الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نرى ما نريد!

عبد الرحمن جاسم

2006 / 4 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


وفجأة عرفت. تنبهت إلى أنني لا أعرف الناس كما هم، بل أعرفهم كما أريد أن أعرفهم فحسب. وكانت مفاجأتي أكبر مما توقعت! فالناس الذين أعرفهم كما هم، ليسوا هم – هم. والأمر بسيطٌ –أحبتي- حينما تعرفون بأن ما تعرفونه هو لا شيء بالمقارنة مع ما يكونون. وليس في الأمر سر، وليس الأمر مخفياً، ولكننا حينما ندخل شخصاً إلى عقلنا ننسى بأنه انسانٌ متكامل، أي حياةٌ متكاملة من التجارب والتفاعلات والمعارف والصداقات. ندخله إلى حياتنا، ككائنٍ مولودٍ حديثاً، ونبدء بخلق "ملفه الشخصي" شيئاً فشيئاً، وتتراكم الأمور.
وبطبيعة الأحوال – يا أحبتي- أذهلني الأمر بشدة. فبائع الخضروات البسيط الذي يعيش في حينا، والذي لا "يهش ولا ينش" كما يراه أغلب الناس –وأنا من ضمنهم طبعاً- متزوجٌ من ثلاث نساء، وأبٌ لعشيرة من الأطفال/الأبناء، وكان في مرحلةٍ من عمره "جيغولو" بحسب التعبير الشائع. وكم كانت دهشتي شديدة، وهو يريني صور شبابه، بشعره الطويل –كشعري حالياً- وبنطلونه الجينز الممزق، وقلادته التي تشبه قلادات مطربي الراب السمر، كنت أنظر فاغر الفاه، ويتملكني سؤالٌ واحد، كيف تحول هذا إلى هذا! لا شيءَ مشتركٍ بينهما سوى أنهما يحملان نفس الإسم. هكذا كنت افكر لحظتها، وهو إذ لاحظ دهشتي، أغلق كتيب الصور، وابتسم ابتسامته اليومية، وعاد إلى شخصيته نفسها، وقال لي: "شو بحطلك خس؟".
هذه القصة كانت فاتحة الأمر عندي، وبدأت أسائل نفسي، هل أعرف من حولي كما هم فعلاً؟ أم أنني أراهم مختلفين عما هم، وكانت مفاجأتي شديدة، وللغاية، فأمي التي أراها يومياً، اكتشفت أنني لا أعرف ملامحها، مع أنني أقبلها كل صباح، لقد اكتشفت فجأةً أنني لا أنظر إليها كثيراً. ثم بدأت تكر السبحة، أنا لا أعرف أصدقائي، فلدى كل واحدٍ منهم جوانب أنا لا أراها أبداً، فأحدهم مثلاً لديه ذاكرةٌ مدهشة، وأنا لم أكن ألتفت للأمر البتة، كل ما كنت أراه، هو ما كنت أريد أن أراه، فهو يلعب كرة القدم معي، إذا ما كنت أريد رؤيته، هو لاعب كرة القدم بداخله، لا أكثر ولا أقل. أرى ما أريد... فقط!
يا أحبتي، أن نرى ما نريد، هو داء، داءٌ بلا دواء، داء كأفعى بثلاث أو أربع رؤوس، كأسطورة رأس "ميدوسا" (وهي إمرأة الشديدة الجمال التي تزين رأسها الأفاعي بدلاً من الشعر، وتستطيع تحويل الناس إلى حجارة) تستطيع تحويل الناس إلى مجرد فزاعات أو تماثيل، نرتبها في حياتنا كما نريد، نلبسها ما نشاء، "ماريونيت" لا أكثر ولا أقل. إنسانٌ يتحول إلى مجرد لاعب كرة، مختزلاً كل صفاته البشرية الأخرى، إلى صفتين أو ثلاث. اسألوا أنفسكم هل فعلتم هذا الشيء مع أحدٍ سابقاً؟ أنثى تصبح أماً فحسب، لا أكثر ولا أقل، مختزلاً كل خصائصها، إلى صفة واحدة هي الأمومة، دونما مراعاةٍ أو تدقيق.
وتنبهت كذلك على وقت حدوث الأمر، إن الأمر يحدث حينما نحاول ملئ فراغات حياتنا، حينما ننظر فنرى بأن حياتنا ينقصها شيء/أحد. فنحيل هؤلاء الأشخاص إلى أشياء، نرتبها في حياتنا، كحجارة شطرنج، وأحياناً بسخفٍ شديد، فإذا ما خالف هذا الشخص الدور المرسوم، احتججنا عليه، وطردناه من حياتنا شر طرد، كأنما خلق ليلعب هذا الدور. فنحن مثلاً حينما يتدخل أحدٌ فيما لا يعنيه نغضب بشدة، ونتصرف بعنف/عنفاً أكان جسدياً أو لفظياً/، ونتخذ من خطيئة هذا الشخص مثالاً ونعاقبه عليها، مع أننا –والخطأ خطأنا- كان الأجدر بنا أن نراه كشخصٍ متكامل، بحسناته وسيئاته، وبناءاً عليها نتعامل مع الأمر.
يا أحبتي الأمر ليس مستحيلاً، وليس صعباً البتة، كل ما في الأمر أنه علينا أن نرى كل من حولنا -كما ما حولنا هو الآخر- بقلبنا وعقلنا، لا بعيوننا فحسب، وأن نرى الأشخاص كما هم، لا كما نريدهم أن يكونوا. فهم كائنات متكاملة، بشرٌ بكل معنى الكلمة، وليس فقط خلفياتٍ لتكملة الصورة فحسب!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يرفض الضغوط الدولية لوقف الحرب في غزة


.. أثار مخاوف داخل حكومة نتنياهو.. إدارة بايدن توقف شحنة ذخيرة




.. وصول ثالث دفعة من المعدات العسكرية الروسية للنيجر


.. قمة منظمة التعاون الإسلامي تدين في ختام أعمالها الحرب على غز




.. القوات الإسرائيلية تقتحم مدينة طولكرم وتتجه لمخيم نور شمس