الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النقد وتأسيس العقلانية

عقيل عيدان

2006 / 4 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شغلت النظرية النقدية – والتي تعد واحدة من أهم المسائل الفكرية منذ مائتي سنة وحتى اليوم- الفلاسفة منذ ايمانويل كانتْ وحتى ميشيل فوكو، وليفي ستروس، وغيرهم كثير. ويمكننا القول أن كل الفلسفة الحديثة هي فلسفة نقدية. والواقع أن تقدّم الغرب على الآخرين يعود إلى تبنِّيه هذه المنهجية النقدية التي لا تؤمن بصحة أي شيء ولا أي عقيدة أو فكرة إلاّ بعد أن توضع على محك الغربلة ، والنقد والتمحيص .
لكن ماذا نعني بالنظرية النقدية ؟ إن النظرية النقدية بالمعنى الواسع للكلمة تعني كل اتجاهات الفلسفة المعاصرة تقريباً. فلا توجد فلسفة غير نقدية. ومن لا يمارس النقد لا يتقدَّم ولا يتطوَّر. وبالتالي فهي تعني الاتجاه الماركسي والاتجاه البنيوي وما بعد البنيوي، واتجاه التفكيك على طريقة جاك دريدا ومشايعيه ، وتيار التحليل النفسي، والتيار السيميائي والألسني الحديث الهادف إلى تحليل الخطاب بشتى صنوفه وأنواعه.
يمكننا القول أن "الأب" المؤسِّس للتراث النقدي في الفلسفة هو ايمانويل كانتْ I. Kant وبالتالي، فينبغي أن ننطلق منه لكي نحدِّد ونفهم معنى النظرية النقدية. وحتى عناوين كتبه الأساسية تحمل مصطلح النقد وتضعه في الصدارة. نذكر من بينها كتابه الشهير : نقد العقل الخالص/المحض ، وكذلك نقد العقل العملي وغيرهما. وكان كانتْ يحب أن يدعو فلسفته بالفلسفة النقدية.
لكن ما الذي يعنيه كانتْ بهذا المصطلح ؟ إنه يعني ما يلي : القيام بتحليل نقدي لإمكانيات العقل البشري وعدم إمكانياته . بمعنى ؛ إلى أي مدى يمكن للعقل البشري أن يفهم الظواهر ويفسرها ؟ وأين تنتهي حدود العقل البشري ؟ وكان جواب كانتْ هو أن العقل يستطيع أن يفهم عالم الظواهر الطبيعية المحسوسة عن طريق استخدام المنهجية العلمية من فيزيائية ورياضية (حسابية) على طريقة نيوتن . ولكنه لا يستطيع أن يفهم أبعد من ذلك .
فما وراء الظواهر المحسوسة يوجد عالم الميتافيزيقيا ، وهذا العالم لا يمكن للعقل البشري أن يصل إليه إلاّ عن طريق التخمينات والتأملات . وبالتالي ، فيفضّل أن يكتفي العقل البشري بمعرفة ما يمكن معرفته . أي أن يعرف حدوده وإمكانياته .
وقد يقول قائل : ولكن كانتْ- بهذا المعنى- يحجّم من العقل البشري ويحتقره إذ يضع له حدوداً لا ينبغي أن يتعداها ؟ ولكن الواقع أن العكس هو الصحيح ، فانشغال العقل بمعرفة ما يمكن معرفته أفضل له من تضييع الوقت فيما يتجاوز حدوده وطاقته . والدليل على ذلك أن العقل (العملي- الفلسفي) الذي أسسه نيوتن وكانتْ هو الذي صنع كل الحضارة الحديثة ، وأدّى إلى التقدّم التكنولوجي والصناعي والطبي الهائل في الغرب ، وبالتالي أدّى إلى تحسين وضع الإنسان وتسخير الطبيعة لمصالحه ومنافعه بعد أن كانت تخيفه وترعبه في القرون السابقة .
لقد ثار كانتْ على الفلسفة الدوغمائية الميتافيزيقية التي كانت سائدة في عصره والتي كانت تعتقد بإمكانية معرفة ما وراء الظواهر المحسوسة . وقال لجميع الفلاسفة السابقين : (( كُفّوا عن هذا الهراء! )) كُفّوا عن التَّهويم في متاهات الميتافيزيقيا وما الذي سيحصل بعد الموت . واهتمَّوا بمشاكل هذه الحياة الأرضية ومشاكل المجتمع المحسوسة فهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن تعرفوه بعقولكم . وأما الباقي فهو من اختصاص الدين والتأملات الميتافيزيقية ، ولذلك قال كانتْ كلمته الشهيرة : (( حيث تنتهي حدود العلم تبتدئ حدود الإيمان )) .
وبالتالي فلا ينبغي الخلط بين المجالين ، وإنما ينبغي أن نعطي لكل ذي حق حقه . وهكذا نربح الدنيا والآخرة في آن معاً . هكذا نستطيع التوصُّل إلى مجتمع علمي ، عقلاني ، متقدم ، أخلاقي ، وهذا المشروع الفلسفي الكبير هو الذي تحقَّق في المجتمعات الأوربية . بعد مائتي سنة من موت مؤسسة ايمانويل كانتْ .
والآن ننتقل إلى جورج فيلهلم هيغل . فهو أيضاً من أتباع الفلسفة النقدية ومن تلامذة كانتْ في البداية . ولكنه ككل تلميذ عبقري خرج على أستاذه وانتقده . وأدّى ذلك إلى توسيع دائرة الفلسفة النقدية لكي تشمل مجالات أخرى غابت عن ذهن كانتْ . فقد ركَّزت الفلسفة الهيغليه على مسائل المجتمع والتاريخ والسياسية وكيفية تنظيم المجتمع الحديث أكثر مما ركزت الفلسفة الكانتية . ورأى هيغل أن الحرية تعني تحقّق الروح/العقل في التاريخ أو تحقيق الإنسان لذاته في المجتمع وعلى هذه الأرض .
والحداثة تعني الحرية ، ولذلك فإن الثورة الفرنسية كانت ذات أهمية كبرى في نظر هيغل . فلأول مرة يصبح الإنسان حراً بعد أن كسر قيود وأصفاد العالم الإقطاعي- اللاهوتي- المسيحي القديم . وقال هيغل بأن الحرية لا يمكن أن تتوافر للمواطنين إلاّ بعد تشكيل الدولة الدستورية الحديثة ذات القوانين الواضحة التي تنطبق على الجميع .
ثم جاء بعده كارل ماركس لكي ينتقد (أستاذه) هيغل . هكذا نلاحظ أن كل فيلسوف جديد ينتقد الفيلسوف الذي سبقه . وعن طريق النقد يحصل التطوّر والتقّدم .
وبالتالي فالنظرية النقدية هي نظرة ديناميكية ، حيوية تؤدي إلى تقدّم الفكر ، والمجتمع ، والتاريخ . والمجتمعات التي لا تنقد نفسها أو لا تسمح بحرية النقد تظل جامدة ، متخلِّفة ، استبدادية .
لقد ركَّز ماركس نقده على مثالية هيغل . على الرغم من انه أخذ عنه المنهج الجدلي في التفكير إلاّ أنه قلبه ضده . فهيغل كان يقول بأن الوعي هو الذي يشرط الوجود الاجتماعي أو يتحكم به . أما ماركس ، فيقول بأن الشروط المادية والاجتماعية هي التي تشكِّل وعي الفرد أو تتحكم به . فالإنسان ابن ظروفه التي يولد فيها ، وليس هو الذي يوجد الظروف ، وكان نقد ماركس يتركز على استلاب العمال في المجتمع الصناعي الرأسمالي كما هو معروف .
ننتقل الآن إلى (فريدريك نيتشه) الذي كان معاصراً لماركس دون أن يعرفه وربما دون أن يسمع باسمه .
والواقع أنه كان نقدياً بمعنى آخر مختلف تماماً . فقد ركَّز نقده على الوضع الثقافي لأوروبا لا على الوضع المادي . كما وركَّزه أيضاً على المسيحية وقيمتها الاستلابية بحسب رأيه . وكذلك انتقد قيم الحداثة والمجتمع الصناعي الصاعد في عصره .
باختصار ، فإن نيتشه انتقد كل شيء ودعا إلى تغيير كل القيم السائدة . ولكن من الصعب فهم نيتشه أو حتى ماركس بدون خلفية فلسفية كبيرة . وقُل الأمر نفسه عن هيغل وكانتْ وغيرهما من كبار الفلاسفة .
ثم جاء بعده (ماكس فيبر) عالم الاجتماع الألماني الشهير . وقد انتقد الرأسمالية بطريقة مختلفة تماماً عن طريق ماركس . فالرأسمالية قد تنسى المبادئ الأخلاقية ولا تعود تفكر إلاّ في زيادة الإنتاج والربح . وهذا هو الخطر الذي يهدّدها في الواقع .
وهذا ما حصل بالضبط في أيامنا هذه . فمرض (جنون البقر) مثلاً ناتج عن رغبة الرأسماليين في زيادة الإنتاج إلى أقصى حد ممكن ، وبالتالي زيادة الأرباح بأسرع وقت ممكن وإلى أقصى حد أيضاً . ولذلك ، فَبَدَل العَلف الطبيعي أخذوا يقدِّمون للحيوانات علفاً اصطناعياً مؤلفاً من مسحوق العظام ! وكانت النتيجة حصول هذا المرض الخطير . وقد حصلت أمراض أخرى أيضاً بسبب "جشع" الرأسماليين الذين لا يشبعون .
وضد هذا الاتجاه ثار (جوزيه بوفيه) والمنظمات المضادة للعولمة الرأسمالية اللاإنسانية بل والمجرمة في بعض الأحيان .
ننتقل الآن إلى (مدرسة فرانكفورت) . ومعلوم أنها هي التي دَعَت نفسها بالمدرسة النقدية وبلورت بعد الحرب العالمية الثانية ما يدعى بالنظرية النقدية . ولكنها اتخذت هنا معنى خاصاً ، معنى مختلفاً عن كانتْ . فالنقد أصبح يتركَّز الآن على هذا العقل الغربي الذي أسَّسه كانتْ قبل زهاء قرنين والذي أدى إلى مجازر الحرب العالمية الثانية وتجاوزات الرأسمالية وطغيانها . وبالتالي فإن المؤسِّسَيْن الكبيرين لمدرسة فرانكفورت ، أي (هوركهايمر) و(أدنورنو) ركَّزا نقدهما على عقل التنوير أو بالأحرى على انحرافه عن مقاصده الأولى . فقد تحوَّل إلى عقل "أناني" ، "بارد" ، لا يفكر إلاّ في مصلحة البُعد الواحد بتعبير (هربرت ماركيوز) ، العقل الذي أصبح مجرد أداة فعَّالة في يد الرأسمالية والمجتمع الاستهلاكي الحديث . وهو مجتمع لا يؤمن بأي قيمة أخرى ما عدا قيمة الربح ، والفائدة ، واللذة الحسية ، والتوسّع والسيطرة .
ثم جاء أخيراً – وربما ليس آخراً – (كلود ليفي ستروس) وانتقد العرقية المركزية الأوروبية وقال بأنه توجد ثقافات أخرى في العالم غير الثقافة الغربية . وبالتالي ، فينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار إذا ما أردنا تشكيل فلسفة إنسانية متكاملة تشمل جميع شعوب الأرض وليس فقط شعوب أوروبا وأمريكا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم


.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا




.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت