الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البروتستانتية الإسلامية و الجذور الماسونية للإحيائية الإسلامية (3 من 6)

علي سيريني

2019 / 3 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بعد مرور حوالي ثلاثة قرون على الإصلاحات البروتستانتية، شهدت أوروبا تغيرا عظيما على مستوى الفكر و الفلسفة و العلم و الثقافة. هذا التغير تجذر في المجتمعات الأوروبية بالتدريج، تحت هيمنة التيارات الفكرية و الفلسفية التي افترقت مع الدين بالكليّة، و لم تعد تهتم للدين بل و تعتبره جزءا من الخرافات و الأساطير البشرية. إذن دخلت أووربا القرن التاسع عشر في ظل تتويج الحداثة و الليبرالية و اللادينية. حدث هذا برفقة التفوق التكنلوجي و العسكري لدول أوروبا، و تزامنا مع رواج كبير لسلعتها و بضائعها و منتوجاتها المختلفة المادية و المعنوية لدى شعوب العالم. هذا التتويج أعطى إنطباعا عاما للناس في الغرب و الشرق، و لأوساط مختلفة، أن هذا التطور الغربي الهائل، و تفوقه العلمي و الثقافي الصاعد، و هيمنته التكنلوجية و العسكرية الجبارة، ليست سوى نتيجة منطقية للإصلاحات البروتستانتية في المسيحية، و من ثم الإنقلاب على الدين في عصري التنوير و الثورة الفرنسية، و من ثم موت الدين في عصر الحداثة، كما عبّر بذلك الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في مقولته الشهيرة أن "الإله مات".
بوادر الإحيائية الإسلامية التي ظهرت في إسطمبول عاصمة الدولة العثمانية، في بداية القرن التاسع عشر، و في مصر في ظل سلطة محمد علي باشا و الخديوي إسماعيل، كانت إنعكاسا و محاكاة للسياق البروتستانتي المسيحي و نتائجه. يستطيع القارئ العودة إلى الحلقتين الأولى و الثانية لمعرفة هذا السياق الأوروبي. في القرن التاسع عشر، كان العالم الإسلامي قد أنهك و هو في طريقه نحو الإنحدار و التشرذم و الإنهيار. ففي القرن التاسع عشر، كانت النزعات الكيانية القومية و العرقية قد ظهرت في الدولة العثمانية، مما أدى إلى تهاوي الأطراف في جسد الدولة، وتحلل صمغ الإندماج بين مكونات الدولة التي ظلت متماسكة لثلاثة عشر قرنا في دائرة الدين. في هذه الأثناء، و تحت وطأة الأثقال التي هدّت كاهل الدولة العثمانية، و المكون الشرقي بشكل عام، ظهر في إسطمبول و في مصر تياران عكسا في مضمونيهما إنسجاما و تناسقا موضوعيين، كأنهما كانا وليدي إتفاق مخطط له. و هذا الإتفاق الطبيعي جاء بسبب منطلق التيارين، و المواضيع التي كانا بصددها، و البت في واقعٍ له نفس الحيثيات و العناصر و السياق.
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ظهرت حركة التغريب في الدولة العثمانية بقيادة مثقفين كانوا قد انهلوا من الغرب ثقافته و انبهروا بها انبهارا عظيما. يأتي في مقدمة رواد حركة التغريب إبراهيم شناسي الذي تتلمذ على يد غربيين مثل ألفونس دي لامارتين، أرنست رينان، بافيت، دا كورتيلا و إيميلا لاتيرا...الخ. ثم يأتي نامق كمال كرائد للتغريب في الدولة العثمانية. كان نامق عضوا في حركة العثمانيين الشباب السرية (كان أحد أحفاد محمد علي باشا عضوا فيها و هو مصطفى فاضل باشا) التي تعد النواة الأولى لحركة تركيا الفتاة، و من ثم جمعية الإتحاد و الترقي التركية. أثــّـر نامق في كمال أتاتورك و تصوراته و أفكاره. حركة العثمانيين الشباب لم تكن راضية بالإصلاحات التنظيمية في الدولة العثمانية التي حدثت في عام 1839 و انتهت بفترة المشروطية الأولى في عام 1876 فكانت تطالب بتغريب أكثر في جوهر طلبها. كان توجه إبراهيم شناسي و نامق كمال، هو تحديث الدولة العثمانية وفق النمط الغربي على مستوى الفلسفة و الفكر و السياسة و الفن، و ما يتصل بتنظيم حقوق الأفراد داخل المجتمع. كلاهما عاش في الغرب، و كلاهما كان شاعرا، و من هنا نجد أن النزعة الرومانسية و الإنبهار العاطفي طاغيان على تصوراتهما و أفكارهما. بالطبع هناك شباب آخرون كثر، في الدولة العثمانية، الذين انبهروا بالصورة المهيمنة للغرب و المرحلة التي راهنوها في ظل التفوق الغربي. ما يجمع هؤلاء الشباب في توحيد موقفهم و رؤيتهم عدة مسائل و هي، أنهم جميعا كانوا في مرحلة مبكرة من حياتهم، ولم يكونوا أصحاب مقدرة علمية عميقة، بل كانت ميولهم نحو الشعر و الفن و بعض الثقافة الغربية الرائجة. فضلا عن ذلك، كان لديهم نقص كبير في المعرفة بالشرق و الغرب، تأريخهما و علومهما و بنيانهما.
في مصر، و في ظل سلطة محمد علي باشا، حدث ما يمكن تسميته بالـ "النهضة العربية". هذه النهضة كانت غربية السمة و المحتوى. فقام الرجل بإرسال بعثات طلابية إلى الدول الغربية، لتلقي العلوم و الفنون الغربية الحديثة. استمر هذا الأمر إلى زمن حفيده الخديوي إسماعيل. الكثير من هؤلاء الطلاب تأثر بثقافة الغرب المبلورة من عصري التنوير و الحداثة، حالهم حال أقرانهم في إسطمبول، الذين ذكرناهم آنفاً. كان من بين هؤلاء رفاعة رافع الطهطاوي، الذي بث في كتاباته صورة الغرب المتفوقة التي تؤثر في وجدان الإنسان الشرقي و ترديه مشلولا عاجزاً، أمام مدٍ تنويري، لا يمكن إلا طأطأة الرأس أمامه و الإنحناء لجلاله وكبريائه. ما يربط الطهطاوي بالآخرين من أمثاله في إسطمبول و في مصر هو الترويج لثقافة غربية، حيث أقصى الترويج يتجوهر في نبذ الدين كشرط أساس للنهوض و التطور، و أدناه هو تهيأة العامة لتحديث الدين و لوي عنقه، لينسجم مع التطورت الغربية الحاصلة في شتى المجالات. و التجديد هنا يعني "الإصلاح"، لذلك عُرف الكثير من هؤلاء بـ "المصلحين الدينيين" على غرار لوثر و إخوانه في أوروبا. و كلا السبيلان صب في نفس المجرى الذي حقق الهدف المنشود، و هو تحويل الوهم الكبير في لاوعي الناس إلى إيمان غير قابل للنقاش، و هو أن الغرب تطور بسبب تخليه عن الدين، و أن الشرق إذا ما أراد النهوض فعليه حذو الغرب حذو النعل بالنعل. كانت المنظمة الماسونية السرية تروج لهذه الثقافة عبر طرق عدة، منها عبر شخصيات شرقية كبيرة، سياسية و علمية، و أخرى فكرية و فنية و مهنية.
هناك مفكرون و مثقفون كبار، قادوا هذا الترويج الذي فعل فعلته و حقق هدفه بدقة. من هؤلاء المفكرين و المثقفين يأتي جمال الدين الأفغاني (لم يكن أفغانيا بل إيرانيا من أسد آباد)، رئيس محفل كوكب الشرق الماسوني. إنضم إلى محفل أفغاني الماسوني جملة من كبار الشخصيات، منهم من كان تلميذا لدى الأفغاني، و منهم من أتى بعده متأثرا به. ومن هؤلاء و أولئك محمد عبده، توفيق باشا، قاسم أمين، سعد زغلول، سليم العنجوري، أديب إسحق و آخرون. كان الأفغاني مثل أقرانه الأتراك و المصريين (إبراهيم شناسي، نامق كمال و الطهطاوي) على إتصال مع شخصيات فلسفية و فكرية غربية، منهم أرنست رينان و إسحق تايلور و ...الخ، و عاش في الغرب مثلهم. بينما كان الأفغاني يصرح لرينان أنه "عزم على قطع رأس الدين بسيف الدين نفسه"، كان ينسق مع تايلور من أجل تنظيم مؤتمرات "توحيد الأديان" و التأكيد على مفاهيم وحدة الوجود و الأديان، و تعريف النبوة كمكتسب بشري تميّز به عباقرة التأريخ، دون اتصال بالسماء. كان محمد عبده أكثر حماسة و تطرفا من استاذه الأفغاني، و ظل يجاهد في سبيل تحقيق قطع رأس الدين بسيف الدين.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا


.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است




.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب