاص لنا من شعرنا العربي (المنحط والرجعي). ولا أستطيع هنا إلا أن أعبر عن استغرابي واستنكاري لموقف (أدونيس) من (لن) عندما كتب إلى أنسي قائلا ((عزيزي أنسي, كتبت لي خالدة تقول: " سيكون لأنسي شأن يا أدونيس, إنه صوت غريب ". صوت غريب. تلك هي علامة الذين ليسوا كغيرهم, العلامة التي تفتح الهاوية. و(لن) شهادة أخرى, لكن فيها مزيدا من الاستباق والجموح, على عمق هذه الهاوية وامتدادها)) (3) .
ويبدو أن نموذج أنسي يدل على خلل الوضعية القائمة بين النص العربي ومرجعيته الفرنسية. فكما أتوقع فان أنسي لو كتب نصوصه تلك بلغة فرنسية لما كان في الأمر أي حرج ولا أزمة فتلك نصوص (مهندسة) على الطراز الفرنسي, وعليها أن تلتصق به كليا. ولكن المشكلة أوسع من ذلك فأنسي الحاج في ذاكرة (قصيدة النثر) عربيا اسم له (كاريزما) مهيمنة يتمثل بها الكثيرون ويحتذون حذوه وينفذون برنامجه في الهدم والبج والنهب والحقد. والغريب حقا أن أدونيس الذي قال لأنسي كلامه السابق اختار لمشروعه فضاء آخر منافيا تماما لأنسي متجاوزا إياه بآلاف السنوات الضوئية. بل إن أدونيس يقف بعد عدة سنوات بكل شجاعة نقدية ليعيد تقييم تجربته هو فيما يخص دعوته الأولى إلى (كتابة الشعر نثرا). وذلك في نص أعتبره وثيقة نقدية فريدة وهامة على صعيد فهم تجارب أدونيس من جهة, وعلى صعيد السؤال عن المعيار الناظم لما يكتب الآن من (قصيدة نثر) هنا وهناك من جهة ثانية. يقول أدونيس في مقدمة لأعماله الكاملة في طبعتها الرابعة:
((كشف لي التجريب أن كتابة الشعر نثرا, مغايرة كليا لكتابته وزنا, وأن الكتابة بالنثر لا تقوم, إبداعيا وفنيا, بمجرد الرغبة والممارسة. ربما يكمن هنا السر في وقوع المحاولات الكتابية العربية, شعرا بالنثر, تحت الهيمنة المعيارية لتجارب سابقة ولا سيما تجارب قصيدة النثر الفرنسية. ومثل هذه التجارب لا يمكن أن تقدم للنص العربي معياريته, فهو لا يقدر أن يستمدها إلا من خصوصيته اللغوية. وهذا ما أكد لي أن الكتابة العربية شعرا بالنثر تفترض موهبة إبداعية شعرية عالية, هي الضمان الجوهري الأول, وتقتضي إلى ذلك معرفة عالية بالموروث الشعري العربي وثقافة فنية عالية – وذلك لكي يقدر أن يبتكر المقتضيات الفنية للشكل الكتابي الجديد. أي لكي يقدر أن ينشئ كتابة شعرية بالنثر يمكن أن تستضيء بتجارب الآخر, لكن دون أن تنهج على منواله, ودون أن تتبنى معاييره, دون هذه المقتضيات تظل الكتابة الشعرية بالنثر إنشاء تعسفيا, بمعنى أنه غفل – لا نرى فيه خصيصة ينفرد بها. فما نراه فيه من خصائص شعرية يمكن أن نراه في رواية أو قصة أو كتابة نثرية أدبية. وهذا مما يجعل هذا الإنشاء هشا, ويجعل من كتابته مساحة مشاعا: قد تعجبك في هذه المساحة زهرة هنا, أو نبتة هناك, لكنها تبقى تناثرا – يشدد أدونيس على كلمة تناثر – نوعا من التبعثر. ويبقى هذا الإنشاء, في أحسن حالاته, نوعا من الخواطر.
ربما كان ذلك في أساس ما دفعني إلى أن أطور نظرتي لكتابة الشعر نثرا. فقد توقفت عن هذه الكتابة (باستثناء المزامير في " أغاني مهيار الدمشقي" ولا أعدها "قصائد") حتى سنة 1965. ورأيت أن علينا أن نعيد النظر في ما قلناه ومارسناه, مما يتصل بما أسميناه: "قصيدة النثر".
في مجموعتي الشعرية " كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل " بدأت في محاولتي تجاوز " قصيدة النثر" إلى كتابة نثر آخر – يشدد على نثر آخر –
هذا " النثر الآخر" مزيج : شكل من الأفق الكلامي _ التشديد من أدونيس – المتحرك, يتسع لاحتضان عناصر كثيرة – من النصوص الأخرى التي تكتبها الأشياء, في العالم, أو تكتبها الكلمات, في التاريخ )) (4)
إن تحليلا نقديا متأنيا لهذا النص / الوثيقة كاف ليدفعنا باتجاه تسمية كثير من الأشياء بمسمياتها الدقيقة:
1_ يكشف النص أن أدونيس لم يكن يكتب في بدايات (قصيدة النثر) نصوصه غير الموزونة على أنها (قصائد نثر) بل هو يحددها بـ (كتابة الشعر نثرا), أو كما كان يترجم عن المصطلح الأمريكيpoetry in prose والذي كان الفرنسيون يترجم من قبلهم (شعر بالنثر) أي الشعر المنثور free verse (وأنا هنا أضبط المصطلحات معتمدا على عز الدين المناصرة في كتابه – قصيدة النثر – المرجعية والشعارات (5)
ومع أن أدونيس ترجم (قصيدة النثر) إلا أنه في كتابته اعتمد (الشعر نثرا). وهو يقر بوضوح أنه لا يسمي (المزامير) في (أغاني مهيار الدمشقي) قصائد, بل يقول علنا ( لا أعدها قصائد).
ولنكن هنا (ميدانيين ) أي لنقرأ من هذه (المزامير) التي لا يعدها أدونيس قصائد يقول:
يقبل أعزل كالغابة والغيم لا يردُّ, حمل قارة ونقل البحر من مكانه
يرسم قفا النهار. يصنع من قدميه نهارا ويستعير حذاء الليل ثم ينتظر ما لا يأتي.؟ إنه فيزياء الأشياء – يعرفها ويسميها بأسماء لا يبوح بها. إنه الواقع ونقيضه, الحياة وغيرها.
حيث يصير الحجر بحيرة والظل مدينة, يحيا – يحيا ويضلل اليأس, ماحيا فسحة الأمل, راقصا للتراب كي يتثاءب, وللشجر كي ينام (6)
هذا مثال أدونيسي على (الشعر نثرا) وهو لا يعده قصيدة, مع أنه, لو كتب الآن أحد أدعياء (قصيدة النثر) ما هو أدنى منه لسارع إلى إطلاق صفة القصيدة عليه دون تحفظ. أمام أدونيس فإنه لدى طباعة أعماله الشعرية الكاملة طبعة جديدة عام 1996 كتب في إشارة في مطلع الجزء الأول: ((آثرت أن أنشر أعمالي الشعرية بترتيب آخر: القصائد القصيرة في مجلد, والقصائد الطويلة في مجلد, والنصوص غير الموزونة في مجلد)) فيسمي ما هو غير موزون بالنصوص وما هو موزون بالقصائد...
إن كتابة (الشعر نثرا) – وما سمي في مداولات الأجيال المنقطعة عن وعيها وتراثها القريب والبعيد – لا يمكن أن تتحقق بالنوايا الحسنة, وطرح كم هائل من الكتابات لا معيار لها ولا ضابط. وكما نرى فإن أدونيس ينتقد سقوط هذه الكتابة تحت معيارية تجارب قصيدة النثر الفرنسية. ويرى أن التجارب الفرنسية لا تقدم معيارية للنص العربي, الذي لن يستمد هذه المعيارية إلا من خصوصيته اللغوية. ويعتبر أدونيس بشكل غير مباشر أن من يكتب الآن الشعر نثرا هم دون موهبة شعرية عالية وثقافة فنية بالموروث الشعري. وينتقد النهج على منوال تجارب الآخر وتبني معاييره. وعند غياب الموهبة والثقافة, لا نكون قد أنجزنا (مقتضيات فنية) للشكل الكتابي الجديد, لنجد أنفسنا أمام كتابة هي مجرد إنشاء تعسفي لا خصيصة لـه, وإذا كان ثمة خصيصة شعرية فيه فهي ليست من داخله ولا من بنيته الفنية, فما قد نراه من ملمح شعري في هذا الإنشاء قد نراه في قصة أو رواية أو مقالة أدبية تحمل توترا لغويا ما وشحنات وجدانية. إن أدونيس يطلق الوصف النقدي الدقيق الذي تستحقه هذه الكتابات وهو (الخواطر) في أحسن الأحوال. وعلى ذكر (الخواطر) أشير إلى أن أدونيس كان في فترة ما ينشر بشكل أسبوعي صفحتين في مجلة (الكفاح العربي) وفي كل أسبوع يفرد عمودا واحدا يكتبه تحت عنوان (دفتر خواطر), مؤكدا بشكل عملي رفضه تسمية ما يكتبه بـ (شعر) أو (قصيدة نثر). ولنا أن نأخذ مثالا من هذه (الخواطر):
أيامي الماضية
أقصر من أن تصل إليك,
لكن مستقبلي أبعد منك:
بأي سر التقينا؟
*
لا نملك الريح, لكنها لنا,
لا يملكنا الموت, لكننا له.
*
قلبانا:كل له لغته الخاصة,
كيف يحدث, إذن,
أن يكون لجسدينا كلام واحد؟
*
كان لقاؤنا شمسا,
مع ذلك
حبنا غامض, وكله ليل
وجسدانا غابات بلا نهاية .
*
جسدك المد الذي يأخذني
ويمضي , _
لماذا لا أرى نفسي دائما
على شاطئك؟ (7)
...
إذا قارنا بعد هذا مقارنة بسيطة بين (خواطر ) أدونيس و(قصائد نثر) هذا الواقع الممتد عبر عقود من السنوات, فماذا نحن واجدون؟ سنرى أن (خواطر) أدونيس تتفوق على تلك (القصائد) بلغتها وخصوصية علاقتها مع روح اللغة العربية وجمالياتها, وقدرتها على التعبير بالصورة, ورفع الواقع إلى مستوى التصور الأدبي. وسنرى أن هذه (القصائد) هي خواطر رديئة, وفيها ما هو مسف ليس في المفردة, بل في علاقة اللغة بالواقع, وعلاقة كتاب الخواطر بأبسط عناصر القول الأدبي. فلا هي (قصائد نثر) ولا هي (شعر بالنثر) ولا (هي نص ينتمي للنفري) ولا سوزان برنار... ولا هي (جنس خنثى) كما عبر عز الدين المناصرة مرة.
إن( قصيدة النثر) الآن ضد أي انتماء وهوية, وبالتالي فهي تعطي الدليل تلو الدليل على أنها (ضد نفسها). ووصل كتابها مستوى غير معقول من اللهو بالشعر وتوجيه الإساءات التي لا أتوانى عن وصفها بـأنها متعمدة, إليه. إنها كتابات تطفو على سطح حياتنا الأدبية كالطحالب وتتكاثر في كل الظروف, منتهزة الفوضى الشاملة في واقعنا, الفوضى التي تطيح بأي إمكانية للمراجعة النقدية الصارمة, متيحة الفرصة لفاقدي الموهبة مالكي سلطة الانتشار ليمارسوا متعتهم الخاصة بإفساد ذائقة الناس وتفريغهم من حرية الجمال, تحت شعارات (النص المختلف) و(النص البديل) و(نصوص الرفض والفن المغاير)... الخ. وهي كتابات تؤكد بطبيعتها وكما هي متبلورة بأن أصحابها لا يعترفون بأي تجربة إبداعية مهمة في تاريخ الشعر العربي, قديمه وحديثه, وأخشى أن يكونوا قد وصلوا إلى وهم أنهم تجاوزا حتى أدونيس بعدما كانوا يحتمون به! وهم فعلا يعلنون بشتى الوسائل أنهم تجاوزوا الشعر الحديث برمته, فأصبح (الماغوط وتوفيق صايغ وأدونيس ومحمد عمران وجوزف حرب ومحمد عفيفي مطر والسياب وخليل حاوي ومحمود درويش ...) من مخلفات التاريخ, بينما المستقبل هو لنصوصهم التي تحقق الإنجازات الباهرة, وربما كانوا على حق, إذا اعتبرنا المستقبل عبارة عن مراكز ثقافية فرنسية وأمريكية ودانمركية, وترجمة لنصوص بعضهم إلى اللغات الأخرى, وسياحة في عواصم الثقافة العالمية…


إحالات :
(1) أدونيس – النص القرآني وآفاق الكتابة – دار الآداب – بيروت – 1993 – صفحات 96/97/98
(2) أنسي الحاج – لن – المؤسسة الجامعية للنشر – بيروت – ط 2 – 1982 – ص 59
(3) أدونيس – زمن الشعر – دار العودة – بيروت – 1978 – ص 225
(4) أدونيس – الأعمال الكاملة – دار العودة – بيروت – ط 4 – 1985 – ج1 – ص6
(5) عز الدين المناصرة – قصيدة النثر _ بيت الشعر الأردني_ عمان – 1998 – ص 4
(6) أدونيس – الأعمال الشعرية – دار المدى – دمشق – ج1 – 1996 – ص 143
(7) أدونيس – مجلة الكفاح العربي – بيروت 6/5/1985








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز