الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما لفائدة مِنَ الفَلسَفَة في ظل التطوَّر العِلمي؟

علاء الموصّلي
(Alaa Al-Mosuli)

2018 / 12 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما لفائدة مِنَ الفَلسَفَة في ظل التطوَّر العِلمي؟

عندما نُمعِن النَظر في حَلَبة "التصارُع الفكري" الهَشّ -إلى حدٍ كبير- والذي يتم الترويج له وتداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي من قِبَل المُهتمين، -والمُشاغبين- في مجالات الفكر الواسعة، نلاحظ وللأسف أن شريحة كبيرة من الشباب اليوم يتداولون أفكاراً وفلسفات ويخوضون في جدالات ومناظرات وربما معارك طاحنة على كافة الأصعدة في عالمنا العربي الذي يُعاني منذ قرون صِراعاً فكرياً شرساً، ولاسيما في ثنائية الدِّين وضديداتها من الأفكار والفلسفات والأديان والمذاهب، نسمع ونقرأ تساؤلات مشروعة مِمَن هم بعيدون عن الساحة الفلسفية، ولعلّي لا أُبالغ حين أقول: أن أغلب تلك الأسئلة أو الشكوك تأتي من عدم الاطلاع الكافي على ما في جُعبة -أُم العُلوم- الفلسفة، واستيعاب الغاية منها، وفهم آلية عملها.

لستُ في هذا المقال المُختصر بصدد الترويج للفلسفة أو التعريف بِمبادئها، لأنها تبلغ من العُمر مئات السنين، ومن الشُهرة ما تكفيها لتكون معروفةً. فالغاية الرئيسية هنا تكمن في فقرة مُحددة وحصريّة وهي "ما لفائدة مِنَ الفَلسَفَة في ظل التطوَّر العِلمي؟".

طبعاً لا أدّعي بِأنني سوف أُحيط بكل جوانب الموضوع، لأن وبالرغم من تحديدهِ إلا أنه سيبقى موضوعاً أو مسألةً كبيرة وتحتاج إلى دراسات أو مقالات ولربما إلى كتاب كامل للإجابة على الأسئلة المطروحة حول الغاية أو الجدوى أو الفائدة من الفلسفة اليوم في القرن الواحد والعشرين، أيّ بعد مرور خمسة وعشرون قرناً من الزمن تقريباً على انبثاق ونضوج منظومة الفلسفة بكل ما تحملها من تفرعات مُتشعبة، والذي خاض غمارها أولئك الثُلّة من المُفكرين اليونان، ومن بعدهم الكثير من المُهتمين، الذين دخلوا في معارك وصراعات فكرية متضاربة ومتقاربة في سبيل إنضاج أفكارهم الفلسفية وتقديمها بأبهى وأنقى ما يكون حسب متطلبات زمانهم، مساهمين في وضع بعضاً من الحلول، للإجابة على الأسئلة التي أقلقت البشرية منذ بزوغ وعيها.

سوف أتناول الموضوع على شكل فقرات.

أَوَّلاً: لابُد وأن نعترف أن "التفكير" كآلية مُعقَّدة هي ميزة أصيلة في تكوين الإنسان العاقل بحد ذاته وتَنتُج بالتراكُم منظومة فلسفية شخصية خاصة لكل فرد على حِدى، ولا يمكن أن نُنكر تلك الميزة الفريدة التي يتميّز بها البشر عن من سواهم من الكائنات التي تُشاركنا الكوكب الأزرق!. ولاسيما حتى عند المُقارنة بيننا كبشر وبين أقرب الحيوانات إلينا في سُلَّم التطوّر من الرئيسيات، فالإنسان كائنٌ متفوِّق بدماغهِ وما يُنتجهُ من خلال العمليات الفكرية التي هي في غاية التعقيد!.

ثانياً: الفلسفة تتمثل وتتجلى في أمور ومسائل عديدة، نذكر منها باختصار:
1- بالإضافة لكون الفلسفة مُنتجاً مُختزلاً من منتجات العقل البشري عبر "آلية التفكُّر"، فهي مُحرّك بحث عملاق من حيثُ الخزين المعرفي المتراكم عبر الزمن.
2- دَور الفلسفة الفعّال يظهر بشكل ملموس ومهم في مجالات عديدة كالبحث والقراءة في التاريخ، وتعمل بشكل ممتاز في المنظومات البنيوية والتفكيكية لا وبل تُعد الفلسفة ساحة من ساحات هذاين المجالين المهمين في رصد علل المُجتمعات الفكريّة والقِيَميِّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. تمهيداً لإصلاحها بعد التشخص الدقيق في مجالات عديدة كما ذكرت آنفاً.
3- الفلسفة تكاد لا تنفصل عن المنطق، وما ادراك ما المنطق!، فهو الآخر يُعتبر الشرطي المُثابر والحارس الأمين والرقيب العتيد على كل ما يتم إنتاجه من خلال العقل البشري، وفي ظل غياب المنطق يتحوّل التواصل بين البشر إلى فوضى عارمة في كافة المجالات تقريباً. وإن جاز التعبير فأقول: أن المنطق هو الأبن البِكر والبَار للفلسفة.
4- للفلسفة أدوار عديدة واغلبها تعتبر مهمةً بالنسبة للإنسان الواعي، نذكُر منها شيئاً: فالفلسفة تُعتبرأداةً ممتازة في التحليل بشكل عام، كما أنها مُحرِّكة وَموَّلِدة للأسئلة وقبلها الشكوك!. فالشكّ والسؤال ميزتان أساسيتان في منظومة الفكر الإنساني، فمن يفتقر لهاتين الميزتين المهمتين سيكون على الأغلب إنساناً بسيطاً وذو نظرة قصيرة في أغلب متطلبات المعيشة والاستمرار بالبقاء، فضلاً عن غاية الوجود والحياة والنهاية!.
5- العبقرية أو التفوّق في مجالات فكرية وعلميّة مُتقدّمة تُعبتر بلا شَكّ نتيجة من نتائج الفلسفة الفرديّة أو الشخصية الناضجة، فلا عبقرية أو تفوّق بلا فلسفة كمخزون جيّد من عمليات المُنتَجَة عبر آليّة التفكُّر.

ثالثاً: نعود الآن إلى عنوان مقالنا، فهُناك فئة من الذين يهتمون بالعِلم ونتاجاتهِ بِدهشة وانبهار، فيميلون إلى السُخريّة من الفلسفة أو الانتقاص من مكانتها المرموقة، ودائماً ما يشيدون بالعِلم الحديث وما قدمهُ من مُنتجات مُبتكرة في مجالات عديدة، فادت البشرية وأنقذتهُ من مُعضلات كبيرة كانت تعصف به على مر التاريخ. بالتأكيد وبكل فخر وبهجة وإمتنان، أعترف وأُقر شخصيّاً بِما قدمهُ وَيُقدِّمهُ العِلم والعُلماء والمنظومة العِلميّة برمتها، ولا يُنكر ذلك إلا من فقد عقلهُ!.

وحسب رأيي، هُناك سوء فهم أو إلتباس على الأقل في المُقارنة المُجحفة بين الفلسفة والعِلم!!

نعم من الواضح أن العِلم نِتاج التفكير، وبتراكم المعلومات والأفكار ونُضجها يمكن ترجمتها على شكل مُنتجات تسُد الحاجة البَشريّة وتُعالج مشاكلها المُتراكمة، ولن أخوض في تفاصيل ما قدَّمهُ العِلم ولازال مُستمراً بالعطاء وبالتأكيد سيبقى كذلك مادام العّقل البشري يُنتج الأفكار، ومادامت الكُرة الزرقاء تدور!.

إذن أستطيع القول أن لا تضاد أو تنافر بين الفلسفة والعِلم حتى نصل لإزاحة العِلم للفلسفة أو العكس، بل هناك اتصال وتواصل وثيق بين الفلسفة كأُمٍّ للعُلوم وولدها البار مُتِمثلاً بِالعِلم من خلال المُنتجات التي نتنعم بِها عبر التظافر والتقدّم في العُلوم بأصنافها وتفرُّعاتها الكثيرة.

وفي الحقيقة أستغرب كثيراً عندما يقول احدهم ما دَور الفلسفة اليوم ونحن نعيش في ظل ثورة تكنولوجية وصناعية عظيمة، والإنسان المُعاصر اليوم يجوب الفضاء ومن يدري ربما عن قريب يحتل الكواكب على الأقل في مجموعتنا الشمسيّة!.
أقول وباختصار شديد: وكما أسلفت قبل قليل، ليس هناك أيّ تعارض أو تنافر بين الفلسفة والعِلم، ولا يُمكن أن يحل احدهما مكان الآخر، فكل منهما يعمل في مجاله ويُنتج ما يُساعد البشريّة التي تاهت في بحر هذا الكون الأغرب من الخيال، فَعَسى أن يستطيع هذا الإنسان المسكين في سبر أغوار هذا الكون من خلال تفكيره وفلسفتهِ وعبر الأدوات والحلول التي يقدمه العِلم النّظري الحديث من خلال التكنولوجيا الحديثة.

الخُلاصة: نَخلُص إلى القول بِأن الفلسفة ضرورية في حياة الإنسان، على المستوى الشخصي والجمعي وحتى العالمي، لأنه بصلاح الفكر والمنطق ترتقي الأمم وتتقدم، والعكس يكون مصير من يلغي التفكير ويتنحى عن المنطق. والفلسفة آليّة أساسيّة وطبيعيّة في كل إنسان سَويّ. وليست الفلسفة بالشيء الغريب والدخيل على الفكر الإنساني، لأن الحياة عِبارة عن سلاسل مُتصلة من الفكر عبر التأمل والشك والسؤال. ولن نستطيع كبشر أن نكف عن التفلسف!، لأن ذلك سيكون عملاً مُضاداً للطبيعة البشريّة الذي تمتاز بالتَفَكُّر. فالفلسفة ضروريّة لفهم طبيعة الإنسان، وتبرز أهميتها في قيامها بمهمة الربط بين نتاجات العُلوم المُختلفة في سبيل اكتشاف الحقائق الكُليّة في الكون والتي لا يُمكن للعلوم الجُزئية بلوغها بِمفردها.
والحكيم "سُقراط" لم يقُل مقولتهُ المعروفة "أيّها الإنسان اعرف نَفسكَ بِنفسك" إلا قاصداً لشيء مُهم وأساسي، والقصد هو الكشف عن حقيقة وهي: أن الإنسان لن يتمكن من معرفة نفسه إلا من خلال الفلسفة.
وللأسف فقد كان الحكيم "سُقراط" نفسه الضحيّة الأولى للفلسفة وتحديداً لفلسفته الشخصيّة!. فقد حاول تنوير من حوله وإيقاظهم من سُباتهم فقتلوه بغبائهم وتعاليهم على العقل والمنطق السليمين.

وأخيراً أقول: أن العِلم مهما بلغ من التقدّم والتطوّر فلن يخرج عن دائرة الوعي البشري الذي هو بالضرورة من أوجدهُ، وَعَمَل على تنميتهِ لا لشيء سوى أن ماكنة إنتاج ذلك الوعي المُتمثل بالأفكار والأسئلة والشكوك المُتراكمة والمُتعاظمة لازالت تفتقر إلى الكثير والكثير من الأجوبة الضرورية لأسئلة رئيسية وقديمة قِدَم ظهور الإنسان العاقل الذي كان ولا زال يطرح أسئلةً جوهريّة في قضايا وموضوعات أساسية عن البدء والأصل والوجود والغاية من الاستمرار وعن النهاية، و...الخ.

#علاء_الموصلّي
8 ديسمبر 2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تدخلت أمريكا عسكريًا في عملية إسرائيل لإعادة 4 رهائن؟


.. مراسلنا: قتلى وجرحى من جراء استهداف الجيش الإسرائيلي مبنى سك




.. حزب الله يعلن استهداف مبنيين يتمركز فيهما جنود إسرائيليون في


.. الاتفاق الدفاعي بين الرياض وواشنطن يلزم السعودية بتطبيع العل




.. رئيس معهد أبحاث الأمن القومي: الضغط العسكري سيؤدي إلى مقتل ا