الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية أماكن الذاكرة لبيير نورا: التاريخ الجديد والذاكرة

زهير سوكاح

2019 / 3 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يُعتبر كتاب (أماكن الذاكرة) Les Lieux de mémoire، الصادر سنة 1994 للمؤرخ الفرنسي بيير نورا Nora Pierre، من بين أهم المراجع التنظيرية في حقل الدراسات التاريخية، التي ظهرت في فرنسا حول مفهوم الذاكرة الجمعية. في هذا الكتاب الضخم المُؤلف من سبعة أجزاء، يرى بيير نورا أنه لم يعد هنالك إمكانية لحضور الذاكرة الجمعية بمعناها الهالبفاكسي (نسبة إلى موريس هالبفاكس) في المجتمع الفرنسي ومعه مجتمعات أوروبا الغربية، قائلا في جملته الشهيرة: "كَثُر الحديث في عصرنا هذا حول الذاكرة الجمعية، وهذا مرده أصلا إلى غيابها المطلق، أي أنه لم يعد هنالك وجود لشيء يحمل هذا الاسم" (Erll:2005). من هذا المنطلق ركّز نورا في دراساته حول ماهية الذاكرة الجمعية على ما أعتبره بالمقابل الحسي لها، أي بما أسماه بـ: أماكن الذاكرة، وتشمل أماكن الذاكرة ـ حسب نورا ـ أمكنة جغرافية وبنايات وتماثل وأعمال فنية، وأيضا شخصيات تاريخية وأيام تذكرية ونصوصا فلسفية وعلمية وأنشطة رمزية، وغيرها، وهكذا تعد كل من باريس وقصر فرساي وبرج إيفل، على سبيل المثال لا الحصر، من أماكن الذاكرة في فرنسا. بل أيضا العلم الفرنسي، والرابع عشر من يوليوز وكتاب (مقال عن المنهج) Discours de la méthode للفيلسوف الفرنسي ديكارت، هي كلها تندرج تحت مسمى أماكن الذاكرة الفرنسية (سوكاح: 2007).
يعتقد نورا أن بدايات تشكل وتبلور أماكن الذاكرة الفرنسية ترجع إلى عصر الجمهورية الفرنسية الثالثة، أي في القرن التاسع عشر، ففي تلك الحقبة قامت الذاكرة الوطنية بتأسيس الهوية الجمعية الفرنسية، لكن سرعان ما أن تبددت معالم هذه الذاكرة ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين، وحسب نورا، فإن المجتمع العصري يشهد انتقالية ذات وثيرة متسارعة، بدأت فيها معظم، أو إن لم نقل جل، أشكال الارتباط بالماضي والمُؤسسة في آن واحد للهوية الجمعية في الاضمحلال تدريجيا، مما يجعل أماكن الذاكرة ذلك البديل الحسي و"الاصطناعي" لذاكرة جمعية فرنسية لم تعد موجودة الآن بحسب تصوره. في هذا الكتاب يتحدث بيير نورا عن ثلاثة شروط لإضفاء صبغة "الذاكرية" على مفهوم مجرد أو شيء حسي معين، وبناء عليه فيمكننا الحديث أيضا عن ثلاثة أبعاد لأماكن الذاكرة، وهي: البعد المادي والبعد الوظيفي والبعد الرمزي (سوكاح: 2007).
البعد المادي لأماكن الذاكرة لا يجب أن يحيلنا إلى أن هذه الأماكن تقتصر على أشياء ملموسة (قابلة للمس) ذات طبيعة مادية فقط، كاللوحات الفنية أو كتب وغير ذلك، فأحداث تاريخية حاسمة أو دقائق صمت لإحياء ذكرى شخص ميت تتوفر أيضا على بعد مادي جلي لأنها ـ كما يعتقد نورا ـ عبارة عن مقطع مادي محدد من فترات ووحدات الزمن. كل هذه التموضوعات تمتلك بعدا وظيفيا، بمعنى أنها تُحقق أو تمارس وظيفة محددة ومضبوطة ضمن المنظومة الاجتماعية، فكتب معروفة في فرنسا، مثل كتاب (تاريخ فرنسا) Histoire de France لمؤلفه Ernest Lavisse، وُضعت في بادئ الأمر ـ قبل أن ترتقي إلى درجة مكان ذاكري ـ لتحقيق هدف معين ومحدد، وهكذا فإن هذا الكتاب التعليمي يُعتمد كمرجع مدرسي أساسي ضمن حصص التاريخ في المدارس الفرنسية. وبالنسبة للمثال السابق، دقائق الصمت، فوظيفتها بالأساس حسب نورا، هي: الاستيعاد أو الاستحضار الزمني المؤقت لذكرى أو لذكريات محددة. وأخيرا وليس آخرا، يتحتم على هذه التموضوعات، لكي تصل إلى مرتبة أماكن الذاكرة، أن تكون أيضا ذات بعد رمزي، أي حاملة لمعنى رمزي معين، وهذا يظهر بشكل جلي، حينما تنتقل، على سبيل المثال، ممارسات أو أفعال معينة إلى طقوس محاطة بهالة رمزية، فقط بعد هذا الارتقاء الرمزي تصبح هذه التموضوعات حاملة لنفس الطبيعة الحضارية، التي تمتلكها أماكن الذاكرة في مجتمع ما (سوكاح: 2007).
هذا التعريف الواسع بل والفضفاض لمفهوم أماكن الذاكرة، جعل العديد من النقاد يطرحون تساؤلات مشروعة حول كيفية فصل أماكن الذاكرة عن غيرها من الأماكن غير الذاكرية، بل وهل يمكننا فعلا الحديث عن أماكن ذاكرية وأخرى غير ذلك. والحقيقة أن تعريف بيير نورا هذا يجعل على كل حال النظر إلى الظواهر الثقافية ـ الجمعية المرتبطة عن وعي أو عن غير وعي بالماضي المشترك وبالهوية القومية لمجتمع معين كأماكن للذاكرة أمرا مقبولا بل ممكنا. ومن هنا تتجلى أهمية نظرية أماكن الذاكرة لبيير نورا في كونها مثالا جيدا للبعد التنظيري للكتابة التاريخية الذاكراتية، والتي يتم فيها الربط بين التنظير التاريخي للذاكرة ووظائفها المجتمعية وبين التصورات الكلاسيكية للماضي المهيمنة على الكتابة التقليدية والنمطية للتاريخ (سوكاح: 2007).
ليس من الغرابة في شيء، أن يجد هذا المشروع التنظيري الجديد في حقل العلوم التاريخية المعاصرة أو ما يعرف بالتاريخ الجديد، مساندين له خارج حدود التنظير الفكري الفرنسي. وهكذا ظهرت مشروعات تنظيرية مماثلة في القارة الأوروبية وأيضا في خارجها استلهمت معظمها النهج التنظيري لأماكن الذاكرة الفرنسية، مثل المشروع الألماني: Erinnerungsorte (2001)، والذي لم يقتصر على النطاق الألماني فحسب، بل كان منفتحا في عمومه على الأفق الأوروبي، أيضا ظهر مشروع تنظيري آخر في الولايات المتحدة والمعروف بـ: Sites of Memory، وغيرها من المشاريع التنظيرية حول الأماكن الذاكرة في بلدان ومناطق أخرى كإيطاليا وأوروبا الشرقية ومنطقة الكيبيك، الجزء الناطق بالفرنسية في كندا (Erll: 2007).
*هذا المقال تحديث لمقالي السابق: "أماكن الذاكرة"، الحوار المتمدن، العدد 1867، بتاريخ 27/3/2007.

المصادر:
سوكاح، زهير: "أماكن الذاكرة"، الحوار المتمدن، العدد 1867، بتاريخ 27/3/2007.
Astrid Erll: Kollektives Gedaechtnis und Erinnerungskulturen, Metzler Verlag, 2005.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استمرار التظاهرات الطلابية بالجامعات الأميركية ضد حرب غزّة|


.. نجم كونغ فو تركي مهدد بمستقبله بسبب رفع علم فلسطين بعد عقوبا




.. أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يبحث تطورات الأوضاع


.. هدنة غزة على ميزان -الجنائية الدولية-




.. تعيينات مرتقبة في القيادة العسكرية الإسرائيلية