الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
نظرية الذاكرة الجمعية لموريس هالبفاكس: التذكر بوصفه ظاهرة مجتمعية
زهير سوكاح
2019 / 3 / 17الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كان لكتابات عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي موريس هالبفاكس (Mauric Halbwachs) تأثيرات واضحة على الأبحاث الحديثة حول الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث تبلورت عبرها نظرية "الذاكرة الجمعية"، والتي تعتبر أن عملية التذكر الفردية لا يمكن أن تنشأ أو أن تتم إلا ضمن إطار اجتماعي معين، فعلى عكس التصورات العلمية السائدة في عصره، والتي كانت تنظر إلى الذاكرة وعملية التذكر الفردية كوظيفة بيولوجية محضة، ربط هالبفاكس في دراساته حول الذاكرة الجمعية الذكريات الشخصية للفرد بالبيئة المجتمعية التي ينتمي إليها، واعتبر أن الإطار الاجتماعي ـ والذي تنشئه ثقافة مجتمع ماـ يسهر على وضع نسق جمعي يجعل الخبرات الفردية قابلة للتذكر وللتفسير (سوكاح: 2006). في كتابه الأطر الاجتماعية للذاكرة Les Cadres sociaux de la mémoire الصادر سنة 1925، قام هالبفاكس بشرح الطابع الاجتماعي للتذكر الفردي، فحسبه، فإن استناد الأفراد في تجديدهم للماضي إلى الإطارات المرجعية الاجتماعية، يجعل ذكرياتهم ذات طابع مشترك وبالتالي جمعي. لم تعد الذكريات الفردية إذًا متمركزة ومنحصرة داخل الفرد، بل أضحت تمتلك لها مكانا ضمن المنظومة الاجتماعية كنتيجة لتفاعل هذا الفرد مع محيطه الاجتماعي، فعن طريق الحوار مع الآخرين (مثلا: مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو غيرهم) يتسنى للمرء تذكر محطات وتجارب هامة في حياته (Erll: 2005).
يتألف المجتمع البشري من مجموعات اجتماعية مختلفة تمتلك كل واحدة منها، على حدة، رصيدا داخليا ومشتركا بين أفرادها للذاكرة وللمعرفة. يعتبر هالبفاكس الذاكرة المشتركة لجماعة بشرية معينة، شرطا لا محيد عنه لوجود هذه الجماعة نفسها، حيث أن هذه الجماعة البشرية تأسس هويتها عبر فعل التذكر، هذه الهوية الجماعية هي إذًا نتيجة للتفسير المشترك للماضي الخاص بهذه الجماعة، بعبارة أخرى، تتشكل الهوية مافوق الفردية عند الاستدعاء المشترك لماضي تلك المجموعة الاجتماعية. على هذا الأساس يمكن القول أن الذاكرة الجمعية هي ذاكرة الذاكرات الجماعية أو مجموع هاته الذاكرات في مجتمع بشري ما. ومن هنا أيضا تتجلى بوضوح وظيفة الذاكرة الجمعية، كما يراها هالبفاكس، ألا وهي تأسيس "هوية" جمع معين وضمان سيرورتها (Neumann: 2005).
من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن معظم النصوص العربية (القليلة) التي تعرضت لمفهوم الذاكرة في بعدها الجمعي والمجتمعي، تخلط بين مفهومي الذاكرة الجماعية والذاكرة الجمعية، مما يجعل عملية التفريق بين المستويين الجماعي والجمعي لمفهوم الذاكرة في تلك النصوص من الصعوبة بما كان. ويبدو أن هذا الخلط الاصطلاحي مرده على ما يبدو إلى عدم وجود كتابات مرجعية عربية أو ترجمات معمقة حول الماهية السوسيوثقافية لمفهوم الذاكرة باللغة العربية إن الفرق الجوهري بين مفهوم الذاكرة الجماعية ومفهوم الذاكرة الجمعية لدى هالبفاكس ـ كما أشرتُ إليه آنفا ـ يتجلى في كون الذاكرة الجماعية خاصة بجماعة وحيدة معينة داخل مجتمع ما، أما الذاكرة الجمعية فهي ذاكرة مشتركة بين مختلف الجماعات المكونة للمجتمع (سوكاح: 2006)، وبعبارة أخرى الذاكرة الجمعية هي مجموع كل هاته الذاكرات الجماعية، بمعنى أن كل ذاكرة جماعية هي ذاكرة جمعية في طبيعتها، لكن ليس كل ذاكرة جمعية هي جماعية حصرا.
كان لموريس هالبفاكس إذًا السبق في التنظير للذاكرة كظاهرة مجتمعية وثقافية وبالتالي تفسير الهوية بل وحتى الثقافة كنتيجة لفهم نشط للذات وكامتلاك جمعي للماضي وليس كنتاج للوراثة البيولوجية كما عبر عنها معاصروه كأستاذه إميل دوركايم وأيضا فرويد. لكن تعرضت نظرية هالبفاكس لنقد شديد خصوصا من قبل زملائه في جامعة ستراسبورغ، حيث تم اعتبارها تعميما غير مشروع لظاهرة نفسية فردية محضة، مما دفع هالبفاكس من جديد إلى إعادة تقديم وشرح تصوره حول الذاكرة الجمعية كظاهرة مجتمعية بشكل مفصل في كتابه الذاكرة الجمعية la mémoire collective، والذي اشتغل عليه أزيد من خمسة عشر سنة، لكنه صدر غير مكتمل سنة 1950.
ظلت كتابات هالبفاكس التنظيرية حول الذاكرة الجمعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعدها في طي النسيان، أيضا لم يتلقى الجانب السوسيوثقافي للذاكرة بصفة عامة أي اهتمام يذكر، إلى أن تم إعادة اكتشافها في بدايات سبعينات القرن الماضي، حيث لا يمكن اليوم الحديث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية حول هذه الظاهرة المجتمعية والثقافية دون الرجوع إلى الإطار التنظيري، الذي أسسته كتابات هالبفاكس حول الذاكرة الجمعية (سوكاح: 2006). والجدير بالذكر هنا أن نظرية هالبفاكس قد شكلت المنطلق الرئيسي لكل من المؤرخ الفرنسي المعروف بيير نورا في تأسيسه لنظريته "أماكن الذاكرة (سوكاح: 2007)، وأيضا للمؤرخ الألماني المعاصر يان أسمان في بلورته لنظرية "الذاكرة الحضارية" والتي يمكن اعتبارها امتدادا لنظرية الذاكرة الجمعية في ميدان العلوم الثقافية (سوكاح: 2015). في يوليو من سنة 1944م ثم اعتقال موريس هالبفاكس، من طرف جهاز الجستابو النازي ورحل إلى معسكر الاعتقال الشهير بوخنفالد في وسط شرق ألمانيا، حيث أعدم هناك في مارس سنة 1945م، غير أن كتاباته، بوصفه مؤسس علم اجتماع الذاكرة، لاتزال حية.
*هذا تحديث لمقالي السابق: "مفهوم الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس"، الحوار المتمدن، العدد 1755، بتاريخ 5/12/2006.
المصادر:
سوكاح، زهير: "مفهوم الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس"، الحوار المتمدن، العدد 1755، بتاريخ 5/12/2006.
سوكاح، زهير: "أماكن الذاكرة"، الحوار المتمدن، العدد 1867، بتاريخ 27/3/2007.
زهير سوكاح: "نظريات الذاكرة الجمعية وتطوراتها في ميادين العلوم الإنسانية"، مجلة داراجومان، العدد الخامس، 2015.
Astrid Erll: Kollektives Gedaechtnis und Erinnerungskulturen, Metzler Verlag, 2005.
Birgit Neumann: Literatur, Erinnerung, Identitaet. In: Gedaechtniskonzepte der Literaturwissenschaft, de Gruyter, 2005.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. عاجل | نتنياهو يدعو غوتيريش إلى إخراج قوات اليونيفل من جنوب
.. ما آخر التطورات الميدانية في وسط قطاع غزة؟
.. حزب الله يلعن الاشتباك مع قوة إسرائيلية حاولت التسلل لبلدة ب
.. مؤتمر صحفي لإسماعيل الثوابتة مدير عام المكتب الإعلامي الحكوم
.. نتنياهو يطالب بسحب قوات اليونيفيل من جنوب لبنان