الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البروتستانتية الإسلامية و الجذور الماسونية للإحيائية الإسلامية (2 من 6)

علي سيريني

2019 / 2 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


البروتستانتية المسيحية، أخرجت الدين من داخل الكنيسة إلى شأن عام وإختصاصٍ غير محتكر. كما أنها شرعنت تدين الأفراد خارج أسوار الكنيسة، و من دون العودة إلى رجال الدين و إلى الكنيسة نفسها. في البداية، لم يهدف مارتن لوثر إلى تأسيس كنيسة جديدة مغايرة للكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، لكن الأحداث فرضت و حتمت هذا التأسيس كإشتقاق و إنفصال عن هذه الكنيسة بطبيعة الحال. فجريان الأحداث نحا تلقائيا نحو أن يجد البروتستانت أنفسهم داخل كنيسةٍ، غير معترف بها من قبل الكنيسة الكاثوليكية، فكان هذا بداية تأسيس شرعية منفصلة، توجت بإستقلال تام عن الكنيسة اللاتينية. فأعطى هذا السياق الولادة لواقع جديد في أوروبا، عبر إنفصال دموي ملئ بالحروب بين جغرافيات موزعة بين عالمين أحدهما قديم و آخر جديد. فحدثت موجات كبيرة للاجئين بين الجغرافيتن، حيث هرب البروتستانت من السلطات الكاثوليكية، إلى تلك الأراضي التي كانت خاضعة للبروتستانتية، و العكس بالعكس هرب الكاثوليك إلى البلاد المحكومة من قبل الكنيسة الكاثوليكية. و لم يستقر الوضع إلى أن وقـّعت الدول و الإمبراطوريات و الأمارات الأوروبية المتحاربة، إتفاقية ويستفاليا في عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عاما التي راحت فيها الملايين من البشر.
العالم البروتستانتي، كعالم مُضطهَد، تميّز بحراك ساخن حمل في أحشائه شروط تطوير حرية التعبير و حقوق الإنسان، ليس كسبب مباشر لإجتهادات المصلحين الدينيين البروتستانت، و لكن كنتيجة و تحصيل حاصل لما حدث. هناك نقطة مهمة جدا أدت إلى هذا الواقع، و هي مرتبطة بكيفية و هيكلة الكنيسة الكاثوليكية. كان هناك في الكنيسة الكاثوليكة طبقتان تشكلان جوهر الكنيسة و سلطتها. هاتان الطبقتان هما طبقة الـ (كليرجي Clergy) و طبقة الـ (سيكولر Secular). في القرون الوسطى، كانت الكنيسة الكاثوليكية هي مصدر تزويد البيرقراط للسلطات العائلية في أوروبا. طبقة الكليرجي كانت مختصة بالعبادات و الروحانيات، مع محدودية العلاقة مع العامة. لكن طبقة السيكولر، كانت تتصدى للشؤون العامة الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية. فرجل الدين العضو في الكنيسة، من دائرة السيكولر، كان يتمتع بصفات و مراتب رجل دين كنسي رسميا، و في الواقع كان موظفا ذو صلاحيات مرسومة له، حسب رتبته و وظيفته. حين انقسمت الجغرافية السياسية في أوروبا بين الكاثوليك و البروتستانت، لم تعد هذه التراتبية معمولة بها في الكنيسة البروتستانتية. فكما أسلفنا، فإن الحراك في بلدان البروتستانت الذي أدى إلى تطوير شروط الحرية و حقوق الناس، و في ظل التأكيد على أن الخلاص في الآخرة يكون بالإيمان فقط دون العمل (justification by faith alone)؛ فإن الشأن السياسي العام خرج عن نطاق الكنيسة إلى دائرة مدنية أوسع، فيما تحولت الكنيسة بمرور الزمن إلى شأن يخص الدين و العبادت. و من هنا، فإن هذا الإنقسام في تراتبية و صفات رجال الدين الكنسيين (السيكولر و الكليرجي)، تلاشى بطبيعة الحال دون رجعة. و من الملاحظ هنا، أن التفريق بين الشأن الدنيوي و الشأن الديني كان متأصلا في الكنيسة الكاثوليكية، لكن البروتستانت أخرجوا الشأن الدنيوي من الكنيسة، و جعلوه شأنا عاما للناس الذين تجمعوا لاحقا على صيغة المواطنة، في جنيف و زرويخ أولا، ثم انتشرت الفكرة لتعم دولا أوروبية شمالية تأثرت بالزفينكلية و الكالفينية.
تزامنا مع الحركة الإصلاحية البروتستانتية (أي الحركة السلفية المسيحية)، أكتـُشِف العالم الجديد (أمريكا) برعاية مملكة قشتالة في إسبانيا، إبان النصر النهائي على المسلمين في عام 1492 في غرناطة الأندلس. إكتشاف أمريكا أضاف زخما معرفيا و دافعا قويا نحو إكتشاف المجهول، في ظل إرتخاء ولو بطئ لقبضة الدين و جوهره على الناس، خصوصا مع انتشار حركة التنوير الفلسفية و الثقافية التي ظهرت في بداية القرن الثامن عشر، ثم اندمجت بالثورة الفرنسية في عام 1789، في نفس القرن. هناك نقاش مستفيض بين المؤرخين و الفلاسفة، حول دور الحركة البروتستانتية في تهيئة الأجواء لحركة التنوير. و يأتي في مقدمة أنصار هذا الرأي، الفيلسوف الألماني ماكس فيبر، الذي يعطي دورا رائدا للبروتستانتية. و في القرن الثامن عشر، ظهرت حركة أخرى مهمة جدا في تقرير مستقبل الغرب، ألا وهي الثورة الصناعية التي كانت وليدة محض الصدفة، وهي إكتشاف الفحم كمصدر للطاقة. إكتشاف الفحم أدى إلى تغيير كبير في الطاقة، و تطوير في آليات الإنتاج و النقل و الصناعة و العمران. لكن، ليس لإكتشاف الفحم أي علاقة بالإصلاحات البروتستانتية. ولكن حدث ذلك، تزامنا مع نتائج و عقابيل الإصلاحات البروتستانتية. مع هذا، ليس هناك جدال، بغض النظر عن الأسباب المختلفة، على أن الدول التي كانت هويتها بروتستانتية تطورت بسرعة كبيرة على مستويات شتى أكثر من تلك الدول التي ظلت كاثوليكية. هذا الواقع فتح باب النقاش بين المفكرين، لجهة إعادة السبب للبروتستانتية التي ألجأت الدول التي ظهرت تحت ظلها لاحقا، لوضع الدساتير و القوانين التي أتاحت حرية الفكر و الدين و الثقافة...الخ. و من هنا ربط الكثير من المفكرين و الفلاسفة، بين البروتستانتية كسبب، و بين حركة التنوير و الثورة الفرنسية اللتين مهدتا للحداثة و الليبرالية و الديموقراطية التي عمّت أوروبا منذ القرن التاسع عشر، بوتيرة صاعدة لا رجعة لها.
إذن، فإن الحركة البروتستانتية، نجحت بفضل العودة إلى الشرعية الدينية الأولى، وهي مرحلة السلف المسيحي (المسيح و تلامذته)، للإنطلاق من هناك نحو الوقوف بوجه بِدَعْ الكنيسة التي ظلت لقرون تثقل أعباء الشعوب الأوروبية. هذه البدع انحصرت في إحتكار الدين و تفسيره، و الإستحواذ على الشأنين الديني و الدنيوي معا في الكنيسة، و حصر الفكر و الرؤية و التفسير بتعاليم بسيطة كنسية، و ظلام و ظلم منتشرين مخيمين على أوروبا. أي أن بدع الكنيسة لم تكن ابتداعا في الدين، عبر إنتاج فكري و فلسفي وفير على المستوى الديني، بل كان إبتداعا مساوياً للإنحراف عن جوهر الدين الصحيح، الذي كان عليه المسيح و أتباعه من الأجيال الأولى. لهذا، فإن البروتستانتية التي هي حركة سلفية (العودة إلى السلف) انتصرت على بدع الكنيسة الكاثوليكية، فأنتجت الإبداع. وعليه، فإن عودة البروتستانت إلى سلفهم الديني صحح لهم مسار العلاقة بين الدين و السياسة، بينما إبتداع الكنيسة الكاثوليكية في الدين، ولّد التخلف و الظلم و الظلام الذي دام لحوالي ثمانية قرون في العالم الغربي، بدأ مع سقوط الإمبراطورية الرومانية و دام إلى مطلع القرن الرابع عشر أي بداية مرحلة النهضة الأوروبية.
و المفارقة الكبيرة و المحيرة حقا، بين حركة العودة البروتستانتية إلى مرحلة السلف المسيحي، و بدع الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، أنه على مستوى الفكر يبدو في الظاهر أن العودة إلى السلف تعني التخلف، بينما الإبتداع في الدين يعني التحرر و التقدم. لكن العكس حدث في أوروبا. و المفارقة الأكثر حيرة و ضحكة هي، فهم العالم الشرقي لجوهر هذه المعادلة المتشابكة و المعقدة. فالعالم الشرقي فهم الحركة البروتستانتية إنقلاباً على الدين المسيحي و تحررا منه، و عليه اشتق من هذا الفهم الخاطئ معادلة قياس قاتل، أنه من أجل تقدم العالم الإسلامي، على المسلمين أن يتحرروا من دينهم، وتبني ما أنتجه الغرب من فكر و فلسفة و قانون بعد الحركة البروتستانتية المسيحية. النتائج كانت عكسية. فإدعاء الحركة الإحيائية الإسلامية، بفتح باب الإجتهاد و التجديد في الدين، خلق الفوضى و الجهل. كما أن إدعاء أجنحة منها العودة إلى مرحلة السلف، أنتج التخلف و الظلام، و لم يحل أي أزمة من أزماتها. فكان الخراب الكبير. كيف ذلك؟ سأتناول هذا الموضوع في الحلقة القادمة.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا


.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است




.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب