الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نَقْد الفَلْسَفة المِثالية

لينا صلاح الدين
كاتبة

(Lena Saladin)

2018 / 8 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن المُعتَرَك المادِّيّ المِثالي، هو مُعترك قديم العهد وليس بمُستحدَث، فالجانب المادِّيّ يعتقد بإسْتِقْلالية كل ما هو مَوْضُوعي، في حين أن الجانب المِثالي يعتقد بحتمية تأثير الذَاتِيّة على كل ما يُحِيطُنا للدرجة التي تفعِّل غياب كينونة الفينومينون "الظاهر الذي يتم تداركه بالحواس" بغياب النومينون "الجوهر المُنْفَصِل عن الحواس".
إن الزَلَّة الكبرى للفكر المِثالي تتجلى فيما أسميه أنا ب "وهم التميز"، هذا الوهم الذي إِخْتَلَقه الإنسان داخل عقله رافضًا الرضوخ لسلطة ما هو مُحَقَّق. فإنعكس ذلك في الأنا التي كانت في أَوْج قمتها لدى الإنسان القديم، حتى عمل على مَرْكَزة كل شيء حول الذات، فغَدت الأرض التي يقطنها مُنْتصِفةً للكون، والشمس تابع يجوب حولها. وتجلت تلك الذاتية النَّرْجِسِيَّة كذلك في رفضه التسليم بكونه نِتَاج الطبيعة ليَجْنُح للإعتقاد بكونه كائن صاحب مكانة ماجِدة قد حَطَّ من السَّماء، وأن مآله إليها رافضًا الرُضُوخ للفناء بعد الموت، حتى بات يختلق حيوات أخرى. لكن كلما إِنْتعشت المعرفة أكثر كلما أكدت على ضَئالة الكائن البشري، ورغم أن العلم قد قطع شوطا في إعادة ترميم تلكم الأفكار الذاتية البالية، وإحياء الواقعية عبر دحض فكرة مَرْكَزيته، لكن ما فتئت لتلك الذاتية الصرفة آثارها، وما فتئ الإنسان اليوم يؤمن بحيوات أخرى وبفكرة أن كل المجرات والأجرام السَمَاوِية والكائنات الزميلة لنا على وجه البسيطة قد سُخِّرت لتقبع تحت سلطته.
لو تفحصنا فحوى هذا التميز سنجد أنه لا يستند على قاعدة قويمة؛ فإن كانت إمتيازية الإنسان مستندة على الرِفعَة والأهمية على المستوى البيئي فإن الفطريات والطحالب على سبيل المثال لها أهميتها الحسيبة للحياة كذلك. وإن كانت على الحَصافَة والذكاء، فإن التعمير الذي أحدثه الإنسان قد كان في مقابله فساد. كما أن الإنسان قد تعمد استغلال إمكانياته من أجل مصلحته هو وفقط، وليس مثل كثير من الكائنات الزميلة التي تعطي للبيئة أكثر من عطائها لنفسها. كما أن ظهور الإنسان كان قبل مئاتي عام فقط، وهذا يعد 0.004% من عمر الأرض، ولا يعد شيئًا بالنسبة للعمر الإجمالي للكون؛ أي بتعبير آخر أن الكون والحياة كانا سيستمران بالإنسان أو بدونه.
زَلَّة أخرى للمثالية تتمحور في كون العقول كيانات مستقلة عن بعضها البعض، وكل عقل منها يمتلك نظرته الخاصة للحقيقة، بحيث أنه يشق بناء على ذلك الإتفاق على حقيقة ثابتة تستكين لها كافة العقول. والسبب في ذلك هو غياب المعيار المادي الذي يُبنى عليه الحكم، هذا المعيار الذي ينبغي أن يكون منفصلا عن العقل حتى يتم الأخذ بحياديته. هذا العيب -في المقابل- هو ميزة المادية، حيث أن الحقيقة الموجودة لا تتغير ولا تتأثر ماهيتها بتأويلات العقل المتضاربة. لكن هناك ما هو جليل ويستوجب طرحه هنا، وهو أن المادية لا ترفض العقل رفضا مطلقا، بل ترفض استلابه من حقيقته والأخذ به ككيان منفصل عما هو مادي. لكن دعونا نتمعن أكثر في هذا القول، حيث أننا عندما نتحدث عن أهمية العقل فإننا نتحدث عن إنتاجاته الفكرية، وعملية التفكير في حقيقتها تتمثل في كونها نشاط كهروكيميائي في الخلايا العصبية، أي أن هذه العملية التي كنا نخالها روحية الأصل هي ذات أصل مادي صَرْف. ونفس هذا المبدأ ينطبق على مفاهيم أخرى مثل السعادة في أنها ليست سوى تدفق لهرمون السيروتونين. حتى بالنسبة للوعي، على الرغم من كونه مفهوم مبهم لنا حتى الآن، لكن الإعتقاد الدارِج في الأوساط العلمية يشير إلى أنه عملية يتم فيزيائيا تفسر آلية حدوثها بواسطة ميكانيكا الكم.
رغم أن هناك الكثير من الزَلَّات الأخرى للفكر المِثالي والتي قمت بإغْفال النظر عنها حتى لا أطيل الموضوع، كتلكم الفكرة التي تتمحور حول التمييز بين فئات المجتمع لتكون الأفْضَلِيَّة للحكيم على باقي الفئات وإن كان لها إنتاجاتها الأخرى. لكن في الختام يمكننا اِسْتِنْتاج أن الأداة الوحيدة للفكر المثالي المتمثلة في الأفكار قد أضحت هي نفسها أداة مادية. وأن الأفكار لا وجود فعلي لها كوحدات مُسْتَقِلّة عن الوجود الحسي والقابل للقياس، فحتى الروح التي يندد بوجودها المثاليون لم تنجح في تأكيد ذاتها في تَجْرِبَة علمية معترف بها ما عدا تَجْرِبَة ماكدوغال التي تم دحض نتائجها فيما بعد. ومهما أصر الفكر المثالي على إمتيازية الجنس البشري وخلق وهم التميز فيه بواسطة أدوات ميتافيزيقية مجردة ومُنْفَصِلة عن المادة، فإن العلم مثلما قام بتَفْنِيد كثير من تلكم الإمتيازيات، فإن المستقبل العلمي مما لا شك فيه سيعمل على تَفْنِيد المزيد مؤكدًا على أن الإنسان ليس بمتعالٍ على الطبيعة بل هو جُزءٌ منها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فلسفة العلوم
متابع ( 2018 / 8 / 30 - 07:24 )
هذا التقسيم للفلسفة الى مادية ومثالية احادي الجانب وميتافيزيقي
الفلسفة التجريبية هي فلسفة العلوم في عصرنا
الفلسفة التجريبية تجعل الانسان منفتح الذهن بلاغائية ولاايديولوجية ومن تطبيقلتها الرائعة تكون التجريبية الاساس الفكري لنظرية الديمقراطية
شكرا لكاتبة المقال

اخر الافلام

.. القصف الإسرائيلي يجبر سكان أحياء شرق رفح على النزوح نحو وسط


.. عرض عسكري في العاصمة الروسية موسكو بمناسبة يوم النصر على ألم




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات بعد عودة وفد التفاوض الإسرائ


.. مستوطنون يغلقون طريقا بالحجارة لمنع مرور شاحنات المساعدات إل




.. مراسل الجزيرة: جيش الاحتلال يواصل السيطرة على معبر رفح لليوم