الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين في عصر العلم

وليد عبدالكريم
(waleed abdulkarem)

2019 / 1 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لعل الثورات العلمية في العصر الحديث كانت وما زالت تشكل تحديا للدين وللنص الديني بما انتجته من علوم ومعارف جعلت السرديات الدينية في مأزق كبير ، فكثير من النصوص الدينية وتأويلاتها المختلفة أظهرت بشكل واضح تعارضها مع معطيات العلوم الحديثة مما جعل المتدينين في موقف لا يحسدون عليه و وجدوا أنفسهم في أزمة خانقة قد تعصف بالدين ومؤسساته ورجالاته .

ولعل بدايات هذه المشكلة حدثت أقدم مما يتصور بعض القراء ، فمنذ العصر العباسي ومع ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية والهندية والفارسية ، بدأت ملامح الصراع بالظهور ، من خلال جدلية العقل والنقل ، التي كانت المحرك لظهور وتشعب المذاهب العقدية في الإسلام ، خصوصا في قضايا الصفات الالهية ، وطبيعة نص القران هل هو مخلوق أم أزلي .

و مازالت معضلة العقل والنقل مغذية للصراعات العقدية بين المذاهب الاسلامية ومستمرة حتى الآن ، فلو بحثت بشكل سطحي وسريع عن الخلاف العقدي داخل المذهب السني بين أكبر المذاهب العقدية في العصر الحالي كالأشاعرة وأهل الحديث " السلفيون" لرأيت المعركة قائمة على أشدها ، والتكفير متبادل بينهما ، فالأشاعرة يتهمون أهل الحديث بالتجسيم والشرك ، وأهل الحديث يتهمون الأشاعرة بالتحريف للآيات وتقديم عقولهم على النصوص الصريحة .

أما النهضة العلمية الحديثة التي حدثت منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى الآن ، زادت الطين بلة ، وجعلت الخلافات العقدية القديمة ، واشكالية العقل والنقل والصفات الإلهية ، وطبيعة النص القرآني ، تتضاءل أمام مستجدات ونتائج العلوم الحديثة.

ولا أحصر العلوم الحديثة بالفيزياء والأحياء وعلوم الطبيعة فقط ، فمنذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين ، ومع تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية ، مثل علم النفس وعلم الاجتماع واللغويات النظرية والتطبيقية وعلم الانسان وعلم الآثار والتاريخ ، كل هذه العلوم مجتمعة قدمت ادعاءات مختلفة بل في بعض الأحيان مناقضة للدين ونصوصه المقدسة .

فما الحل لهذه المشكلة القديمة الجديدة ؟ وما المخرج الذي يطرحه الدين ورجالاته ومؤسساته وعموم جماهير المتدينين أمام هذه المعضلات ؟

قبل أسترسل في عرض ونقاش المشكلة ، لا بد من توضيح المصطلحات وتحديد المعاني والمقاصد ، فقد يعترض بعض المتدينين على كلامي وينفي بشكل قاطع أي تعارض بين العلم والدين ، ويرى بأن كل ما أتحدث عنه هراء ولا وجود له .

لذلك لابد أولا من طرح بعض الأمثلة لتقريب الصورة وتوضيح المعنى وتحديد المقصود بكلامي ، فلنفترض أن هناك كتابا مقدسا تؤمن به طائفة من الناس ، هذا الكتاب يحتوي على قضايا وعبارات كثيرة ، اخترنا منها خمسة نماذج لتوضيح مقصودي بالتعارض بين النص الديني والعلوم الحديثة ، النموذج( أ ) القمر أكبر من الأرض ، النموذج (ب) الديناصورات انقرضت قبل ٣ الآف سنة ، النموذج (ج) عاش الفراعنة طوال تاريخهم وبنوا حضارتهم وأهراماتهم في انجلترا ، النموذج(د) ورث زيد من والداه 100 من العملة الرقمية "البيتكوين" من والده الذي توفي في سنة 2004 ، النموذج (ز) من يأكل النبات فقط طوال حياته سيعيش سعيدا بعد موته في عالم غير مادي.

طبعا كما ذكرت فهذا الكتاب المقدس غير موجود وهذه النماذج غير موجودة، وهي من اختراعي وتأليفي ، لكنني أحاول من خلالها توضيح المشكلة ، وتجنبا لإيذاء مشاعر المتدينين ، وإلا فالنصوص الدينية المقدسة كالفيديا عند الهندوس و التوراة عند اليهود والانجيل عند المسيحيين والقرآن عند المسلمين ، لا تختلف كثيرا .

لو تأملنا في النماذج (أ / ب / ج / د) لوجدناها قضايا تركيبية تتعلق بالعالم الواقعي المحسوس ويمكن الحكم عليها بالصدق أو بالكذب من خلال مطابقتها للواقع ، أما النموذج( ز ) فهو شبه قضية لأنه لا يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب من خلال الواقع ، ولا يمكن اثباته أو نفيه لأنه يتحدث عن عالم غير مادي لا سبيل للوصول اليه أو التحقق منه.

كيف سيتعامل المتدينون والمؤمنون بذلك النص الديني ، مع هذه النصوص التي تتعارض أو تتناقض مع العلم ؟ فالنموذج (أ) يتعارض بشكل واضح مع الفيزياء الفلكية حيث تؤكد أن الأرض أكبر من القمر ، والنموذج (ب) يتعارض مع علم الاحياء وعلم طبقات الارض الذي يقول بأن الديناصورات انقرضت قبل 65 مليون سنة ، والنموذج (ج) يتعارض مع علم الاثار والتاريخ الذي يؤكد أن الفراعنة عاشوا في حوض نهر النيل في مصر وبنوا أهراماتهم هناك ، والنموذج (د) يتعارض مع التاريخ القريب حيث ان عملة البيتكوين لم تظهر الا في عام 2009 ، اما النموذج (ز ) فهو ادعاء غير قابل للاثبات أو النفي أو للتحقق أو التكذيب ،فلذلك يعتبر ادعاء غير علمي أصلا ،

يبدو أنه ليس أمام المتدين إلا أربعة مسارات يستطيع من خلالها التعامل مع هذه الاشكاليات.
المسار الأول / رفض ما تقوله العلوم أو التشكيك في صحة العلوم ومناهجها وأدواتها ، وهذا المسار قد يظهر على شكل تشكيك فلسفي بالعلوم والمناهج العلمية ، مثل التشكيك في الاستقراء واعتباره احتماليا ولا يعطي معرفة يقينية ، أو في بعض المفاهيم والمناهج أو الأدوات العلمية كالتحقق والملاحظة وغيرها ، والمشكلة في هذه الاعتراضات أنها انكار للواقع الحالي فكل ما نراه من علوم ومعارف في حياتنا اليومية ونتعايش معها ونستفيد منها هي نتيجة لتلك المناهج والأدوات والمفاهيم ، فهل سيشكك المتدين الأصولي في جميع العلوم والمعارف ؟ أم أنه سيشكك فقط في بعض القضايا العلمية التي عارضت نص ما في كتابه المقدس ، أما بقية القضايا العلمية التي لا تعارض النص الديني فسيقبلها !

المسار الثاني / رفض ما يقوله الدين في نصه المقدس عن الحياة والواقع ، واعتبار أن الأديان ونصوصها المقدسة من بقايا التاريخ الإنساني القديم حين كانت الأسطورة هي الأساس في تفكير الفرد والمجتمع ، وهذا سينتهي بالانسان إلى اللادينية و الإلحاد ، وهذا أمر غير مرغوب فيه عند بعض الأشخاص والثقافات والمجتمعات .

المسار الثالث / تأويل النص المقدس ليتوافق مع معطيات العلوم الحديثة ، وهذا يعتبر حلا جيدا ومناسبا ، لكن بعد التأمل فيه عرفنا أنه سيخلق لنا مشاكل كبرى ، مثل أن المؤمنين المتدينين فهموا النص المقدس منذ الاف السنين فهما معينا ، وظل هذا الفهم المحدد للنص الديني مستقرا ومتوافقا عليه بين رجال الدين ، لكن فجأة بعد أن تطورت العلوم الحديثة ، وظهرت بعض التعارضات مع النص الديني ، حاول المتدينون تغيير هذا التفسير ، ويبدو واضحا في هذا المسار أن التلفيق والترقيع هو الوصف الصادق له .

المسار الرابع / هو الجمع بين ما تقوله العلوم الحديثة ، والايمان بما يقوله النص المقدس ، وهذا المسار يتميز بالتناقض الشديد ، وعدم الاتساق ، فلا يمكن أن تكون عبارة ما في النص الديني مخالفة للعلم الحديث ، ويظل المتدين يؤمن بصحتها و يؤمن بصحة العلم في الآن نفسه .

المسار الخامس / التمييز بين ما يقوله النص المقدس وبين ما تقوله العلوم الحديثة ، فالنص الديني يتحدث عن عالم ماورائي و ميتافيزيقي وهو عالم الغيب والأخرة ، بينما العلوم الحديثة تتحدث عن الواقع وعالمنا الذي نعيش فيه ، فلا يوجد تناقض وتعارض بينهما حيث أنهما يتحدثان عن موضوعين مختلفين ، و هذا المسار ممتاز و ذكي جدا ، لكن هناك تساؤلات قد تظهر بعض المشاكل فيه ، فالنص الديني لا يتحدث فقط عن الغيب والاخرة ! بل يتحدث عن الواقع وعالمنا الذي نعيش فيه .

فكما قرأنا في هذه المقالة يبدو أن مشكلة النص الديني مع العلوم الحديثة معضلة وتستعصي على الحل ، فكل المسارات الخمسة لا تعطينا حلا جذريا بل قد تزيد النار اشتعالا لها ، ماعدا المسار الثاني وهو مسار غير مرغوب فيه .

أما رأيي الشخصي في محاولة حل هذه المعضلة فهو أن نؤمن بأن النص الديني لا يتحدث عن الواقع أو العالم الذي نعيش فيه ، بل يتحدث عن عالم غيبي أخروي لا تدركه الحواس ولا تدركه العلوم بأدواتها ومناهجها المختلفة ، ولا نستطيع نحن المؤمنين وكذلك لا تستطيع العلوم الحديثة أن تثبت أو تنفي صحة النص الديني ، أما الآيات أو المقاطع في النص الديني التي تتحدث عن الواقع وعالمنا الذي نعيش فيه فلا بد من تأويلها وصرفها عن معناها الظاهري حتى لا نقع في تناقض أخر ،ونستمر في دوامة لا نهائية ، وهذا الحل برأيي المتواضع هو الأفضل والأكثر احتراما للدين والعلم .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم


.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا




.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است


.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب




.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت