الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة إيزابيل أميرة صيدا وملكة إسرائيل

عضيد جواد الخميسي

2018 / 11 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



كانت إيزابيل الأميرة الفينيقية في صيدا (القرن التاسع قبل الميلاد) التي وردت قصتها في تناخ العبرية (العهد القديم) سفر الملوك الأول والثاني ، حيث صُوّرت كزانية متآمرة شريرة تريد ان تفسد إسرائيل وتتكبّر على الإله . البحوث والدراسات الأخيرة التي أدت إلى فهم أوسع للحضارة الفينيقية ، ودور المرأة فيها ، والجهود التي بذلت من أجل إقناع الناس بالديانة العبرية ، والهيمنة على عبادة الآلهة الكنعانية عشتاروت وبعل ، وهنا لابد ان نعطي صورة مختلفة وأكثر وضوحا لإيزابيل كامرأة تزوجت وهي صغيرة السّن في ثقافة مجتمعية ، عندما كان الكهنوت العبري يرى فيها تهديداً مباشراً له .
المؤرخة والباحثة التوراتية " جانيت هاو غينز" تشير الى هذا التفسير في بحثها الجديد :
( منذ أكثر من ألفي سنة ، كانت إيزابيل مثقلة بسمعة الفتاة السّيئة في الكتاب المقدّس ، وبأنها أكثر النساء شرّاً. وقد وصِفت هذه الملكة القديمة بالقاتلة والعاهرة وعدوة الله ، حتى أن اسمها وضِع على منتجات الملابس الداخلية ، وصواريخ الحرب العالمية الثانية. ولكن كم كانت فاسدة إيزابيل هذه ؟ في السنوات الأخيرة ، حاول العلماء إعادة البحث عن سِيرْ الشخصيات النسائية الغامضة في التاريخ و التي غالباً ما تم سرد حكاياتها في الكتاب المقدّس و بتفاصيل قليلة ) ( ص32) .
على الرغم من ارتباط اسمها بالإغواء والفساد والدعارة على مدى قرون ، إلا أن فهماً أكثر دقة لإيزابيل يظهر عندما ننظر اليها ببساطة ، على أنها امرأة رفضت الخضوع للمعتقدات والممارسات الدينية لزوجها وثقافته. وقد زُعم أن اسمها يعني ، أين هو الله ؟ أو ، " أين هو الأمير" وحتى لمعنى " غير جليل ". كل هذه الادعاءات تأتي من مصادر معادية لإيزابيل ، ومع ذلك ، لا معنى لهذه الصفات عندما نعتبر أن والدها هو " الملك إيثبال " ملكاً على صيدا ، والكاهن الأكبر في فينيقية ، لذا فمن الصعب تصوره انه قد منح ابنته اسماً غير لائقاً بمعناه الحرفي ( أين الله ؟) أو ( أين الأمير ؟) ، ولا أحد يعرف الإجابة فعلاً على سؤال مثل ("أين هو الله ؟" أو "أين هو الأمير؟"). من المرجح أن اسمها يعني "ابنة بعل" أو ، كما يقال اليوم ، "ابنة الله" .والحقيقة أن اسمها قد تم تفسيره بمعنى سلبي ، وهو نموذج للأسلوب المتبع في كتابة القصص للكتابين الأول والثاني من سفر الملوك ، ولكن كما تقول المؤرخة غينز:
( هناك المزيد لهذا الملك المعقّد مما يسمح به التفسير النسبي ، و للحصول على تقييم أكثر إيجابياً لحكم إيزابيل المضطرب وفهم أعمق لدورها ، يجب علينا تقييم الدوافع المتباينة في الكتاب المقدس والتي تدين الملكة. علاوة على ذلك ، يجب علينا إعادة قراءة المضمون من وجهة نظر الملكة ، ومن ثم ندخل الى العالم الذي كانت تعيشه إيزابيل . تبدأ الصورة الكاملة لهذه المرأة الرائعة في الظهور. فالقصة ليست جميلة ، وبعض - وربما معظم - القرّاء سوف تزعجهم أفعال إيزابيل . لكن شخصيتها قد لا تكون سوداوية كما اعتدنا طريقة التفكير، إلا إن شرّها ليس واضح تماما كما يريده مؤلف الكتاب المقدّس أن يظهره)( ص 56) .
تتمتع المرأة الفينيقية بحرّية واسعة تكاد تكون متساوية مع حرية الذكور. إذ يرأس كل من الرجال والنساء التجمعات الدينية ، كـ (كاهن وكاهنة ) ، وباعتبار إيزابيل ابنة لملك وكاهن كبير ، فكان من الطبيعي أن تبدأ إيزابيل حياتها في سلك الكهنوت . كانت شدة صراعها المستمر مع " النبي إيليّا " في سفر الملوك الأول قد فسّره البعض بأنه مجرد صراع ديني ثقافي ، بسبب ان الإسرائيليين لم يكونوا معتادين أبدا على حكم تقوده امرأة قوية ، ولم تعتد إيزابيل ايضا في سلوكها على أنها امرأة ، فهي بالتالي مواطنة من الدرجة الثانية . ولكن ربما لم تكن جميع قراراتها هي الأكثر حكمة ونجاحاً ، وفي أحايين ربما تكون مخطئة جدا (كما في حالة نابوت) ، ومن ذلك يمكن تُحسب كردود أفعال لجملة الأعراف والتقاليد التي تتعامل معها الأميرة الفينيقية دون أن تأخذ بالاعتبار المعايير الثقافية لتوجهات ومعتقدات زوجها.
تزوجت إيزابيل من الملك " أحاب بن عومري " ملك شمال إسرائيل بصفقة سياسية كوسيلة لدعم التحالف بين مملكة (إفرايم والسامرة ) وولايتها مسقط رأسها ( صيدا) . وكما تلاحظ المؤرخة غينز، لا توجد وسيلة لمعرفة ما إذا كانت راضية عن هذا الاتفاق أم لا ، ولكن على الأرجح ، أنها كانت مجرد ضحية تمثل دورا ثانوياً في مسرحية سياسية ، بطلها والدها .
عند وصولها إلى بيتها الجديد ، دخلت على الفور في صراع مع الطبقة الدينية عن طريق جلبها كهنتها و كاهناتها وإقامة الأضرحة والمعابد للآلهة على ضوء معتقداتها.
موقفها المتمرد على ما يبدو تجاه دين زوجها ، أزعج " إيليا النبي " الذي كان قد اعترض على جملة من السلوكيات التي تتنافى مع العقيدة العبرانية . ثم يتصاعد الصراع فيما بينهما لدرجة أن إيليا تحدى كهنة إيزابيل للإله "بعل " على جبل الكرمل ، وكان هذا التحدي ، على أن إيليا يدعو الرب لإحراق ثور كقربان على مذبحه ، وكهنة إيزابيل سوف يطلبون من الإله بعل لفعل نفس الشيء ، بشرط على أن يثبت أيهما أقدر على إحراق الثور سيفوز بالتحدّي ويكون معترف به كإله حقيقي .

قام 850 كاهنا من كهنة بعل بـ " رقصة القفز حول المذبح " وذلك لجذب انتباه إلههم ،(ملوك الأول 18:26). وكانت دعواتهم له بسماع توسلاتهم وصلواتهم كي يبعث النار إلى المذبح . وكانوا في كل يوم يقفزون ويصلّون ولكن لم تردهم أية إشارة أو استجابة من إلههم .
إيليا .. كان يجلس في مكان قريب ويراقبهم ، وإذا به يسخر من كهنتهم ويسألهم : أين هو إلهكم ؟. ثم يقول لهم : ربما البعل مشغول جدا في مكان ما لتناول الطعام ! ، أو ممارسة الجنس ! ، أو منهمكاً في بعض المتع الأخرى التي تمنعه ​​من الرد على صلواتكم !. وكان يريد منهم أن يستسلموا . وبالنتيجة خاب ظنهم وقبلوا الاستسلام بالخسارة .
جاء دور ايليا في الصعود الى المذبح في أعلى الجبل . أوضح كاتب سفر الملوك الأول بأن رّب إيليا هو الإله الحقيقي ، إذ قام بإحضار الرّب عند صلاة إيليا على الفور، (فسقطت نار الرب و أكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة )(الملوك الأول 18:38). . (فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا الرّب هو الله الرّب هو الله ) . ( 18:39 الملوك الأول ) .
لقد فاز إيليا بتحديه ، وإثبت أن إلهه هو الإله الحقيقي الوحيد ، حاكم السماوات والأرض. وباعتباره بطل بنظر الإله ، يبدو أن إيليا قد فرض إرادة إلهه على شعب إسرائيل . المؤرخة غينزعلّقت على هذا الحدث حين كتبت :
(من سخرية القدر ، في ختام تحدي الكرمل ، يثبت إيليا أنه يحمل نفس ميول العنف التي لدى إيزابيل . بعد فوزه في تحدي الكرمل ، يأمر إيليا اتباعه بالقبض على جميع كهنة إيزابيل وعلى الفور، ثم يقول إيليا لاتباعه بحماس ، امسكوا كهنة بعل واقتلوهم ) ( ص 113) . وكما ورد النص في كتاب الملوك الأول .. ( فقال لهم إيليا امسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل فامسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك ) ( 18: 40 " ) .

كان إيليا وإيزابيل يخوضان صراعاً عنيفاً وقاسياً من أجل التفوق الديني . هنا يكشف إيليا أنه هو وإيزابيل يتمتعان بشعور ديني قوي مماثل ، رغم أن ولاءاتهما تختلف بشكل كبيرعن بعضهما ، إلا أنهما يدعوان بالانتقام لاحدهما من الاخر ، حتى لو كان ذلك يعني إبادة الأتباع جميعاً ..
في الواقع ، عندما يقتل إيليا كهنة إيزابيل ، يكافئه الله عن طريق إرساله المطر الذي تمس الحاجة إليه ، لينهي جفافًا طال أمده ثلاث سنوات في إسرائيل. هنا لدينا معيار مزدوج ومحدد ، اذ يبدو أن القتل مقبولاً ، بل حتى مبجّلاً طالما يتم ذلك باسم الإله الحق ..
وبعد ذلك عندما تسمع إيزابيل ما فعله إيليا بكهنتها الأربعمائة والخمسين ، راحت تهدده بالقتل انتقاماً ، فيهرب من المدينة ، لكن هذا بالكاد هو نهاية صراعهم على السلطة.
في سفر الملوك الأول ، يذكر مؤلف الكتاب عن كيفية قيام إيزابيل بتدبير جريمة قتل أحد الملاّكين " نابوت "(باستخدام الختم الخاص بزوجها " أحاب " دون علمه في الرسائل التي تبعثها ) لمصادرة واستملاك مزارع الكروم الخاصة بـ " نابوت ".
وقصة نابوت كما هي ، كان الملك أحاب قد طلب من نابوت أن يبيعه أرض كروم العنب منذ زمن بعيد ولكنه رفض بيعها له .وبما أن أحاب هو الملك ، ومزارع الكروم قريبة جدا من قصره فعندما رفض نابوت ، جعلته إيزابيل خائناً ثم أُعدم . تم انتشار هذه الواقعة بين الناس وادينت إيزابيل على فعلتها النكراء ، لانها كانت مخادعة ونواياها سيئة باستخدام ختم زوجها أحاب للمصادقة على أمر ملكي بإعدام نابوت. ومع ذلك ، تشير لنا تقارير الاكتشافات الأثرية الحديثة ، عن أن إيزابيل كانت تمتلك خاتماً خاصاً بها ( نشرة العلوم اليوم ) ، وبالتالي لها السلطة الكافية باعتبارها ملكة مخوّلة لاتخاذ الإجراءات التي تراها مناسبة وضرورية . في حين لا يوجد أي شك من أن قتل نابوت كان ظلماً .

وتُختم قصتها مع عودة إيليا من المنفى فراح يستغل حادثة موت نابوت بدون حق كدليل على شرور إيزابيل.. مات الملك آحاب ، وابنهما الثاني "يورام "، قد جلس على العرش ، وفي هذه المرحلة ، يقوم " أليشا " وهو خليفة إيليا بدعوة القائد اليهودي " ياهو" بالتمرد على الملك يورام وقتله ، فقُتلت والدته إيزابيل من قبل إثنين من الخصيان (في قيادة ياهو) عن طريق رميها من نافذتها إلى قارعة الطريق لتدوسها الخيل .
النص المشهور في سفر الملوك الثاني (9: 30-33) (فجاء ياهو الى يزرعيل و لما سمعت ايزابل كحلت بالأثمد عينيها و زينت رأسها و تطلعت من كوة ) . في هذا النص نجد ان إيزابيل قد جمّلت وجهها قبل مقتلها ، والتي كانت تُفسَّر تقليدياً على أنها محاولة لإغواء ياهو للحفاظ على حياتها ، والنيل من سمعتها باعتبارها "عاهرة" ، إلا أن بعض العلماء المعاصرين يعتقدون أنه كان التصرف اللائق لأميرة صيدا وملكة إسرائيل وهي تستعد لنهايتها بكرامة كملكة وكاهنة حقيقية لآلهتها.

ومهما يكن الأمر ، سواء اعتبرنا إيزابيل في شخصيتها التقليدية المعروفة ، أو في ضوء التفسيرات الجديدة للكتاب المقدس والتاريخ القديم عنها ، " فهو بالطبع اختيار شخصي " ، ومع ذلك ، فإن دراسة متأنية للنص ، مع الأخذ في الاعتبار التركيز على البناء السردي والأهداف المعروفة من كتابي سفر الملوك الأول والثاني ، فإنها قد تعطي القارئ سبباً لإعادة النظر في الصورة الشائعة للملكة الشريرة "إيزابيل" في خططها وأهدافها المختلفة ...


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. جانيت هاو غينز - موسيقى في العظام القديمة (إيزابيل عبر العصور) - ساوثرن الينويز للنشر - 1999 .
ماتيثيو ريشيل ــ الكتاب المقدس وعلم الآثار ـ هندرسون للنشر ـ 2018 .
سفر الملوك الأول والثاني .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تسعى إسرائيل لـ-محو- غزة عن الخريطة فعلا؟| مسائية


.. زيلينسكي: الغرب يخشى هزيمة روسية في الحرب ولا يريد لكييف أن




.. جيروزاليم بوست: نتنياهو المدرج الأول على قائمة مسؤولين ألحقو


.. تقارير بريطانية: هجوم بصاروخ على ناقلة نفط ترفع علم بنما جنو




.. مشاهد من وداع شهيد جنين إسلام خمايسة