الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة الوهم والقدسية والشيطان...1

حكمت حمزة

2019 / 2 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يوجد بجانب كل فرد فينا، تلال ضخمة من الموروثات الشعبية والاجتماعية والدينية، ولكل مجتمع حول العالم، خواصه الفريدة التي تميزه عن غيره، وإن كان هناك تشابه غير مباشر في الخطوط العريضة بين المجتمعات، لكن التفاصيل والطابع الإنساني المؤثر في هذه الخطوط، يأبى إلا أن يفرض نفسه وبقوة، ويشكل مغناطيسا شديد الفعالية، في تشذيب وتفصيل كل شيء، وإطلاق مفاهيمه في جميع الاتجاهات ودون هوادة. تعتبر الأديان والموروثات الاجتماعية عن الأسلاف، العامل الأهم والمؤثر الأعظم في ترتيب نسق الحياة في أي مجتمع، وإذا غضضنا البصر لبرهة قصيرة، عن تلك الاختلافات التي تشكلها الأسباب سالفة الذكر، وتحدثنا بشكل عام عن أي مجتمع وأفراده، سنرى بأن الدين والإله، هي عامل مشترك للجميع كما هو معلوم، ولا يوجد مجتمع واحد في العالم، لا يحوي أي انتماء ديني مهما كانت النسبة بسيطة.
خلال الصفحات التالية، سيشغل الدين والمعتقدات الدينية حيزا كبيرا من حديثنا، الذي من المؤكد أنه سيغضب الكثيرين، ولكن لنكن صريحين وواقعيين ولو لمرة واحدة في حياتنا، ولنقف بكل شجاعة أمام مرآة نفوسنا، ونعترف بأن الأديان كانت ولا زالت أهم المصانع والمنشآت، التي تصدر للبشرية أهم ثلاثة أمراض أصابت الجنس البشري، وهي الوهم والقدسية والشيطان، ولا زالت حتى هذه اللحظة، تقوم بإعادة تدوير لتلك المصطلحات والمنظومات الفكرية، كلما تقدمت عجلة الزمن والحضارة والتطور، لأسباب عديدة حسب وجهة نظري، هذه الأسباب التي يمكن أن أراها محصورة في ما يلي:
I. جهل الإنسان القديم بالتفاسير المنطقية للكثير من الأحداث التي كانت تدور حوله، باعتبار الانسان فضوليا بالفطرة، ولا يرضيه أن يبقى ضمن وسط مجهول، فحاول أن يجد تفسيرا يلاءم عقله وتفكيره في تلك الحقبة، وأقدم كما هو معلوم للكثيرين، على وضع البذرة الأولى في عالم الماورائيات، ونسب كل شيء يجهل آلية حدوثه إلى كيان أو مجموعة كيانات خارقة القوة، والمثير في هذه النقطة أنه صدق افتراضات عقله بكل سهولة، وأخذ يؤلف الطقوس والشعائر استرضاءً لتلك الكيانات.
II. الانسان بطبعه لا يستطيع العيش في وحدة وانعزال عن الجماعة، وكان لا بد من إيجاد رابطة قوية تلم شمل الجماعة تلك، ولا شيء أقوى من رابط بمتانة الرابط الديني بين أفراد الجماعة التي تتبنى منظومة فكرية ماورائية معينة، الذي يجعل العلاقات بين الأفراد بقوة لا تضاهيها أي قوة أخرى.
III. في تاريخ الأديان، لم يوجد الإله غير المرئي دفعة واحدة، وتطورت فكرة الإله والآلهة بالتدريج، بين من يعبدون الأنهار والبراكين، الشمس والقمر، الأصنام، وصولا إلى الإله غير المرئي، الذي يقبع في السماء، أو الذي يقود حشوده من مكان إلى آخر ولا يظهر مباشرة، سوى في خيمة بني إسرائيل زمن موسى، أو تجسد بشكله الناسوتي كما في المسيحية. هذا التدرج لم يأتي من عبث، بل تطور عبر الزمن نتيجة لاقتحام عالم المجهول من قبل البشر، ومحاولة بعض العقلانيين، إيجاد تفكير منطقي بدل تلك الافتراضات التي ثبت زيفها بعد برهة من الزمن، فلا البركان يمتنع عن الثوران، ولا النهر عن الفيضان، رغم الكم الهائل من القرابين والطقوس والشعائر التي أقيمت له، وهذا دفع أولئك القدامى ذوي العقول المتنورة قياسا بالمنظومة السائدة آنذاك، إلى البحث عن تفاسير أكثر ملائمة وتماشيا مع العقل والمنطق، ومن هنا بدأت رحلة الآلهة من الأرض إلى السماء، مما أتاح لإضافة تفاصيل وجزئيات كثيرة، كون الآلهة أصبحت بعيدة عن مطرقة وسندان النقد، وعلى الصعيد الشخصي، أعتبر هذه المرحلة، هي النقلة النوعية في التاريخ الديني على مر العصور.
IV. منذ القدم، ارتبط الملك أو القائد أو المسيطر، بشكل أو بآخر بالآلهة، هذا لارتباط شكل هالة هائلة حول شخص الملك أو القائد، وأضفى عليه شرعية مزيفة ليتسلط بها على رقاب البشر، ويجد الدافع لأي عمل تشتهيه نفسه، ولو نظرنا إلى التاريخ البشري لوجدنا أن الارتباط بين الاستبداد الحاكمي السلطوي وبين الدين، قديم قدم الحضارة ذاتها، رغم الاختلاف في شدة هذا الارتباط، ومن هذا المنطلق، أخذ كل الحكام المستبدين شرعية لاحتفاظهم بهذه السلطة للأبد، فلا نكاد ملكا أو حاكما مستبدا إلا ومعه الكثير من رجال الدين الذي يثبتون له الحكم عبر النصوص الشرعية، ويستغلون ي ذلك نقطة ضعف الانسان التي لازمته على مر التاريخ، وهي القدسية التي يمنع على أحد كسرها أو تجاوزها، مما أدى إلى تأخير فظيع للثورات التي تقوم من أجل الإنسانية، في كثير من الدول الحالية، وخصوصا دول العالم الثالث، التي لا زالت حتى اليوم ترزح تحت هذا الحمل الثقيل الذي أثقل كاهلها، وأفقدها القدرة على الارتقاء بشكل شبه تام، إلا بعض الاستثناءات المتنورة التي لا زالت تكافح حتى اليوم في سبيل إبقاء الشعلة متقدة لتنير درب بصيص الأمل الذي لا زال يترنح يمينا وشمالا مدمى القدمين، في هذا الطريق الشائك المليء بالعقبات والحفر.
V. ظاهرة الشيطان التي تعتبر من أهم الأسس التي تقوم عليها كل المنظومات الاستبدادية على اختلاف مجالاتها وعناوين تصنيفها، فهي تحاول تجسيد مسألة الخير والشر في جميع مناحي الحياة، ويمكنني القول وأنا على درجة كبيرة من الثقة، بأن ظاهرة الشيطان لا تشمل فقط ذاك الكائن الخفي، العدو اللدود للإله والخير، بل تجسد و تقولب وفقا لمتطلبات كل مستبد، سواء في المجال الديني أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فالحكومات الشمولية تشيطن المعارضين لها، والنظريات الاقتصادية تشيطن بعضها البعض، والأديان تشيطن بعضها، حتى الدول تفعل الشيء ذاته، وفكرة الشيطنة هذه لم تأت من فراغ، بل جاءت بوصفها أحد الدعائم الأساسية للهيئات المسيطرة أو التي تسعى للسيطرة، لأن وجود الشيطان سواء بشكله الديني أو السياسي أو الاقتصادي، يعطي المبرر والدافع القوي، والأسباب الوجيهة، كي تحافظ هذه الهيئات المستبدة على وجودها، إذ أنها (كما تدعي) موجودة لمحاربة ذاك الشيطان، ولا هم لها إلا هزمه وابعاده بوصفه خطرا على البشر، وهي بذلك تعطي لنفسها الصلاحية التامة لقمع كل مظاهر التغيير أو التحرر من البراثن المفروضة، وما أكثر هذه الظواهر حولنا لو دققنا النظر، فهذه إيران تشيطن أمريكا، والسعودية تشيطن إيران، الشيوعية تشيطن الرأسمالية...الخ، ويمكن اختصار ما سبق بأن كل المتسلطين، يصنعون عدوا وهميا أو حقيقيا لأنفسهم، في سبيل إعطاء مسوغ قوي ومبرر لسعيها في البقاء أعلى الهرم، وعدم وجود مثل هذا العدو، يضعف موقفها ويقصر العمر الافتراضي لها
VI. من لا يصنع أعداء، يستخدم القدسية في تثبيت أركانه بدعوى تنفيذ الأوامر الصادرة عن الكيان الإلهي، وأن الإله أو الآلهة انتدبته ليكون مسؤولا عن تطبيق وصاياها على الأرض، أو يدعي بأنه تجسيد الإله بشكل بشري لنفس المهمة آنفة الذكر، و أنا آمل (يوما ما)، أن تتدخل كل الآلهة المزعومة بشكل مباشر، كي تحل المشاكل والحروب، وتفصح لنا عن رغباتها الحقيقية وما يجب أن نفعله وما لا ينبغي علينا فعله، بدل استخدام الأسلوب سيء الصيت، الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن، فلسنا مضطرين كي نحشر أنفسنا وكل ما نملكه ضمن دفتي كتاب أو آخر.
VII. الأديان على اختلاف مسمياتها، هي أفضل وأنسب القوالب الملائمة لسياسة القطيع، فهي تربط الانسان منذ طفولته من حيث يشعر أو لا يشعر، بتلك الكيانات الخارقة، و تحد من حرية عقله وتفكيره، مما يسهل السيطرة والتحكم عن قرب أو بعد، و أي نغرد خارج السرب يلقى ما يلقاه من الوسط المحيط به، والشواهد على هذا الشيء كثيرة جدا، ويزخر بها التاريخ القديم والحديث والمعاصر.
ومن هنا، أرى أن الثالوث الأساسي المشكل لكل الأديان، ألا وهو الوهم والقدسية والشيطان، لعبت دورا كبيرا في حياة البشر، وأدت إلى إفناء شعوب، وسيطرة أخرى ولا زالت حتى اليوم تستقطب الكثير من الناس إلى تلك الحظائر التي لا بد لك من إقفال عقلك كي تستطيع الدخول إليها والعيش فيها...
.
.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حكمت حمزه
على سالم ( 2019 / 2 / 27 - 05:42 )
رائع جدا , اتوافق معك فى هذا الطرح الهادف


2 - السيد علي سالم
حكمت حمزة ( 2019 / 2 / 27 - 08:37 )
اشكر مرورك سيدي الكريم...السلسلة مستمرة في أجزاء أخرى


3 - السيد علي سالم
حكمت حمزة ( 2019 / 2 / 27 - 09:51 )
اشكر مروركم الكريم...ستضاف الأجزاء اللاحقة من هذه السلسلة عندما اكون متاحا...شاكر اهتمامك

اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24