الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النفس ووسائط الفيض الإلهي (الجزء الثاني)

أكرم جلال كريم
(Dr. Akram Jalal)

2019 / 3 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ألنَّفسُ وَوَسائِط الفَيض الإلهي
(الجزء الثاني)
أن تَزكيةُ النُفوس وتَقويمُها، وتَطهير القلوب وإصلاحها مَنهجٌ الأنبياء والأولياء والصالحين ومَن سار علی دَربهم من اهلِ الفِكر والعَقل والمَنطق منذ الأزل، على أختلاف أديانهم وَمُعتَقداتهم وثقافاتهم، فَطَرقوا ابواباً وسَلَكوا مآرب ومَسالك شتَّى، واتّبعوا مناهجَ وطرائقَ متنوعة من أجل بُلوغ مَرتَبة إصلاح النفس وتَزكيتها وتَهذيتها. والبعض الآخر قد سار على مناهج فَلسفية وتأمُّلاتٍ قائمةٍ على الظنون والخيال، لا تَستَند لأي دَليل شرعي أو عقدي او علمي فأغرقت النّفس بالتعذيب وأشغلتها بأمور مُضنِية لا يجدُ فيها الحصيف والبصير ضالَّتَه، ولا يبلغُ منها الحكيم بُغيتَه طالما لم يكن المنطلق في ذلك هو الإصلاح والتهذيب والتدريب الموجب للابتعاد عن كل ما يُفسِدها ويَحْرِمها من العمل الصالح وإدراك القرب الإلهي والنيل من فيوضاته.
أنّ الذي أدرك نَصيبًا من العَقل والفهم والبصيرة يُدرك بوضوح أنّ طَهارة القلوب وتَزكية النُفوس والذي هُوَ المَسلَك نحو النعيم والنجاةَ من الجّحيم، إنّما بَيّنَها وفَصّلَها وكشف عن مكنونها الحقيقي هو كتابُ الله الحكيم بآيات مُحكمات عَبّرت عَن مَنهَج سَماوي لا عَيب فيه ولا عِوج لأنه صادرٌ عن الكَّمال المُطلق، فلا بُد للسالك في دَرب تَربية النّفس أن ينهل من هذا النبع الصافي، فالله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ] المائدة: 105[.
فاتِّباع المَنهج الإلهي مِن أوامر ونواهي وبرامِجَ، وضحته آيات القران الكريم، وجسدته ورَسَمَت أبعاده وشَرَحَت معانيه وبَيَّنَت فرائضه المنهج الحق للمصطفى وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم اجمعين, وهذه التّزكية لَن تَبلُغ المُستوى المطلوب الا من خلال التَّسليم المُطلق للإرادة الإلهية, وتَخليص النفس من ربقة الشَهوات وظُلمة المَطامع وأدناس الهَوى, وتَحطيم أصنام الذّات والعَمل والمُثابرة على مُجاهدة الهوى وكَبح جماحها من أجل الوصول إلى أسمى مَراتب التّزكية النفسية لتكون مستعدة لتلقّي الفيوضات الإلهية.
ومما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت يوماً على رسول الله (ص) فقلت: يا رسول الله ارني الحق لأتصل به فقال: يا عبد الله لجّ المخدع قال فولجت المخدع وعلي بن أبي طالب يصلي وهو يقول في ركوعه وسجوده: اللهم بحق محمد عبدك ورسولك اغفر للخاطئين من شيعتي, فخرجت حتى أخبرتُ به رسول الله | فرأيته وهو يصلي ويقول: اللهم بحق علي ابن أبي طالب (ع) عبدك اغفر للخاطئين من أمتي قال فأخذني هلع حتى غشي عليّ فرفع النبي (ص) رأسه وقال يا ابن مسعود أكفر بعد إيمان؟ فقلت حاشا وكلا يا رسول الله (ص) ولكني رأيت علياً يسأل الله تعالى بك ورأيتك تسأل الله به فلم أعلم أيكم أفضل عند الله! فقال (ص): اجلس فقال ابن مسعود فجلست بين يديه فقال لي اعلم ان الله تعالى خلقني وخلق علياً من نور عظمته قبل ان يخلق الخلق بألفي عام إذ لا تقديس ولا تسبيح ففتق نوري فخلق منه السموات والارض وإنّا والله أجلّ من السموات والارض, وفتق نور علي بن أبي طالب (ع) فخلق منه العرش والكرسي وعلي بن أبي طالب أفضل من العرش والكرسي, وفتق نور الحسن فخلق منه اللوح والقلم والحسن أفضل من اللوح والقلم, وفتق نور الحسين فخلق منه الجنان والحور العين والحسين والله أجل من الجنان والحور العين, ثم أظلمت المشارق والمغارب فشكت الملائكة إلى الله تعالى ان يكشف عنهم تلك الظلمة فتكلم الله جل جلاله بكلمة فخلق منها روحاً ثم تكلم بكلمة فخلق من تلك الروح نوراً فأضاف النور إلى تلك الروح وأقامها أمام العرش فزهرت المشارق والمغارب فهي فاطمة الزهراء ولذلك سميت الزهراء لأن نورها زهرت به السموات 1).
فهذه الرواية وغيرها الكثير إنّما تَدُل بوضوح علی أن الذَّوات المُقدسة الكاملة كالنبيّ والأئمّة هُم وسائطُ الفَيض الالهي، مُكَلّفون بين العباد ومَنبع الفَيض المطلق.
والسؤال هنا كَيف لمُجاهدة النّفس وتَهذيبها والسّير بها نَحو مراتب الكمال ان تَكون هي المَسلك الوحيد والطريق الرشيد نحو أدراك القُرب مِنَ الذّوات المُقدسة ثُم نَيل الفيوضات الالهية والنِعَم الرَبّانية؟
إن التّزكية لا تَكتَمل أبعادها ولا تُؤتى ثِمارها الّا بَعد السير نحو مَعرفة الذات الالهية، كمعرفة عَدْله وادراك حقيقية تَوحيده، ثم الاحاطة بجميع صفاته المقدسة . وأن تلك المَعارف لا يُمكن الوصول اليها الا من بابِ الامامة والذي هو رأسُ مال المُؤمن ودليله وصراطه ووسيلته إلى الله. ان الأئمة عليهم السلام هُم أبواب الله التي منه يُؤتى، فَلن يَبلغ القاصد مَرامه الّا بطاعتهم، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ ] النساء: 59[.
أنّهم أصحاب الولاية العليا والبرزخية العظمی، أنّهم وُسطاءُ الفيض الالهي والصراط بين مَنبَع الفيض والعباد. ولولاهم ما سَطَع نُور معرفة الحق جل جلاله علی اي عالم من العوالم، فَعَن الامام علي عليه السلام أنه قال : ( إن الله خلقنا فأحسن خلقنا ، وصوّرنا فأحسن صورنا ، وجعلنا عينه في عباده ، ولسانه الناطق في خلقه ، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة ، ووجهه الذي يؤتى منه ، وبابه الذي يدلّ عليه ، وخزّانه في سمائه وأرضه ، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار ، وبنا ينزل غيث السماء ونبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عُبد الله ، ولولا نحن ما عُبد الله 2).
إنّهم نِعَمُ اللّه صَلَواتُ اللّه عليهم على العِباد ولا يَنكُرُهم الا شَقي ولا يَبغضهم الا جاهل، قال الله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ) ] النحل: 83[، وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾] التكاثر: 8[.
ولقد أمَرَنا الباري بأن نَبتَغي إليه الوسيلة في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ] المائدة: 35[، فَعَن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث طويل: (نحن يمين الله ونحن امناء الله... من آمن بنا آمن بالله، ومن رد علينا رد على الله، ومن شك فينا شك في الله، ومن عرفنا عرف الله، ومن أطاعنا أطاع الله، ونحن الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوان الله، ولنا العصمة والخلافة والهداية 3)، وعن الإمام الصادق عليه السلام: نَحن السّبَب بينكم وبين الله عَزّ وَجل 4).
وَتَزكية النّفس كما اشرنا سابقاً تعني تَطهيرها مِنَ الآثام والموبقات ، وَلأنّ الإمام صاحبُ العصر والزمان (عج) هو طُهْرٌ طاهِرٌ مُطَهّر فَلَن يَبلُغ أحَدٌ مَرتبة مَعرِفَته ومنزلة القرب منه إلا مَن سَعى وأجتهد باخلاص وهمّة لتطهير نَفسه مادياً ومعنوياً، فالقرب منه سَلام عليه لا يَنالها اولئك الذين يَعيشون في الآثام والمُنكَرات فالماء والنار لا يَجتمعان. ولأن مَعرفتهم هي معرفة اللّه وطاعَتهم هي طاعة الله فأن أدراك الفيض الالهي يَتَطَلّب التزاماً عَينياً حقيقياً وَسَعياً حَثيثاً لتطهير القُلوب وتَزكية النُفوس من أجل الوصول لمرتبة معرفة هذه الذوات المُقدسة ونيل توفيق دعائهم والسير خَلفَهم نَحو منبع الفيوضات الالهية ، فَهُم أنوارُ الله، وبِهم يَهتَدي الهادون ولجمال نُورهم المُقدس سَجَدت الملائكة، فَكُل من أراد بُلوغ اعلی المَقام المَعرفية عليه التَّمسك بِهم من أجل العُروج نَحو الهَدف والوصول الى المَقصَد، ففي الزيارة الجامعة الواردة عن الإمام عليّ الهادي عليه السلام قال: (بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبكم ينفس الهم ويكشف الضرّ، وعندكم ما نزلت به رسله، وهبطت به ملائكته، وإلى جدّكم بعث الروح الأمين 5)
وَعَن الإمام علي عليه السلام أنه قال: (نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة 6).

27 جمادي الثاني 1440

1. الفضائل لابن شاذان ص128، عنه البحار ج40 ص43، تأويل الآيات ج2 ص610, كتاب الروضة ص135, اللمعة البيضاء ص107.
2. التوحيد- الشيخ الصدوق ص140 و 141، بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج ص 197.
3. بحار الأنوار - العلامة المجلسي: 25 / 22 - 23 باب بدء خلقهم ح 83.
4. امالي الطوسي، المجلس (6) ح12.5.
5. الصدوق، محمّد، من لا يحضره الفقيه، ط2، قم، مؤسسة النشر، (لا،ت)، ج2، ص 615. الطوسيّ، محمّد، تهذيب الأحكام، تحقيق حسن الموسوي الخرسان، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1364هـ.ش، ج6، ص 99.
6. نهج البلاغة: الخطبة 109، غرر الحكم: 10005.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو