الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكُردي مسلما-القومية في مهب رياح الدين

مسعود دالبوداك
باحث

()

2018 / 9 / 12
القضية الكردية


ملخص
((كيف يمكن لإيمان المرء أن يعمي بصره))
وُجد الدين بوجود الإنسان الأول واستمر وجوده عبر التاريخ، فتنوعت أشكاله ومشاربه، ومن النادر حدوث اجتماع بشري دون رؤية ظاهرة دينية، لذلك يكاد يكون الموروث الديني المتلاحق أكبر خزان معرفي يملكه البشر حتى الآن يمكن تسميته بالتاريخ الديني الإنساني المشترك لكل الشعوب، ومنها الشعب الكُردي الذي اعتنق عبر تاريخه أديانا كثيرة مختلفة وصولا إلى الإسلام، فالتاريخ الثيولوجي والأركيولوجي لكُردستان يثبت مرور الشعب الكُردي مثل غيره من الشعوب بمراحل دينية مختلفة من بولثئيسمية ودواليسمية ومونوثئيسمية، حيث ظهرت فيها أديان كالميترائية والزرادشتية والمسيحية واليهودية والمانوية والإسلامية، ويُعتبر الأخير ــــــ الدين الإسلامي ــــــ الأطول زمنيا من حيث الاعتناق والأكثر تأثيرا في البنية السوسيولوجية والتركيب الفردي للشخصية الكُردية على الصعيد الإبيستيمولوجي والسايكولوجي ونظرا لهذه الأهمية سيتركز بحثنا ــــــــ مع إعطاء نظرة تاريخية سريعة حول التاريخ الثيولوجي للشعب الكُردي ـــــــــ على الفترة الإسلامية وصولا إلى يومنا هذا، وما لها من أهمية قصوى في حاضرنا بظل دعوات التجييش الديني ضد الشعب الكُردي التي تعتمد في أساسها على أسلمة شعب مسلم أساسا، ولا ننكر هنا صعوبة تناول هكذا مواضيع من الناحية البحثية كوننا نصطدم بتعقيدات الموروث الديني لكننا ــــــ رغم ذلك ـــــــ نرى أن المرحلة تستوجب فتح أبواب هكذا مواضيع على مصراعيها وتسمية الأشياء بمسمياتها دون تردد، وطرح ما يحمله الدين من ديالكتيك بين الفكرة والواقع.
الكلمات المفتاحية: الدين، التاريخ الديني، الموروث الديني، التاريخ الإسلامي، الشعب الكُردي، الديانة الكُردية.
المدخل
لسنا بصدد الخوض في نظريات نشأة الدين المختلفة الوضعية منها والميتافيزيقية (السماوية)، ولا نظريات التطور الديني من حيث أنه منتوج بشري إلا بما يساعدنا في فهم الثيولوجيا الكُردية، فجلُّ اهتمامنا يتركز على البنية الدينية في المجتمع الكُردي، والمراحل التي مر بها عبر تاريخه، لذلك من المهم جدا الاستعانة بعلم تاريخ الأديان المقارنة والميثولوجيا المتعلقة بالوجود والخلق والكون والحياة والموت والمصير في تحديد الملامح الأساسية للثيولوجيا الكُردية خصوصا في الفترة المبكرة.
تقدِّم المكتشفات الأركيولوجية والمعلومات الأنثروبولوجية في كُردستان معطيات هامة حول الديانات التي انتشرت في تلك الجغرافية الجبلية، ومن أهم تلك المكتشفات الرسوم الجدارية والدمى والهياكل والألواح الطينية التي توثق أشكال الآلهة وأسمائها، بالإضافة إلى المعلومات التي وردت في مؤلفات التاريخ لأزمنة مختلفة، بالنسبة للفترات المبكرة فإننا لا نملك معلومات دقيقة عن الديانات البدائية للشعب الكردي، لكننا نلاحظ سمات ثيولوجية بارزة يمكن من خلالها استنتاج التطور الديني للشعب الكُردي، وإيجاد مقاربات منطقية تعتمد على أمور عدة منها البيئة الجغرافية ـــــــ المناخية والحيوانات الداجنة وبعض الآلهة المشهورة في تلك الفترة بين الأقوام الآرية، فمثلا يشير وجود أدوات شخصية وأسلحة إلى جانب الهياكل العظمية في بعض المقابر المكتشفة في كُردستان إلى وجود اعتقاد استمرار الحياة بعد الموت، وبالتالي وجود الاعتقاد بالعالم الميتافيزيقي، كما إن دفن الموتى في مقابر بعيدة عن أماكن السكن يؤكد تطور الوعي الثيولوجي الكُردي من البعد الفيزيقي إلى البعد الميتافيزيقي فدفن الموتى في أماكن السكن كالبيوت يعتمد على الارتباط الفيزيقي بالميت فقط ويُغفل الجانب الميتافيزيقي تماما، ويُعتبر الاعتقاد بالبعد الفيزيقي فقط مرحلة تسبق الأنيمسيمية في الثيولوجيا الكُردية، فالأنيمسيمية بدورها ستؤدي فيما بعد إلى الاعتقاد بوجود عالمين علوي ميتافيزيقي وسفلي فيزيقي كمحاولة لتحديد مكان العالم الروحي الميتافيزيقي، ومن ناحية أخرى هل كان الخوف من الظواهر الطبيعية نتيجة قوة التخريب الكامنة في تلك الظواهر أم بسبب وجود الأرواح الشريرة فيها؟ فنحن لا نمتلك إجابة واضحة، ويجدر بنا الإشارة هنا إلى الطبقية التي لا ندري هل كانت سوسيولوجية أو ثيولوجية أم كانت مزيج بين الاثنين فالمرجح أنه كانت توجد طبقية ثيولوجية عند الكُرد التي لا يتغير فيه مكان الشخص إلا بالموت وتناسخ روحه إلى طبقة أخرى، ولا تزال بعض الأديان التي يعتنقها الكُرد توجد فيها هكذا نظام طبقي يعتمد على التناسخية الدورية للأرواح في داخل الطائفة الواحدة، أما الثيولوجيا الناتوريسمية يبدو أنها اعتمدت في مراحلها البدائية على الخوف من الظواهر الطبيعية ثم انتقلت إلى تقديس آلهة مشهورة في تلك الجغرافيا والمسؤولة المتحكمة بالظواهر الطبيعية لذلك نرى عدم شيوع طقوس تقديم القرابين للظواهر الطبيعية بحد ذاتها كتقديم القرابين للبراكين والفيضانات والزلازل، أما تقديم القرابين للآلهة المتحكمة بالظواهر الطبيعية تُعتبر مرحلة أكثر تطورا من الناتوريسمية، فكان تقديم القرابين استرضاءاً للآلهة التي لا يمكنهم مجابهتها، كما يمكن ملاحظة وجود طوطمية وإن لم تكن بالمعنى الدقيق حيث يُعتبر حيوان الثور من قبل بعض الباحثين جد الهنودوأوروبيين فتقديس بعض الحيوانات في المجتمع الكُردي كان نتيجة الترابط والعيش في بيئة جغرافية تميزت بعيش بعض الحيوانات كالغنم والماعز الجبليين فلبسَ الكُردي جلود الغنم والماعز وتشبه بها لما تملكه تلك الحيوانات من قوة العيش والتأقلم مع البيئة الجبلية التي كانوا يتقاسمون العيش فيها، واكتسبت تلك الألبسة رمزية في المجتمع الكُردي ولا نزال نراها في بعض أمكنة الاستقبالات البروتوكولية في جنوب كُردستان، ومع هذا لم نلاحظ وجود فكرة الانحدار من نسل أحد الحيوانات بشكل معين وربما كان التقديس هدفه استمرار العطاء والتشبه طلبا للقوة، فلا يوجد في الكُلتور الكُردي رمزية كبيرة لحيوان معين بحد ذاته يُعتبر سلفا لهم وعلى العموم الموضوع يحتاج إلى بحث أكثر، كما ظهرت الدمى والهياكل في التجسيد المادي للآلهة التي تتحكم بالظواهر الطبيعية والميتافيزيقية فمن الصعب إيجاد صنم في الثيولوجيا الكُردية يعبد كصنم في حدوده الفيزيقية فقط، أما بالنسبة لتقديس الحيوانات فكانت في جلِّها تعتمد على الحيوانات الداجنة كالثيران والماعز والأغنام والأحصنة ولم نلاحظ رواج عبادة الحيوانات المتوحشة إلا نادرا بدافع الخوف والحماية منها، رغم أن الحيوانات المتوحشة كانت أُولى الكائنات الطبيعية التي قدسها الإنسان ، ويمكن القول أن الثيولوجيا الكُردية البدائية توزعت بين عبادة الحيوانات الزراعية الداجنة وبين آلهة تتحكم بالظواهر الطبيعية بالإضافة إلى الأجرام السماوية وخصوصا إله الشمس الذي يكتسب رمزية تاريخية كبيرة في الثيولوجيا الكُردية، ولا يفوتنا الإشارة إلى ذكر تقديس المخلوقات الخرافية التي تتركب من حيوانات وبشر كالأسد بجناحين ورأس إنسان، ويمكن رؤية انتشار تقديس الثور في عموم آريا وفي كُردستان نراها على سبيل المثال عند قبيلة گوران التي عُرفت بتقديس الثور، وكذلك قُدِس الدجاج أيضا في عموم آريا وربما توسعت إلى عموم الشعوب الهندوأوروبية فلا يزال الغربيون إلى يومنا يقدسون الديك ظانين أن الأرواح الشريرة تهرب منه لذلك كانوا يضعون رسومه ونصبه التذكارية فوق الأبراج وفي شرفات ومقدمة المنازل .
خلال البحث تمكنَّا من تحديد بعض الملامح الأساسية للثيولوجيا الكُردية كانت قد استوقفتنا ولابد لنا من ذكرها، بالإضافة إلى مراعاة أهمية السير وفق التسلسل الزمني للتطور الثيولوجي في المجتمع الكُردي:
الثور (گا):
يحتل الثور مكانة مهمة في الثيولوجيا الكُردية، ويعتبر من أول الحيوانات التي تم تدجينها في كُردستان، ويشكل اسم القبيلة الكُردية گوران (عبدة الثور) إثباتا على وجود معبودة الثور والبقرة المقدسة قديما عند كُرد زاگروس وميزوپوتاميا السفلى ، وتؤكد الآثار المكتشفة أن الألف الثالث والثاني قبل الميلاد فترة ازدهرت فيها عبادة الثور المتزامنة مع العهد السومري والحوري والميتاني، ويبدو أن عبادة الثور السماوي والميثولوجيا المتعلقة بها كانت واسعة الانتشار بين الأقوام الآرية، ويعتبر إله السماء المضيء دياس پيتار هو جد الهنودوأوروبيين في هيئة الثور ، كما يجدر بنا الإشارة إلى إن اسم البطل السومري الشهير گلگاميش يتطابق مع لفظة گا (الثور) أو گاميش (الجاموس) باللغة الكردية، وصديقه إنكيدو حيث تختلط كلا الشخصيتين مع الثور من حيث الصفات الشكلية أو المعنوية مع أن گلگاميش كان ثلثاه إله وثلثه الآخر إنسان، ويمكن مشاهدة رسوم الثيران على جدران المكتشفات الأثرية، بالإضافة إلى الهياكل التي نُحتت على شكل ثور أو حيوانات خرافية مركبة من ثيران وحيوانات أخرى، وكانت رسوم الثور تشير دائما إلى القداسة وترمز إلى الآلهة، كما في الميثرائية مثلا التي كانت رمزها رأس ثور مذبوح، والثيران حيوانات مقدسة كانت تقدم أيضا كقرابين إلى آلهة في كثير من الطقوس الدينية.
الشمس:
تُعتبر الديانة الميترائية من أقدم الديانات حيث يُرجع باحثون تاريخها إلى الألف الرابع قبل الميلاد ، انتشرت الميترائية في كُردستان وذُكر الإله ميترا في الفيدات والأفيستا، واستمر وجوده إلى جانب أهورامازدا في الزرادشتية، ميترا إله الشمس والنار الأبدية ورمز هذا الدين هو نقش رأس ثور مذبوح كما ذكرنا سابقا، رغم حدوث اختلاف كبير بين العلماء حول أصل الميترائية هل كانت ديانة شرقية أم غربية؟ لعل محاولة البحث في هذا الموضوع يجب أن يعتمد على مسألتين أساسيتين أولها هي أن الديانات تأخذ شكلها النهائي عبر مراحل زمنية طويلة تتطور فيها، وثانيها يجب معرفة أن الأديان اختلطت مع بعضها البعض في العصر الهلنستي في الشرق حيث امتزجت الأديان مع بعضها البعض، فمثلا اورانوس في الأسطورة اليونانية لم يكن سوى فارونا الذي يُشتق اسمه من جذر (فار) بالسنسكريتية، وهو في الفيدا اسم السماء ذات الكواكب ومرتبط بصورة خاصة بمفهوم الليل مقابل ميترا النهار ، وأود الإشارة هنا إلى أن بداية الليل باللغة الكردية هو (اِيفار) ê-var-التي تظهر معها الكواكب بوضوح.
الثيولوجيا الكُردية تعتبر النار والنور مقدسات تنبع من نفس الأصل المشرك أي الشمس، وسنرى طيلة التاريخ الكُردي وجودها كمقدسات تمثل العبادة لذاتها أو وسيلة لتقديس غيرها، وكان تقديس الأجرام السماوية رائجا كثيرا في الثيولوجيا الكُردية على مر التاريخ وعلى رأسها تقديس الشمس التي كانت ترمز إلى الإله ميترا وهي مرحلة تظهر فيها الهنوثئيسمية بشكل واضح، وربما توجه النبي إبراهيم كما ذكره القرآن إلى الشمس والقمر باعتبارهما كآلهة يؤكد قابلية اعتبار الشمس مقدسة وآلهة تُعبد أكثر من غيرها في تلك الجغرافيا ، وفي مشهد آخر نجد الرجلين العاريين أو الإنسان الطير يحملان بذراعيهما الشمس المجنحة، وظهر المخلوق المكوّن من الإنسان والثور كحامل للشمس على خاتم الملك الكردي الميتاني شاوشتار ، وكثيرا ما كانت الأجرام السماوية ترمز إلى بعض الآلهة فرغم كونها موجودة على الأرض إلا أنها كانت لها ارتباط راسخ مع الأجرام السماوية مثل ارتباط (إنانا) عند السومريين بكوكب الزهراء وارتباط (مردوك) بكوكب جوبيتر ، واستمر تعظيم الإله ميترا مع الديانة الزرادشتية سواء أكان ذلك من ضمن تعاليم زرادشت أو تم ادخالها من قبل الكهنة فيما بعد على الديانة الزرادشتية.
الزرادشتية:
يرى باحثون أن زرادشت أتى لإصلاح الديانة الآرية القديمة بما فيها الديانة الميترائية، والمرجح أنه عمل على إستئصال الطبقية من أرض آريا وتكوين ديانة توحيدية واحدة، والشمس المقدسة عندهم تدل على أهورامازدا عند الزرادشتيين المنجمين المهتمين بالنجوم وكان اليونان يُسمّون زرادشت بـ زورآسترا وآسترا مأخوذة من آسترون والتي تعني النجمة ، وهذا مما يدل على اشتهار وتقديس الأجرام السماوية في تلك الجغرافية، والنار كانت مقدسة في الثيولوجيا الكُردية في أزمنة سبقت الزرادشتية واستمر هذا التقديس معها أيضا، وتُظهر النقوش والرسوم الجدارية في كردستان تقديس النار، وهذا التقديس مستمد من الشمس فيما تبدو كونها جوهرة شريفة علوية وظنهم أن تعظيمها ينجّيهم في الميعاد من العذاب وبالجملة هي قبلة لهم ووسيلة وإشارة .
بعد ظهور نبوة زرادشت بفترة قصيرة اعتنق الكُرد الزرادشتية بشكل سريع حيث تزامنت مع بزوغ نجم الدولة الميدية، والمرجح أن العصبية الدينية لعبت دورا في توحيد الشعب الكُردي وكانت الأرضية الممهِّدة لقيام دولة جديدة، ومن بينها إصلاحات دياكو التي شملت تجريد الكهنة والسحرة من مناصبهم والقضاء على الطبقية بين الناس في المجتمع، وكانت طبقة السلطة الدينية ــــ الكهنة ــــــ هي السلطة العليا ثم تتبعها طبقة الحكام ولا تتغير هذه التراتبية إلا بشكل مؤقت في الحروب، وجود أهريمان المسؤول عن الشر في الديانة الزرادشتية هي شخصية موجودة في جميع الأديان لكن بأسماء مختلفة كإبليس في الإسلام واليهودية وملكه اد هشوخا عند الصابئة و إله الشر والظلام مارا الذي حاول منع سيدهارتا من القيام بواجب النبوة، تعددت الأسماء والشخص واحد، فمفهوم الشيطان اُعتبر في الأديان القديمة إلهاً وفي الأديان السماوية ملكا تم ابعاده من الحضرة الإلهية وأصبح له دور هامشي، وتحولت المعركة بين إله الخير والشيطان في الأديان القديمة إلى معركة بين الإنسان والشيطان في الأديان السماوية، وأن السبب الأساسي وراء وجود شخصية الشيطان في الأديان القديمة تنبع من فكرة عدم تقبل إسناد الشر إلى الخالق الذي يتصف بالخير المطلق والذي لا يصدر منه أي شر، حيث كانت هذه الفكرة حاضرة في جميع الأديان لذلك وُجد المسؤول عن الشر في الديانة الزرادشتية، وكذلك إشكالية المحدَث والأزلي عند المجوسية وغيرهم ، ولكن إسناد الشر إلى غير الخالق المتصف بالخير المطلق ولَّد مشكلة هي مسألة وجود خالقَين على اعتبار أن الشيطان يخلق الشر وهذه معضلة أخرى رافقت الأديان، وبالعموم كان وجود أهريمان محاولة لتنزيه أهورامازدا من الشر ولم تلتفت الزرادشتية إلى إشكالية وجود خالقَين، وفي الحقيقة لم تكن التفسيرات والتأويلات التي ساقتها الأديان الأخرى قادرة على تجاوز هذه الإشكالية بشكل كامل وإن كان الإسلام قد قدّم أفضلها بالمقارنة مع الأديان الأخرى فمثلا الإسلام قال إن ظاهر أفعال الله التي تتصف بالشر كالبراكين والزلازل والأوبئة شر وباطنها خير لا يدركها عقل الإنسان، كمحاولة لتجاوز مشكلة قديمة جديدة، أما الفعل الشرير الصادر عن الإنسان فهو من فعله ولا يتدخل أحد فيه لتحقيق مبدأ العدالة لتظهر إشكالية خلق الإنسان لفعله ومشكلة وجود خالقَين في العالم من جديد، فظهرت مصطلحات الكسب والإرادة الجزئية كمحاولة لحل مشكلة خلق الإنسان لفعله، لذلك وجود خالق آخر للشر في الزرادشتية يجب أن يُفهم في هذا الإطار، ومما يؤكد ذلك أن منزلة أهريمان هي أقل من منزلة أهورامازدا وغير متساوية معه، وعموما الأديان الدواليسمية يجب أن يُنظر إليها من خلال هذه المقاربة لفهم إشكالية وجود خالقَين.
الشرق المتصوف والمتميز بوجود فكرة الصراع داخل الإنسان بين قوتي الخير والشر مع الزمن خرّج هذا الصراع من داخل ذات الإنسان إلى العالم الخارجي وكوّن فكرة الدواليسمية التي تُعتبر أرضية أفكار الصراع بين النور والظلام والخير والشر فجغرافية الشرق الآري تعج بالدواليسمية.
أما ما يتعلق بالديالكتيك والصراع بين قوتي الخير والشر في الزرادشتية وهل كانت موجودة في صلب تعاليم زرادشت أم دخلت عليها فيما بعد؟ لكي نفهم هذه المسألة يجب أن نعرف أن نصوص الزرادشتية الأولى التي كانت منتشرة في كُردستان ومكتوبة على جلد الحيوان حُرقت مع غزو الإسكندر المقدوني لمناطق كُردستان ولم يبق منها إلا القسم المعروف اليوم بـ گاتا، جمعها الكهنة المجوس فيما استطاعوا جمعه من تلك النصوص بالإضافة أنها كانت مكتوبة بلغة لم يستطيعوا فهمها تماما، وعلى الأرجح تمت هذه العملية من خلال الكهنة المجوس مع قيام الدولة الساسانية بحلّة جديدة وكمحاولة للقضاء على الديانة المانوية التي ظهرت في تلك الجغرافيا بحجة إعادة الديانة الزرادشتية التي تُعتبر الديانة القومية للشعوب الآرية.
رغم ما تحملها الزرادشتية من كونها ديانة تمتاز بالواقعية ـــــ تهتم بالحياة اليومية ـــــــ إلا أنه يمكن ملاحظة الجانب الروحي الميتافيزيقي فيها والذي تبلور فيما بعد على شكل حركات صوفية عند الكُرد في الفترة الإسلامية مثل الطريقة القادرية والنقشبندية وغيرها ، فالزرادشتية أثّرت في تركيب البنية السايكولوجية عند الكُردي كثيرا، أما على الجانب السوسيولوجي فقد استمر وجود الطوائف والطبقية في المجتمع الكُردي وإن كان بأشكال مختلفة كالإندوغراميا اليوم عند الأيزيدية، فالطبقية والتناسخ الروحي بين الأموات والمواليد الجدد جعل دخول الدين من خارج الطائفة أمرا مستحيلا، وهذا يتشابه مع الكاست الهندي وإن كان يختلف من حيث بعض التفاصيل التي تتعلق بخلاص الشخص بعد ولادته في طبقة معينة لتحدد الكارما بعد موته الطبقة الجديدة التي سيُنسخ إليها والخلاص من السامسارا المتكررة في الحياة الدنيوية، ومن المرجح أن هذا النظام الطبقي كان حاكما في كُردستان في القرون التي سبقت دخول الكُرد في الإسلام، فكان دخول الكُرد في الدين الإسلامي تخلصاً من الظلم ورد فعلٍ لحماية بنية المجتمع الكُردي حيث لعبت فيه طبقة الكهنة تاريخياً دوراً سلبياً في الفترة التي انحرف فيه المجتمع عن جوهر تعاليم زرادشت واستمر الدور السلبي مع رجال الدين في العهد الإسلامي وما ترتب عليه من تجهيل للشعب الكُردي عبر فترات تاريخية طويلة نتيجة لأسباب مختلفة أثّرت كثيرا في تركيب العقل الكُردي الذي فقد معه جانب التفكير المنطقي لصالح التفكير الاعتقادي البحت الذي يغفل الجانب المنطقي تماماً من مفاصل الحياة.
نلاحظ دائما استمرار وجود بعض مقدسات انتقلت من ديانة إلى أخرى فالثور المقدس الذي تم تقديسه في كُردستان استمر تقديسه في الديانة الميترائية التي ظهرت فيما بعد وخصوصا إذا علمنا أن رمز الديانة الميترائية هو رأس ثور مذبوح، والشمس التي كانت ترمز للإله ميترا ظل تقديسها مستمرا في الديانة الزرادشتية التي ظهرت بعد الميترائية، وكذلك النار والضوء اللذان يعتبران من الصفات المقدسة المستمدة من الشمس، فالثيولوجيا الكُردية لها ملامح بارزة دارت حول الثور والشمس والنار في كل مراحلها التي سبقت الإسلام.
اليهودية والمسيحية والمانوية:
ظلت مناطق كُردستان بحكم الجغرافيا الجبلية الصعبة بمعزل عن تغيرات كثيرة في الديانة الزرادشتية على الأقل بشكلها الجوهري، فأول التغيرات في الديانة الزرادشتية في كُردستان حدثت تحت تأثير الحكم الأخميني لما كان تتمتع بها الكهنة من سلطة اُستغلت في توطيد أركان الدولة، ومع اجتياح الإغريق للمنطقة في عام 330 ق.م بدأت فترة جديدة من الحكم بواسطة الإغريق فلم يكن غزو الإغريق للمنطقة عسكريا فقط بل حمل معه الفكر والفلسفة الإغريقية إلى الشرق المتصف بالطابع الروحي التصوفي لتُعرف هذه الفترة بالعهد الهلنستي الذي حدث فيه تأثير متبادل بين الغرب والشرق وما يهمنا هنا التأثير الذي أحدثه الاجتياح الإغريقي لجغرافية كُردستان والديانة الزرادشتية بتعاليمها الأولى ورغم أن المراجع التاريخية لا تعطينا معلومات واضحة عن نوع التغيرات التي طرأت على الزرادشتية في العهد الهلنستي إلا أنه يمكن ملاحظة تحول الطابع الروحي (التصوفي) للديانة الزرادشتية إلى مرحلة أكثر وضوحا في محاولة فيما يبدو لصد الفكر الإغريقي الغازي المتعدد الآلهة، كما لا بد من الإشارة إلى أن الحكم الإغريقي كان ضعيفا أيضا في كُردستان بحكم الجغرافية الصعبة وكون مركز ثقل السلطة آنذاك في جنوب آريا وليس شمالها الغربي.
استمر الاحتلال لكُردستان والمنطقة من قبل الإغريق عدة قرون لينتهي مع قيام الدولة الساسانية في العام 226م حيث بدأ عهد جديد ظهرت فيها الديانة المانوية بطابعها الغنوصي متزامنةً مع قيام الدولة الساسانية في جغرافية آريا وكُردستان كجزء منها، ويبدو أن الديانة المانوية كانت نتاج عدة قرون من التمازج والاندماج في العهد الهلنستي حيث امتزجت المانوية مع الديانة البوذية والزرادشتية والمسيحية لكن طابعها الأساسي ظل التصوف الشرقي الذي يهدف إلى معرفة سر الإنسان وخلقه والبحث عن حقائق الكون من خلال ذات الإنسان نفسه، كما قالت بالتناسخ الشبيه في الأديان الهندية ، إلا أن الفترة التي انتشرت فيها المانوية كانت أقصر من أن تحدث تأثير حقيقي في جغرافية كُردستان رغم تحولها إلى الدين الرسمي للدولة الساسانية في عهد الملك سابور الأول لكنها لم تستمر كثيرا حيث قُتل ماني من قِبل بهرام بن سابور بعد تحريض من الكهنة المجوس في بلاط الملك بداعي تغيير الديانة التاريخية للشعب الآري الزرادشتية.
عادت المجوسية بقوة في العهد الساساني وانتشرت بشكل أكبر في عموم الإمبراطورية الساسانية ويمكن اعتبار هذه الفترة من أكثر الفترات تأثيرا في بقايا الديانة الزرادشتية التي ظلت مقاومة للتغيير في جغرافية كُردستان، حيث عاد النظام الطبقي بشكل كبير إلى المجتمع الكُردي بعدما غاب عدة قرون وإن كان له وجود طفيف في بعض الأماكن حينها، ورافق ذلك عودة طقوس دخيلة وإنشاء معابد النار وزيادة قدسيتها حتى ظن البعض أنها تُعبد من دون أهورامازدا، وزادت معها سلطة الكهنة المجوس في تحريف طقوس العبادة الزرادشتية، فلم تكن الحرب التي دارت بين الإمبراطورية الساسانية المجوسية وبين الإمبراطورية البيزنطية المسيحية عسكرية فقط، إنما كانت دينية إيديولوجية أيضا وخصوصا بعد اعتناق قسطنطين الأول الديانة المسيحية في عام 324م وبذلك تصبح المسيحية الدين الرسمي للدولة البيزنطية، ولعل تبني قسطنطين للمسيحية كدين كان لمجابهة الزرادشتية الساسانية، وجرت حروب طويلة استمرت لعشرات من العقود كانت منطقة الشرق الأوسط والأناضول وكُردستان ساحةً لها، وخصوصا الحروب الدينية والإيديولوجية التي حدثت على جغرافية كُردستان حيث كان لها تأثير واضح بحكم الموقع الجغرافي المتوسط بين الإمبراطوريتين وما لحقها من امتداد للديانة المسيحية، واليهودية وإن كانت بدرجات أقل إلى مناطق كُردستان، وبعد اعتناق الإسلام ظلت بعض المناطق على ديانتها المسيحية واليهودية في كُردستان، ما يمكن ملاحظته أيضا أن المعتقدات الدينية الزرادشتية حافظت على استمراريتها عبر الزمن ولو أنها انحرفت أو استمرت باطنيا من خلال اعتناق أديان أخرى وعلى رأسها الدين الإسلامي.
أثناء تصفح أوراق كتب التاريخ وجدنا تشابه كبير بين الميترائية والمسيحية في عدة أمور، كان المؤمنون الميترائيون يأكلون على شرف ميترا خبزا، يشربون خمرا، وهذا نراه عند المسيحية من مناولة الخبز والنبيذ التي ترمز إلى جسد المسيح ودمه، كما أن المعمودية كانت طقسا من الطقوس الميترائية ، وكان يُحتفل بعيد مولد الإله ميترا في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول وهو تقريبا نفس يوم احتفال المسيحية بمولد اليسوع، وعلى العموم حدث تأثير متبادل بين الديانات في تلك الجغرافيا من بينها كُردستان التي كانت مسرح كثير من الأديان والطوائف حتى فترة دخول الإسلام.
الإسلام:
غزت جيوش العرب المسلمون أراضي كُردستان في فترة حكم عمر بن الخطاب وعثمان ، وكُردستان مملكة الجبال كانت مقسمة إلى أقاليم عدة هي إقليم الجزيرة وشهرزور وأذربيجان وأرمينيا وأران وإقليم الجبال وغيرها من المناطق التي يتواجد فيها الكُرد ، وأهم قادة الغزوات عياض بن غنم الذي توجه لغزو الجزيرة وتولى قادة جنده غزو الرها ونصيبين وحران وكلها قبلت بدفع الجزية حيث اُعتبرت أسهل المناطق التي تم السيطرة عليها دون قتال، وولي حبيب بن مسلمة على عجم (الكُرد) الجزيرة، ثم توجه سهيل الخزرجي إلى ماردين وآمد وميافارقين ودارا، وغزى عتبة السلمي شهرزور وأذربيجان التي أصبح واليا عليها فيما بعد، ثم عاد عياض وغزى كل مدن أرمينيا وأران، وكذلك تم غزو مناطق شرق كُردستان ، وكانت كُردستان من الشرق تحت الحكم الساساني ومن الغرب تحت الحكم البيزنطي، ولن نخوض أكثر في تفاصيل هذه الغزوات فما يهمنا هو أكبر من جمع المعلومات التاريخية.
ما يثير الاهتمام سرعة دخول الكُرد في الدين الجديد واستسلامهم وقبولهم بدفع الجزية حتى بدون قتال رغم ما يُعرفون به من قوة في الحرب لكن هذا لا يعني عدم حدوث قتال بينهم بالمطلق ، فالمرجّح أن الكُرد ضاقوا ذرعا من سلطة الكهنة المجوس وحكم الدولة الساسانية ناهيك عن الضرائب التي كانوا يدفعونها، والحكم بالحديد والدم الذي كان يرزحون تحته، فدخول الدين الجديد محاولة للتخلص من الحكم الفارسي الذي انتزع ملك الكُرد في الماضي ومحاولة لنيل الحرية والخلاص من الطقوس المحرفة للديانة الزرادشتية والنظام الطبقي أيضا ، لكن حكم العرب المسلمون لم يستمر كثيرا حتى ثار الكُرد ضدهم وقامت عشرات الثورات في عهد عمر وعثمان فقط ، يتبادر إلى الذهن لما ثار الكُرد في هذه الفترة القصيرة كل هذه المرات؟ المرجح أن الكُرد قبلوا الدين الإسلامي لكن لم يقبلوا أن تحكمهم قوة أجنبية، كون العرب المسلمون عمدوا إلى تعيين ولاة من العرب أغلبهم كانوا من الجزيرة العربية ولم يكونوا من سكان المنطقة الأصليين فطبيعة المجتمع الكُردي تاريخيا ترفض الخضوع والسيطرة للغريب الغازي، وهل كان دور المسلمين الدعوة ونشر الدين الجديد أم الحكم باسم الدين حتى بعد أن أصبحت تلك الشعوب مسلمة لها الحق مثل العرب في إدارة نفسها، وفي فترة حكم عثمان وبالتحديد في سنين الفتنة التي سبقت مقتله أرسل إلى عماله في الأمصار للاجتماع والمشورة فكانت إحدى الآراء التي طُرحت على عثمان هي إشغال الناس بالجهاد في الثغور كي يتجاوز الفتنة الداخلية الناتجة عن سوء الإدارة وهدر أموال المسلمين حينها، أما القول القائل أن نشر الدين كان في البداية يتطلب دولة قوية وغزو المدن بالقوة فماذا عن المسيحية التي عددها اليوم أكثر من المسلمين ولم تكن لها لا دولة و لا نشر الدين بالقوة في بدايتها؟ ولم تكن للمسيحية دولة إلا بعد عقود طويلة من التبشير، أما آيات الجهاد ونشر الدين بالقوة نعتقد أنها محصورة بالجزيرة العربية من حيث الزمان والمكان، والأمر يحتاج إلى تفصيل أكثر لا يسع المقال لذكره، ومع قيام الدولة الأموية وتغيير نظام الحكم إلى وراثي قومي زادت شدة الحركات الشعوبية (القومية) ضد الدولة الأموية التي تبنت الفكر القومي ضد الشعوب الأخرى التي سمتهم بالموالي وكانوا مواطنين من الدرجة الثانية، وتم تصميم الدين الإسلامي على مقاس وهوى أموي وأصبح الدين وسيلة بأيدي الملوك لحكم الناس وعمدت المكينة الإعلامية للأمويين إلى تشويه صور كل المخالفين لها خصوصا من الموالي والمعارضين لظلم الدولة الأموية، وجندت لهذه الغاية جيشا من مروجي الدعايات وعلماء المال، وللأسف رغم كل القيم السامية التي يحملها الدين الإسلامي للبشرية ضاعت هذه القيم أثناء التطبيق العملي في نواحي كثيرة لكونها لم تُفهم من قبل المسلمين أولا، وثم تغييبها ثانيا، وتبني قيم اُستعملت في غير محلها، كأن يُختزل الدين الإسلامي اليوم في الجهاد فقط! من قبل البعض وتُغاب قيم السلام والرحمة والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة .
بعد سقوط الدولة الأموية قامت الدولة العباسية التي اُعتبرت أكثر انفتاحا على الموالي من كُرد وترك وفرس وشاركوا جزئيا بإدارة الدولة، وشهدت الدولة العباسية ازدهارا كبيرا بفضل سياسة الانفتاح وما تلاها من إنشاء مكتبة الحكمة التي شهدت حركة ترجمة كبيرة شارك فيها الكُرد بنقل العلوم من وإلى اللغة العربية، وظهر كثير من العلماء الكُرد في فترات عصر التأليف والتدوين، وكان للكُرد أسماء بارزة ساهمت في الازدهار العلمي للدولة العباسية الإسلامية، وقامت لهم دول كثيرة في عصر الانحطاط الإسلامي بعد ما ضعفت الدولة المركزية في بغداد، واستمرت هذه الدول في العهد العثماني وبعد سقوط الأخيرة ظهرت الحركات القومية والعلمانية المتزامنة مع اتفاقية سايكس ـــــــ بيكو التي قسمت المنطقة وفق رغبات الدول الاستعمارية الكبرى وظهور الدول الحديثة التي نراها اليوم.
رغم دخول الكُرد الدين الإسلامي بإخلاص وعملوا جاهدين على نشره وشاركوا في حروب كثيرة لهذه الغاية، للآسف لم ينصفهم التاريخ الإسلامي بل سعى جاهدا إلى تشويه صورتهم وكُتب التاريخ شاهد حي على حجم التزوير والتشويه بغرض التهميش ونفي الوجود، لا أريد أن أقدم نظرة سوداوية للقارئ بقدر ما هي حقيقة موجودة، ويمكن القول دون أي تردد لم يُنصف المسلمون الأقليات العرقية رغم أنها مسلمة وعلى رأسهم القومية الكردية، وظهرت مشكلة القومية الكردية مع الدين الإسلامي في حين أنها لم تظهر في الأديان السابقة، فالإسلام يُعتبر نقطة مفصلية فالكُرد ما قبل الإسلام شيء ما بعده شيء آخر، وأدى اختلاط الموروث الثقافي والعادات والتقاليد في الجزيرة العربية مع الدين الإسلامي إلى خلق إشكالية عدم التمييز بين ما هو مطلوب دينيا وما هو غير مطلوب فولّد ذلك اصطدام الدين بالقومية عند الكُرد وغيرهم وظهر مفهوم تطبيق العادات والتقاليد كجزء من الدين بحد ذاته مما أدى إلى ذوبان الجانب القومي للشعوب غير العربية، وتغيرت أسماء الناس والبلاد إلى أسماء عربية واُعتبرت الأسماء القومية تمثل نزعة جاهلية ضد الدين، وما رسخ هذه الأفكار الخاطئة إلا رجال الدين الذين للآسف تفقهوا بالدين بشكله السطحي فكانوا أداة لصهر المجتمع الكردي ودورهم التدميري في منع المطالبة بالحقوق القومية لشعب مسلم مثل غيره من الشعوب التي ضمنها الله للبشر ، (أخبرني جدي أن رجل الدين وإمام المسجد في قريتنا متينا ـــــ قرية متينا تقع في منطقة أومريا شمال ماردين ــــــــ أن من يقتل عشرة من الكفار الأرمن سيدخل الجنة دون حساب ومهما كانت ذنوبه).
كتب التاريخ زاخرة بتشويه صورة الكُرد سواء بفعل المؤرخين أنفسهم أو من خلال روايات نشرها أصحاب ضمائر ميتة، فيذكر الطبري أنه بعد ما وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هزن وكان أول مَنْ صنع المجانيق فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، رغم أن الطبري لم يشترط الصحة في نقل الرواية، فتحديد الشخص بقوميته يطرح بعض التساؤلات كون الحادثة ترجع إلى العام 2180 ق.م وما بعدها، أصل الكُرد حسب المسعودي هم عرب من ربيعة ومضر، وتارة هم أولاد الجن والشياطين ، أو هم جيل جن كُشف عنهم الغطاء وغيره كثير، ربما برر بعض الباحثين هذه الخرافات كون المسلمين لم يكونوا يعرفون أي شيء عن الكُرد وكانت مناطقهم بعيدة يكتنفها الغموض، لكن هذا ليس دقيقا، فإن كان الماضي يحتمل هكذا تأويل حسب البعض فماذا عن اليوم؟ والتهم التي تُساق حول الكُرد، تارة هم غرباء ليسوا من المنطقة ولم يكن لهم وجود سابق ومغتصبو أراضي الغير، وتارة هم فرس أو ترك وبدو وشعوب همجية، وتارة ملاحدة (شيوعيون) وتارة مرتدون، وتارة انفصاليون وعملاء وخونة، الحقيقة إن شيئا لم يتغير فعقلية الماضي مستمرة في الحاضر وطيلة التاريخ عمد الملوك ووكلائهم من الأبواق والعلماء إلى تشويه صورة الخصوم المطالبين بحقوقهم المغتصبة، واليوم لا تختلف الأمور كثيرا فما زال بعض الحكام في المنطقة يستخدمون نفس الاستراتيجية وبشكل علني لتشويه صورة الكُرد لطلبهم فقط بعض حقوقهم الثقافية والقومية.
الخاتمة
محاولة فهم التاريخ الثيولوجي الكُردي المبكر اعتمد على تحليل وربط المعلومات المتاحة، ونتائج البحث في تلك الفترة قابلة للتغيير مع تجدد المعلومات والمكتشفات، فكان الهدف رسم صورة تاريخية كاملة للقارئ تُسهم في فهم المرحلة اللاحقة للفترة المبكرة وفق تسلسل ثيولوجي تطوري.
برزت سمات أساسية في الثيولوجيا الكُردية تتركز حول الثور والشمس والنور والنار حيث استمرت وجودها دائما بغض النظر عن الدين السائد وبقيت قدسيتها تنتقل من جيل إلى آخر فكان الثور مقدسا بداية ثم بعد ظهور الميترائية أصبح رمزا لها، والشمس التي كانت ترمز للإله ميترا أصبحت رمزا للإله أهورامازدا في السماء وكانت النار تُقدّس تقربا له ومع أن هذه الرموز الدينية قد غابت كطقوس من الناحية الدينية في الإسلام إلا أنها استمرت ثقافيا عند الكُرد مثل رمز الشمس في العلم الكُردي.
تُعتبر الزرادشتية الديانة الثانية بعد الإسلام من حيث تغلغلها بين الكُرد وتأثيرها في بنية المجتمع وثقافة الفرد وما تزال آثارها موجودة إلى يومنا هذا، ورغم القيم السامية في تعاليم زرادشت إلا أن انحرافها أعاد الطبقية إلى المجتمع الكُردي بعدما كانت تغيب مدة بظهور دين جديد.
لعبت طبقة الكهنة ورجال الدين في أغلب مراحل التاريخ دورا سلبيا في تجهيل المجتمع الكُردي لأسباب كثيرة، وأدت تعاليم رجال الدين المحرفة إلى خلق جدلية في ذات الفرد الكُردي بين القومية والدين وخصوصا في فترة الإسلام التي اُجبر فيها على الاختيار بين الدين أو القومية.
يعتمد الساسة اليوم على نظام تصدير الأزمات إلى خارج البلاد لتشتيت ذهن المجتمع عن المشاكل الداخلية فتعتمد على تجييش العواطف ضد مسألة معينة يُستعمل الدين كوسيلة في أكثرها، وهذه سياسة وُجدت طوال التاريخ الإسلامي بما فيه العصر الذي عاش فيه الخليفة عثمان.
تبني الخطاب الديني من قبل بعض الأحزاب الحاكمة يهدف بالأساس إلى استغلال العاطفة الدينية في كسب أصوات الناخبين وتوطيد دعائم حكمها، وتشكيل جيش عقائدي مدني من الناس السذج، وإتهام كل معارض لها بالكفر والردة وهدم أركان الدين وخصوصا الأقليات.
تقديس الشعوب لشخصيات تتبنى الخطاب الديني ما هو إلا اشباع عاطفي يتولد عن تقديس الشخصيات الدينية في تاريخ الماضي والشوق لشيء غير موجود أصلا، واسترداد أمجاد الخلافة محفور في وعي المسلم والممزوج بإحساس الظلم الذي يظن أنه تعرض له جراء زوالها، فالتاريخ الخاطئ الذي تقصّدت الأنظمة تدريسه للشعوب المسلمة سعى إلى تكريس وجود شخصيات مقدسة ودول شبيهة بالجنة.
الكُرد مثل غيرهم من القوميات المسلمة لهم الحق الكامل أن يعيشوا بطابعهم القومي أسوة بالقوميات المسلمة التي تجاورهم فلا تعارض بين القومية والدين، وكل الدعوات من الكُرد أنفسهم أو غيرهم إلى التخلي عن أحدهما لصالح الآخر ليس إلا خدمة للقائمين على مشروع شيطنة الكُرد في المنطقة.
المراجع
يوري دميترييف، الإنسان والحيوان عبر التاريخ، (ترجمة محمد سليمان عبود)، طـ 1، النمير، دمشق، 1993.
كولياموف، صلوات، صلوات كولياموف، آريا القديمة وكردستان الأبدية، "الكرد من أقدم الشعوب"، (ترجمة إسماعيل حصاف)، رۊژهلات، الطبعة الأولى، هولير 2011.
أ. س. ميغوليفسكي، أسرار الآلهة الديانات، (ترجمة مخائيل حسان اسحق)، الطبعة الرابعة، دار علاء الدين، دمشق 2009.
اليوسف، مرشد، دوموزي (طاووس ملك) بحث في جذور الديانة الكردية القديمة، 1999.
الشهرستاني، أبو الفتح، الملل والنحل، الجزء الثاني، (تحقيق أحمد فهمي مجمد)، الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1992.
دالبوداك، مسعود؛ شاكر، حسين، الوجه السياسي للتصوف الكُردي-النقشبندية والقادرية، مقالة غير مطبوعة، 2018.
الهاشمي، طه، تاريخ الأديان وفلسفتها، مكتبة دار الحياة، بيروت، 1963.
البغدادي، أبو منصور، الفرق بين الفرق، (تحقيق محمد عثمان الخشت)، ابن سينا، 1988.
الواقدي، أبو عبد الله، فتوح الشام، المجلد الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997.
العمري، ابن فضل، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، المجلد الثالث، دار الكتب العلمية، بيروت، 1971.
العمري، ابن فضل، التعريف بالمصطلح الشريف، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988.
الطبري، أبو جعفر، تاريخ الطبري، المجلد الرابع، دار المعارف، 1967.
ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، المجلد الثاني، 1988.
ابن كثير، البداية والنهاية، (تحقيق مجموعة من العلماء)، ط 2، جـ 1، دار ابن كثير، دمشق 2010.
المسعودي، مروج الذهب، المجلد الثاني، الطبعة الأولى، 2005.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هاجمه كلب بوليسي.. اعتقال فلسطيني في الضفة الغربية


.. تغطية خاصة | الفيتو الأميركي يُسقط مشروع قرار لمنح فلسطين ال




.. مشاهد لاقتحام قوات الاحتلال نابلس وتنفيذها حملة اعتقالات بال


.. شهادة فلسطيني حول تعذيب جنود الاحتلال له وأصدقائه في بيت حان




.. فيتو أمريكي في مجلس الأمن يطيح بآمال فلسطين بالحصول على عضوي