الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذات الضائعة ومجتمع السقوط

نادر نجم

2019 / 4 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الذات الضائعة ومجتمع السقوط

تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية..."هيجل"


بدأ (ديكارت) تأملاته متذرعاً بالشك لئلا يضل، فانتهى لحقيقة ثابتة لا يمكن الشك فيها بأن الذات موجودة مادامت تفكر، تشك، تعقل. بيد أن هذا الوجود لا يعدو كونه وجوداً فيزيقياً قاصراً على آداء الإنسان وظائف طبيعية حياتية، مقيماً علاقات مع أقرانه الذين يقومون بالدور نفسه. بينما يظل الوجود بالنسبة لـ(سارتر) مرتهناً بسعي الذات لأن تتحقق • إذ أن الإنسان يوجد أولاً غير محدد بصفة، ثم يُلقي بنفسه في المستقبل، وذلك بالأفعال التي يؤديها. ولهذا فإن الإنسان مشروعٌ وتصميمٌ يحيا حياة ذاتية، ولا شيء يوجد قبل هذا المشروع، بل الإنسان هو الذي يصمم ذاك المشروع، وبالتالي فإنه مسؤل بالضرورة عما يكون عليه، فكل إنسان يحمل المسؤلية الكاملة عن وجوده.( ) ما لخصه سارتر بعبارة "الوجود يسبق الماهية"

هذه المسافة الفاصلة بين الوجود والماهية لا تتطلب فقط توافر جواً من الحرية بحيث تكون الذات حرة فحسب؛ بل تكون هي الحرية عينها. ومن ثم فأي قدر من القمع والقسر وغياب الحرية سيعرقل بالضرورة تحقق الذات، كذات فاعلة في المجتمع، بل أيضاً يعرقل المجتمع نفسه عن تحقيق غاياته باعتبار المجتمع مجموع ذوات متفاعلة. تتعد أسباب هذا الانحراف في مسار التحقق، فمنها الأنا، الآخر، المجتمع، السوق وما إلى إلى آخره.

تلتقي الذات إبان هذه المسافة الزمكانية بين الوجود والماهية بنظرائها فتتجلى بذلك جدلية (الأنا/الآخر) تنخرط الأنا (الذات) في جدال مع (الآخر) ضمن نمط تواصلي فاعل، تكون محصلة هذا النمط إيجابية في حالة أن اتسمت الآنا والآخر بالتماثل. بينما يكون هذا الآخر المنحرف على الدوام، ربما المارق، الكافر، وإلى آخره من التهم العتيقة، فقط إذا كانت المحصلة سلبية؛ ألا فاقتلوه أو اصلبوه أو نالوا منه ومن عرضه وهذا أضعف الإيمان. يمارس هذا الأنا سلطاته في التكفير التأثيم ليس فقط كطعن في التدين والإيمان والثقافة ، إنما في المجال السياسي أيضاً فينزع الوطنية عن هذا وتلصق الخيانة والعمالة بهذا؛ فقط لأنه آخر، لأنه لا يشبهني، لا يقبل وجهات نظري كليةً. وكأن كونه آخراً تهمة كافية لينزل عليه وابل من الشتائم واللعنات والتخوين والتكفير والتأثيم. أما لو أدرك كل منا أنه واحد أو فصيل؟ أو لو أدركنا جميعاً أنَّا لا نمثل أي كل؟! أثق بأنها ستكون الانفراجة الكبرى والأساسية في كل أفق حواري أو نقاشي بشكل عمومي جداً. كما أثق بأن استمرار هذا هو ما يجعل الأفق منسداً بل ومصادراً بشكل دؤوب أمام الذات يعرقل تطورها ويمنع انسجامها مع أقرانها.

إلى جانب هذه الجدلية الدراماتيكية المستمرة، تلتقي الذات في رحلة تحققها بآخر أكثر ضراوة؛ ثالوث قديم في الزمن: الفقر، الجهل، المرض. هذا الظرف المجتمعي الذي تضيع فيه الإمكانات والقدرات، وكذلك التنافس، فعندما تسيطر براثن هذا الثالوث على مجتمع بعينه، دون محاولات جادة للخلاص، يتداعى المجتمع ويرجع القهقري، يهوي الأفراد فيه من طبقتهم الاجتماعية تباعاً، تنزوي الحرية إلى حد التلاشي. وبذلك تتعرقل رحلة الذات في التحقق، ويصبح الأمل عبثاً، والهدف ضرباً من اليوتوبيا، بينما تصبح الذات نفسها ذات ضائعة مشتتة بين ماضٍ عامر بالأمنيات ومستقبل موحش ومعدل عمري قصير.

تلك الجماهير الضائعة، بفعل ضياع نواتها (الذات)، تتحول بفعل التراكم إلى كتلة صلبة صماء منزوعة الإرادة، خافتة التأثير. ومن ثم يكون مبرراً جداً أن تطل الديكتاتورية كضيف غير مرغوب فيه من نافذة هذا الكوخ الخرب. ما يزيد الذات توتراً وتوحشاً فريداً فتتخذ القتل وجهة، والتعصب سبيلاً بشكل لا شعوري محاولةً بذلك رفض هذا الواقع ولكن بطريقة عكسية مصوبة ضد نفسها وكذلك أقرانها، عوضاً عن محاولة إحداث تغيير يكفل للجميع الحق في الحياة، في الحرية، في المساواة والعدل.

تتم مخاطبة حس الجماهير بخطابات عاطفية لا تزيد الحال إلا بؤساً ولا تحرك ساكناً إلا ذاك النيّر، الذي تم تثبيته على كاهل الفرد مسبقاً، ليصبح أكثر ثباتاً. الله يريد بك هذا! الوطن بحاجة لتضحياتك! وما إلى آخره من هذه الادعات التي تسرق وعي الجمهور، وتفقدهم اداركهم بما يجب أن يكون. فهناك واقعتان تاريخيتان تشهدان على تلك الخطابات الزائفة. يذكر إحداهما ميشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ، عندما ضرب الجذام أوربا، إذ يقول: "يقول قداس في كنيسة فيينا؛ يا صديقي إنه ليرضي الله أن تكون مصاباً بهذا المرض، وإنها لعناية منه أن يعذبك على الشرور التي ارتكبتها في هذا العالم. وفي اللحظة ذاتها يُلقي الراهب ومساعدوه بالمريض إلى خارج الكنيسة، بعد أن يتم اقناعه أنه بذلك يشهد على وجود الله. ويقال له: ومع أنك تُقصى الأن من الكنيسة وتُستَبعَد من جوار القديسين، فإنك مازلت تحت رعاية الله."( ) أما الواقعة الثانية فهي عبارة عن اسطورة لاتينية شهيرة عن المَعِدة والأطراف؛ تلك التي وظفها نبلاء روما لتبرير امتيازاتهم في أعين الجمهور بأن مصلحة الأطراف تقتضي بأن تكدح لإطعام المعدة. لأن الأطراف المستندة لمعدة فارغة سوف تذبل –لامحالة- في وقت قريب.( )

إن غياب الحرية وحضور التعصب ونبذ الآخر، جنباً إلى جنب مع ذاك الثالوث المريع، يجعل الذات حبيسة، ضائعة، ومتوترة، وتتسرب تلك السمات من الذات إلى مجموعها، مشكّلة ما نسمه بمجتمع السقوط. بحيث تهوي الذات فيه إلى غياهب الجهل والتعصب، بلا أدنى قدرة على التغيير وصناعة واقع جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف