الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الحميد الزهراوي(1855-1916) وتأسيس الفكرة القومية الجديدة (5).

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2019 / 2 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أسست أفكار الزهراوي المتنوعة المستويات والمواقف مضمون الفكرة القومية الجديدة. كما أنها كانت مظاهرا أو أشكالا لتأسيس الفكرة القومية الجديدة بوصفها فكرة سياسية. فقد كانت هذه الفكرة تدور من حيث مظاهرها ومحتواها حول فكرة العثمانية وموقع العرب فيها، بوصفها شكل ومظهر الجنسية (القومية بالمعنى الحديث)، وحول فكرة النظام السياسي البديل، بوصفه شكل ومظهر القومية السياسية (الحديثة).
فقد احتوت فكرة العثمانية والموقف منها على ثنائية العلاقة العربية - التركية. بمعنى أن طرح السؤال حول ماهية العثمانية كان يحتوي بحد ذاته على جعلها مادة للتأمل الفكري والسياسي. ومن ثم تحولها إلى قضية سرعان ما تحولت إلى معضلة مع تحللها السريع عند تخوم القرن التاسع عشر – بداية القرن العشرين. مع ما رافقه من صعود للفكرة القومية على النطاق العالمي. وليس مصادفة أن تتخذ إشكالية العثمانية طابع العلاقة الكمية والنوعية للأقوام، أي العدد النسبي والمطلق ضمن الدولة العثمانية ووزن كل منها في إدارة شئونها. فقد احتوى هذا الطرح على ملامح الإدراك القومي الحديث. ومن ثم لم يعن صعود هذه الثنائية إلى مستوى الإشكالية القومية سوى الوجه الآخر لتبلور الفكرة القومية بوصفها فكرة سياسية.
كان الزهراوي من بين أوائل المفكرين العرب الذين أسسوا لها بمعايير الفكرة الفلسفية الواقعية والعقلانية. ففي معرض حديثه عن التضامن باعتباره احد العناصر القائمة في وحدة الدول والأمم، نراه ينطلق من أن لهذا التضامن مظاهر في كل من الأخلاق والسياسة والشريعة. ففي الأخلاق يظهر عبر حب الغير إلى جانب حب النفس. وفي السياسة عبر اشترك الأمة في قوة عامة. وفي الشريعة عبر إقرار الأمة على الشريعة المؤيدة بالقوة العامة. كما أن تلازم التضامن الضروري لوحدة الدولة والأمة بالأخلاق والسياسة والشريعة محدد بحقائق كبرى تلازمها وهي: بدون الأخلاق لا تعاون (على عكس الإثم والعدوان)، وفي السياسة على قدر قوة أو ضعف الدولة والأمة، وفي الشريعة يجري بسط العدل والقضاء على الفساد. وليس مصادفة أن يتعاضد حكماء الأخلاق والشريعة دوما، كما يقول الزهراوي .
أما أشكال وأساليب هذا التضامن، فأنها متنوعة. إذ يكشف التاريخ والواقع عن أن حصوله عادة ما يجري إما بقرابة القومية، وإما بقرابة الأفكار (الدينية وغير الدينية) وإما بالمنافع (وحدة الوطن). فقرابة القومية طبيعية، والأفكار في حال تقاربها فإنها قوية جدا، والوطنية مصدر إضافي قوي في حال تعاون القومية والأفكار. لكن أقوى التضامن من يجمع في ذاته قرابة القومية والأفكار والمنفعة . ذلك يعني إننا نقف أمام رؤية جديدة تماما للتضامن تتجاوز نماذجها القديمة والتقليدية التي عادة ما تتميز بالزيف وتقلب الأهواء. وبهذا يكون الزهراوي قد سعى هنا لتوظيف فكرة التضامن من اجل القضاء على الفرقة بين الدولة والأمة (من جنس واحد ودين واحد)، أي إرساء أسس الفكرة القومية السياسية على أساس تناسبها في العصر الحديث. والأهم من ذلك انه وجد في هذا النموذج من التضامن والوحدة أسلوبا لإضعاف الاستبداد، "إذ لا تعاون مع الاستبداد" . ودفع بهذه النتيجة النظرية والعملية إلى أقصى مداها الفكري في تأسيس ماهية القومية السياسية، عندما وقف إلى جانب الفكرة القائلة، بأن ذاتية الأمم اصطناعية على خلاف ذاتية الأفراد. وذلك لأن للأمم ذاتية وشعور خاص. كما أن لها أسلوب أو طريق خاص في تكونها. وفي الإطار العام هناك أمة جنسية (قومية) ودينية وسياسية. الأمر الذي يشير إلى طابعها الاصطناعي . والمقصود بذلك أنها جزء من التجارب التاريخية والسياسية للأمم. مما يفسح المجال أمام إمكانية وضرورة البحث عن بدائل واقعية تستجيب للصيغة المثلى للوحدة القومية الجديدة. وضمن هذا السياق يمكن فهم آراءه النظرية في تحليل ماهية العثمانية والعروبة والموقف منهما.
فقد كان الزهراوي يستعمل في كتاباته الأولية مصطلح العثمانية و"العثمانيون"، و"نحن معشر العثمانيون"، على معنى الجماعة، أي التعاون والاجتماع. أما في مجال الدين واللغة والإقليم والسلوك الاجتماعي والسياسي فجماعات متنوعة . وضمن هذا السياق يمكن فهم دعوته بين الحين والآخر إلى ضرورة تقوية الجامعة العثمانية من خلال "تنظيف العقول والتربية السياسية" . وكذلك دعواته إلى عثمانية مدنية، ليست قومية ولا دينية، بل بوصفها اتحادا طوعيا للأمم على مبادئ مدنية . واعتقد انه الأسلوب الأمثل للحفاظ على قوة هذا النوع من العثمانية، بمعنى استنادها على العدل باعتباره قوة في التعصب وحب النفس. وذلك لأن العثمانية متنوعة في اللسان والدين لا يجمعها إلا العدل وتساوي الجميع. مما يفسح المجال في الوقت نفسه للعمل بمعايير الحقيقة القائلة، بأن الجامعة العثمانية لا تمنع أن يحب كل جماعة منهم جامعتهم الخاصة (القومية أو الدينية) .
مما سبق يتضح، بأن العثمانية بالنسبة للزهراوي هي أولا وقبل كل شيء جامعة ثقافية. من هنا معارضته التغلب فيها للترك رغم "أقليتهم" مقارنة بالعرب. ومن هنا أيضا وجهة نظره الداعية إلى إعادة ترتيب الأولويات في الجماعة العثمانية. فقد أدرك الزهراوي قيمة العثمانية بوصفها دولة موحدة للمسلمين في مواجهة الغرب. واعتبر أن قوة العثمانية، باعتبارها توحيدا واشتراكا لشعوبها (وبالأخص العرب والأتراك) يؤدي إلى إزالة "المسألة الشرقية" . ذلك يعني انه نظر إلى ما يمكن تسميته بالعثمانية الحقيقية (النموذج المفترض) باعتبارها "عثمانية المجتمع المدني، أو الوطنية المتعالية عن العرق والجنس والدين واللون" . وبالتالي، فإنها، بوصفها اتفاقا أو تضامنا سياسيا مفترضا ينبغي أن تبنى على أساس الانطلاق من إدراكها لوجود اتحادات متنوعة. وإذا كان الزهراوي قد قرر وجود أربع نماذج كبرى وهي الإنساني (الاممي) والديني والجنسي (القومي) والمهني (المصالح)، فانه اعتقد بأن أفضلها بالنسبة للعثمانية هو "الاتحاد السياسي الواعي (الائتلاف) لا الوحدة التامة ، أي كل ما يقترب من حيث أسلوبه وغايته من النظام الكونفدرالي. وذلك لأن العثمانية القائمة آنذاك تفتقد، حسب نظر الزهراوي، لفكرة عمومية، أي أيديولوجية كبرى تناسب بنيتها المتنوعة. لهذا نراه يشدد على ما اسماه بنقص العثمانية الروحي. فالعثمانية تفتقد حسب رؤية الزهراوي إلى "روح عمومية". ومن ثم هي عاجزة عن الاستجابة لمتطلبات القومية الحديثة والدولة الحديثة والنظام السياسي الحديث. وفي هذا يكمن سر تخلفها وانحطاطها وإثارتها لصراعات عديدة.
وعلى خلاف ذلك نقف أمام ظاهرة العروبة التي أخذت تعي نفسها بمعايير القومية السياسية الحديثة. وقد تراكمت آراء الزهراوي بهذا الصدد في مجرى تدقيق وتحقيق مختلف الأفكار والمفاهيم المتعلقة بالقومية والتاريخ والسياسة والثقافة والمستقبل. ففي بادئ الأمر كان الزهراوي يتناول مسالة العروبة ضمن مفهوم العثمانية المدنية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الاتحاد العثماني الذي يريده هو ذاك الذي يحافظ على الأجزاء، أي "الاتحاد النافع هو الذي يبقي فيه العربي عربيا والرومي روميا." . ففي معرض حديثه عن قيمة العثمانية، باعتبارها جامعة وحب النفس والتعصب للأنا فيها نسمعه يقول "هناك من يسمح لنفسه أن يبارك الجميع في طلبهم العلى إلا للعرب، بل يشمئزون من ذلك" . وبالضد من ذلك نراه يشدد على انه "حتى لو أطبق العالم اجمع على ذلك، فانه لا ينبغي خفض الصوت" . من هنا نراه يتكلم حول ضرورة "إعادة مجد الماضي وذكراه وخصال العرب العظمى"، لكي يتوصل في النهاية إلى استنتاج فكري وسياسي مستقبلي كبير يقول انه "لا مجد للعرب بلا تعاون، ولا تعاون بلا رابطة، ولا مجد بلا سياسة" . وحالما توصل إلى هذه الفكرة، فإن مداها اللاحق أصبح مجرد تهذيب وتشذيب لمضمونها الداعي إلى توحيد التاريخ والفكرة السياسية والقومية بالنسبة للعرب بوصفه مستقبلا واحدا وموحدا. ففي معرض حديثه عن تناسب القوميات في السلطنة العثمانية، على سبيل المثال، نراه يشدد على ما اسماه بحجم الإجحاف فيها بفعل سيادة الأتراك مع أن الأغلبية فيها للعرب . وأخذ هذا الإجحاف الجلي للعيان في مجرى تجارب التاريخ الحديث يكشف عن ضيق حدود وخواء العثمانية القديمة بكافة الميادين والأشكال والمستويات. وفي الوقت نفسه أدى ذلك إلى نمو وتراكم ما اسماه الزهراوي بروح العمومية والفكرة العمومية. فإذا كانت العثمانية تفتقدها، فإن العرب آخذين بالتجمع حول قضايا معينة كبرى حصرها الزهراوي في خمس هي كل من التنبه بعد الهجوع الطويل، واستحسان التعارف والتعاطف بعد التقاطع، والحرص على تأييد اللسان ومقاومة كل فكرة تقضي بإضاعته وإقامة غيره بالتدرج، والحرص على أن يكون كيانهم من حيث المجموع محترما، والاهتمام بالعلوم والأعمال الصالحة (للتقدم) . لهذا نراه يعلق على كتاب جرجي زيدان (تاريخ آداب اللغة العربية) قائلا، بأن هدفه الأساسي هو تعريف العرب أنفسهم بأنفسهم، وأن ماضي العرب عظيم بما في ذلك قبل الإسلام، وأن تاريخهم هو تاريخ الإبداع الدائم من حضارات قديمة في الجزيرة والعراق وسوريا وإفريقيا، وأن ظهور الإسلام جعلهم أمة عظيمة جديدة صنعوا على مثالها أمة الإخاء الإنساني، وأن لغتهم محفوظة، بوصفها لغة القرآن.، وأخيرا أنهم يتمتعون بتراث تاريخي هائل في كافة الميادين بحيث نراه يجعل حتى من دولة حمورابي دولة عربية .
ذلك يعني انه وجد في كتاب جرجي زيدان دليلا وبرهانا تاريخيا موثقا على جوهرية العرب بالنسبة للتاريخ العالمي. إضافة إلى ما في كل ذلك من مقدمات عضوية وحيوية وجوهرية بالنسبة للوعي الذاتي ورؤيته العملية والمستقبلية. فعندما ناقش، على سبيل المثال، مسألة الاحتلال الإيطالي لليبيا، فإنه توصل إلى أن الدولة العثمانية غير قادرة على المواجهة. وبالتالي، فلإن القوة الوحيدة المؤهلة لتحرير ليبيا وغيرها تقوم "في الاعتماد على حماسة العرب المقيمين في ذلك الإقليم. ونرجو أن تظهر هذه الحادثة أن السرّ الذي سار به العرب الأولون لا يزال ساريا" . وبالتالي ضرورة أن يتحول مبدأ الاعتماد على النفس إلى مبدأ أولي كما مثلته تجربة دفاع العرب الليبيين ضد الغزو الايطالي" . في حين نسمعه يدعو العرب قبل الحرب العالمية الأولى (ما بين أعوام 1909-1911) بكلمات:"أيها الإخوة العرب! لنتأمل الماضي ولننظر إلى الحاضر والمستقبل من اجل النهوض والاستقلال بالاعتماد على النفس" .
إننا نعثر في هذه النماذج المشددة على مبدأ الاعتماد على النفس الصيغة الخطابية للفكرة القومية السياسية وضرورة تجسيدها في دولة حديثة لها تاريخها السياسي المستقل، أي استعادة التاريخ المنقطع للعرب، لاسيما وأنهم يتمتعون بأحد أعمق وارسخ وأقوى التواريخ الثقافية العالمية. من هنا تشديده على وحدة التاريخ العربي وتقاليده الثقافية. وهذا بدوره ليس إلا الصيغة الفكرية الثقافية للعروبة بوصفها وعيا ذاتيا قوميا سياسيا. ووجد ذلك تعبيره في ثلاثة أفكار مرجعية جديدة تمثلت حصيلة الاستنتاجات النظرية لفكر النهضة والإصلاح وهي إن عظمة العرب ليست في الإسلام والخلافة والانجازات الخالدة، بل وفيما قبل ذلك أيضا، وأن الإسلام لم يخلق العرب خلقة جديدة، بل استكمل ما فيهم، وأن جاهلية العرب هي جاهلية ما وراء الطبيعة . أما الصيغة الدقيقة والجلية والعملية في الوقت نفسه لكل ذلك فقد وجدت انعكاسها في النشاط السياسي والتأسيس الفكري الذي قام به الزهراوي قبل انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913، وفي مجراه ونتائجه وما أدى إليه أيضا على مستوى المصير الشخصي. فقد بلور الزهراوي آنذاك للمرة الأولى بوضوح تام فكرة العروبة عندما شدد على أن العنصر العربي أهم عنصر في الدولة العثمانية، وانه ذو صفات مشتركة (اللغة والعادات والمصالح والميول)، ون من الضروري الاشتراك بإدارة شئون الدولة العثمانية بصفتنا عربا، وأخيرا إن العرب لا يريدون الانفصال عن الدولة العثمانية، بل يسعون إلى وحدة جديدة ودولة عثمانية جديدة على أساس متكافئ .
حددت هذه النتيجة، أي الموقف من الماهية الواقعية والمفترضة للعثمانية، والموقف من فكرة العروبة، البعد الثالث لفكرة القومية السياسية، أي فكرة النظام السياسي البديل. حيث جرى تناوله من خلال الموقف من الخلافة (كنموذج أو مرجعية) والاستبداد (كواقع) والنظام النيابي (كبديل).
فقد أجاب الزهراوي على أسئلة بصدد الخلافة جرى توجيهها إليه عام 1901، أي قبل القضاء عليها بحوالي عقدين من الزمن بطريقة تتسم بقدر كبير من الواقعية والعقلانية. ومن الممكن حصر أهم آراءه ومواقفه بهذا الصدد بما يلي: إن اسم الخلافة كان يطلق على حكم الخلفاء الراشدين الأوائل. وما بعد ذلك ملك. وبالتالي، فإن الاسم المتداول عنها ينافي مضمونها الحقيقي الأول. ذلك يعني، إن إطلاق اسم الخلافة على العاصرين (بما في ذلك الحكم التركي) هو إما اسم لا معنى له أو مضاد لحقيقته. إذ ليس للخليفة بيت مال إلا في حال إذا كان المال والحكم بيد الأمة. كما أن للخليفة حق العمل في التجارة والزراعة أما قبل الحكم أو بعد الحكم. ومن ثم يجوز له ما يجوز للأفراد والأمة. ولا يجوز له الخدم الكثير والقوات الخاصة. كما لا يجوز له التصرف بمال الأمة كما يريد، والتلاعب بالقوانين. ولا يباح له باختيار من يريد إلى الحكم والتقرب من السلطة، وبالأخص من هو مشهور منهم بالرذيلة. كما لا يحق للخليفة سجن أو قتل وإخراج أيا كان بدون قانون، وأخيرا ليس الخليفة مقدسا، وليس مجردا عن السؤال . بصيغة أخرى، إننا نعثر في هذه الإجابة المكثفة على مضمون الفكرة المناهضة لما يمكن دعوته بزمن الخلافة المزيفة التي سادت وما تزال في تاريخ العالم الإسلامي. وفيها نعثر على الصيغة الملطفة أيضا لنقد نظام الاستبداد التركي العثماني، وبالأخص في مراحله الأخيرة. (يتبع...)
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زيارة الرئيس الصيني لفرنسا.. هل تجذب بكين الدول الأوروبية بع


.. الدخول الإسرائيلي لمعبر رفح.. ما تداعيات الخطوة على محادثات 




.. ماثيو ميلر للجزيرة: إسرائيل لديها هدف شرعي بمنع حماس من السي


.. استهداف مراكز للإيواء.. شهيد ومصابون في قصف مدرسة تابعة للأو




.. خارج الصندوق | محور صلاح الدين.. تصعيد جديد في حرب غزة