الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طقس الاستسرار initiation ...(موت و حياة)

رماز هاني كوسه

2019 / 3 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


بقي الموت لغزا كبيرا عند الإنسان منذ القدم . فالموت وقف متحديا رغبة الإنسان بالخلود مهما بلغت قوته و جبروته . و جاءت الأديان لاحقا لتحل مشكلة الموت هذه كل على طريقتها و بما يناسب مجتمعاتها . الهندوسية تبنت فكرة العودة للحياة بما يتناسب مع أفعال الشخص بالحياة السابقة . الإبراهيميات طرحت فكرة العودة للحياة بيوم القيامة مع ربط هذه العودة بفكرة الثواب و العقاب على الأفعال الدنيوية . و رغم ربط الخلود بالحياة الأخرى بعد الموت إلا اان ذلك لم يمنع من وجود مرويات لحالات موت و عودة للحياة بالحياة الدنيوية و اشهرها موت المسيح بعد صلبه و قيامته بعد ثلاثة أيام .
فكرة عودة الانسان للحياة بعد الموت لم تقف عند حد إشباع رغبة الخلود لدى البشر . بل تجاوزتها و تطورت لشكل من أشكال الطقوس الدينية التي مارستها المجتمعات البشرية منذ القدم في بعض الثقافات و العبادات كما في عبادة ديونيسيوس أو إيزيس و ديميتر و غيرها أو ما يعرف بالعبادات الغنوصية ( و تترجم عادة الى العرفان ) و هي مجموعة من العبادات التي تستند للسرية في نقل الطقوس و التعاليم الدينية بين منتسبيها فلا يحق لاحد حتى من بين معتنقي العبادة نفسها أن يعرف كافة أسرار العبادة و طقوسها إلا من وصل لدرجة معينة من النضج الفكري و الروحي بعد مروره بسلسة من الاختبارات و التجارب تؤهله لتلقي الإسرار و استيعابها . و هي طقوس سرية و تسمى بطقوس الدخول أو الإستسرار (initiation) و هو طقس ديني يجب على كل راغب بالتعرف على أسرار العبادة أن يمر به . بشكل قريب من الصوفية الإسلامية التي يعطي فيها الصوفي اسراره للمريد بعد مروره بمجموعة من الاختبارات و المراحل .
تشمل الطقوس بشكل رئيسي على موضوع موت المريد و عودته للحياة كما في طقس الإستسرار الخاص بعبادة ديونيسوس حيث يوضع المريد في حفرة ( تمثل قبرا ) ثم يذبح ثور فوق القبر و تترك دماؤه لتسيل على الحفرة و المريد الذي يخرج لاحقا من الحفرة كأنه ولد من جديد . و قد مر الروائي أبوليوس بطقس الاستسرار للآلهة إيزيس و وصف ذلك بكتابه الحمار الذهبي فيقول ( لقد دنوت من حافة الموت الفعلي و وضعت قدمي على عتبة بيرسفوني . ثم سمح لي أن أعود سابحا عبر العناصر كلها ) بيرسفوني هي آلهة العالم الأسفل و يشير الكاتب هنا الى اقترابه من الموت و عودته للحياة في كتابه و يصرح بأنه لا يستطيع الإفصاح عن كامل الطقوس بوضوح خوفا من العقاب الذي سيترتب عليه . النزول للحفرة يمثل موت إفتراضي للمريد و الخروج منها ولادة جديدة .
مثال آخر عن طقس الإسترار بإمكاننا أن نراه في طقوس عباة الإله ميثرا لدى سكان فارس قديما و يتمثل هذا الطقس بدخول المريد الى المعبد المنحوت في الجبال على هيئة كهف و الدخول يتم عبر هبوط سبع درجات لداخل المعبد (الكهف ) و من ثم صعود هذه الدرجات للخارج من جديد . الدرجات السبع هذه تمثل المراحل السبع التي يمر بها المريد و هي ترتبط مع الكواكب السبع السيارة المعروفة حينها . و هي من الأسفل إلى الأعلى (1- غراب مرتبط بعطارد 2-عروس ميثرا و مرتبط بالزهرة 3- جندي مرتبط بالمريخ 4- أسد مرتبط بالمشتري 5- فارس مرتبط بالقمر 6- رسول الشمس مرتبط بالشمس 7- الأب أو الكاهن و مرتبط بزحل ) (كتاب ميثولوجيا اديان الشرق الأدنى قبل الإسلام – محد الناصر صديقي ). فعملية النزول إلى المعبد (الكهف )تمثل الموت المفترض للمريد و الخروج منه تمثل ولادة جديدة .
موضوع الموت الإفتراضي للشخص بالدخول لقبر و الخروج منه هو طقس تطهيري يعبره المريد القصد منه التخلص من آثامه السابقة قبل الدخول في حياته الجديدة كشخص مؤمن طاهر نقي مطلع على أسرار العبادات . و هي نفس الفكرة التي تحملها عملية العماد بالماء المعرفة لدى المسيحية و الصابئة مثلا . فالتغطيس بالماء هو موت إفتراضي و الخروج منه ولادة جدية نقية طاهرة . نفس الفكرة تتكرر بموضوع الغسل الإسلامي قبل أداء العبادات . و حتى بموضوع تغسيل الميت قبل دفنه و ذلك بتحضيره للحياة القادمة بعد الموت باعتباره ولد من جديد (الانسان برحم أمه يكون محاطا بالسائل الأمينوسي و هو الماء قبل ولادته ... و عند ولادته يخرج من الماء المحاط به و لذلك الولادة تكون من وسط و يقال بالعامية طقت مية الراس .... من هنا العماد و الغسل المائي كمحاكاة لولادة الإنسان من وسط مائي ) . اختيار الحفرة أو الكهف هو إشارة للعودة لرحم الأرض و التي تمثل الإلهة الأم هنا . فالأرض في المجتمعات الزراعية قديما هي الرحم الذي توضع به البذور لتعطي ثمارا و قمحا و غذاءا لاحقا . فمن الأرض تولد الحياة دائما في المجتمعات الزراعية .
موضوع الموت و العودة للحياة من القبر نراه يتردد مسيحيا بحادثة أخرى هي غير حادثة قيامة يسوع . و الحادثة المقصودة هي قصة موت لعازر من بيت عنيا و عودته للحياة بعد أن صرخ المسيح على باب القبر طالبا منه الخروج(إنجيل يوحنا ) . لإلقاء الضوء على الحادثة السابقة و هل بالإمكان اعتبارها طقسا عنوصيا يمثل الموت و الولادة الجديدة الروحية للمؤمن لنطلع على ما طرحه فراس السواح في كتابه ألغاز الانجيل بمعرض حيدثه عن ما يعرف بإنجيل مرقس السري و الذي يشير إلى وجوده كليمنت السكندري في رسالة أرسلها إلى قس فلسطيني إسمه تيودور و عثر على الرسالة في غلاف أحد الكتب في دير مار سابا جنوب القدس . و يذكر كليمنت السكندري في الرسالة أن مرقس كتب إنجيلين الأول لحديثي العهد بالإيمان و هو النسخة الرسمية أما الثاني فهو إنجيله السري الذي كتبه لمن يريد الوصول إلى الأسرار المقدسة . و بهذا الإنجيل السري ترد قصة عن إحياء يسوع لفتى في بيت عنيا بعد موته بتفاصيل قريبة من قصة لعازر العروفة و يكمل كليمنت بأن إنجيل مرقص السري يتابع القصة بالقول ان الفتى بعد عودته للحياة بقي مع يسوع لستة أيام في بيت عنيا يتلقى منه تعاليم الإيمان و بعدها في المساء لبس الفتى إزارا من الكتان فقط و بقي مع يسوع يتلقى منه أسرار الملكوت . ما ورد سابقا في إنجيل مرقس السري يشير لوجود طقس تنسيبي معين قام به يسوع مع الفتى الذي أحياه والأرجح انه يتضمن العماد بالماء بعد الخروج من القبر و العودة للحياة . و هو مشابه من حيث السينارية للطقوس التنسيبة للعبادات الغنوصية المذكورة سابقا . إن الاطلاع على هذه الرواية في إنجيل مرقس السري بإمكانه أن يلقي الضوء على حادثة يوردها إنجيل مرقس الرسمي بليلة القبض على يسوع في بستان جتسماني عن وجود شاب يرتدي إزارا كان يتبع يسوع و حين حاول الجنود إلقاء القبض عليه ترك إزاره و هرب و هو عاري .
إسلاميا بإمكاننا الوقوف عند المرويات الإسلامية التي تتحدث عن نزول الوحي على محمد و هو يتعبد بغار(كهف) حراء. بإمكاننا ان نتلمس هنا أثرا من طقس الإستسرار الذي ذكرناه . نزول الوحي في كهف يمثل لحظة ولادة الدين الجديد . و اختيار الكهف كمكان للتعبد يشابه الطقوس الميثراوية التي ذكرناها سابقا . فالدين الجديد ولد من الكهف من باطن الأرض و من رحمها . و انتقال محمد من ديانة آبائه إلى الدين الجديد يتم أثناء وجوده داخل الكهف و خروجه منه . طبعا لا يعني ذلك أن محمد كان مطلعا على الأسرار الميثراوية بقدر ما تشير مثل هذه المرويات لوجود نوع من النمطية في الفكر الديني للمجتمعات البشرية . الكهف إسلاميا يظهر من جديد عند هجرة محمد و رفيقه إلى يثرب حيث يختبئان من مطارديهما في غار (كهف ) ثور . الإختباء بالكهف فصل بين مرحلتين إسلاميتين الأولى في مكة حيث لم ينجح محمد في مسعاه و لم يستجب له قومه . و الثانية في يثرب و التي كان عنوانها النجاح من اليوم الأول و انتشار الدين الإسلامي بشكل متزايد و سريع . ولادة مرحلة جديدة للإسلام . ما طرحناه عن الكهف إسلاميا و مدلولاته يذكرنا بمشهد نراه بعيد الميلاد المسيحي سنويا و هو مشهد الكهف و بداخله يسوع حديث الولادة مقمطا . و هو مشهد يستند الى رواية أحد الأناجيل المنحولة (إنجيل يعقوب ) الذي يورد قصة ولادة يسوع في كهف أثناء السفر . ولادة شخصية عظيمة ستغير تاريخ البشرية و الولادة تتم في كهف ... باطن الأرض .... رحم الأرض.
طقوس الموت و الحياة اختفت تقريبا حاليا من الطقوس الدينية و لكن بقيت بعض الآثار لها متناثرة في ثقافة المجتمعات و تراثها الديني . ربما من الممكن ان نربط موضوع الطاقة في مقام الشيخ يوسف بن عفيف الدين ( و ينتسب لآل جعفر بن أبي طالب ) لنفس فكرة الموت و الولادة الجديدة . المفهوم الشعبي المتداول بأن الطاقة (نافذة صغيرة ) موجود في احد جدران مقام الولي المذكور تشكل اختبارا لصدق الانسان . فبفرض اتهام شخص ما بارتكابه جريمة مثلا يحتكم الخصوم لمقام الولي و المتهم البريء يستطيع العبور من الطاقة ( ابعادها 32سم *23سم ) مهما كبر حجمه . أما إن كان مذنبا فإنها تضيق عليه و لا يستطيع الخروج منها مهما كان نحيلا . الفكرة بذاتها قد تحمل في ثناياها طقس الموت و الولادة الجديدة التطهيري . الدخول للمقام هو دخول للقبر و يمثل موت افتراضي . الخروج من الطاقة ولادة نقية طاهرة . و هنا الانسان البريء الطاهر يستطيع الخروج منها .... اما المذنب فلا يستطيع الخروج و مصيره البقاء في داخل المقام ( القبر الافتراضي .. يبقى ميتا ) .
العام الماضي كشفت الرياح الشديدة عن وجود باب ثاني مغلق للكعبة . و الرواية الإسلامية تتحدث عن وجود بابين أساسا للكعبة قبل الإسلام و قد أغلق احدهما نهائيا على يد الحجاج بعد قضائه على ابن الزبير . و كان المتعبدون قبل الإسلام يدخلون من باب و يخرجون من اخر كما تذكر الروايات . هنا نستطيع أن نقول بأن عملية الدخول من باب و الخروج من آخر تمثل عملية تطهيرية للمتعبد . الدخول من الباب الأول بما يحمله الشخص من آثام و ذنوب و الخروج من الباب الثاني نقيا من الذنوب . ولادة جديدة طاهرة بعد القيام بالتعبد .من الطقوس الدينية للحج قبل الإسلام عدم جواز الحج بملابس الإنسان القديمة لأنها تكون دنسة و ملوثة بآثامه و يجب عليه اما إقتناء ثياب جديدة إن كان قادرا أو الحج عريانا اذا لم يستطع .... نفس الفكرة تتكرر في الحج الإسلامي بثياب الإحرام ( خلع الثياب القديمة و استبدالها بثوب جديد أبيض نقي ) و هو يعيد للذهن الحديث النبوي (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) ..... صورة أخرى عن موت الإنسان بذنوبه و ولادته من جديد نقيا طاهرا ....الحج ولادة جديدة للمؤمن كما المرور بطقس الإستسرار ولادة جديدة للمريد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟