الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من تدمر و البتراء .... إلى مكة

رماز هاني كوسه

2019 / 4 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


رغم البعد الزماني الذي يقارب أربعة قرون بين فترة بزوغ نجمي تدمر و البتراء على مسرح التاريخ كقوتين سياستين مؤثرتين في منطقة شرق المتوسط و بين فترة ظهور مكة كمدينة لعبت دورا تجاريا و دينيا على مسرح التاريخ . لكن القارئ لتاريخ المدن الثلاث و ثقافتها يلاحظ إشارات تدل على وجود نوع من التقارب الديني بين تدمر و البتراء و محيطهما السوري و هما وريثتا الثقافة الآرامية و النبطية . و ما بين مكة و محيطها الجغرافي التي تنقل السير الاسلامية عربيتها بالكامل . و التقارب يظهر في الجانب الديني و تحديدا في مجمع الآلهة بكلا الثقافتين .
تدمر و البتراء مدينتان سوريتان بالثقافة و الإنتماء و معلوماتنا عنهما من خلال الأدلة الأركيولوجية الكثيرة التي وصلتنا من هاتين المدينتين و التي نقلت لنا جانبا واسعا من الحياة الثقافة و التجارية و الروحية لهما . فنحن هنا عند الحديث عنهما نستند لما بين أيدينا من آثار و أدلة مادية موثقة تعود للعصر الذهبي لهاتين المدينة . بالمقابل نحن لا نملك ما يماثل ذلك بالنسبة لمكة فكل معلوماتنا عنها مستقاة من السير الإسلامية التي نقلت شفاها و لم تدون إلا في الفترة العباسية بتكليف الخلفة المنصور لابن إسحاق بتدوينها و التي شذبها لاحقا ابن هشام في القرن الثالث الهجري . بينما على صعيد الأدلة الأركيولوجية فنجن لا نملك من الأدلة المادية التي تعود للقرن الخامس و السادس الميلاديان من محيط مكة الجغرافي مما يجعلنا نعتمد تماما على ما تنقله السير الإسلامية لنا عن الحياة الاجتماعية و الروحية لمنطقة مكة .
و باعتبار الدين من أهم النتاجات الثقافية لمجتمعات شرق المتوسط لنحاول اجراء مقارنة ما بين الحياة الروحية لتدمر و البتراء السوريتان و مدينة مكة بناء على ما نملكه من معلومات عنها . و لنقابل آلهة مكة مع ما يقابلها في البتراء و تدمر .
نبدأ من كبير آلهة مكة هبل و حسب ابن هشام فان صنم هبل قد جاء به عمرو بن لحي الخزاعي من الشام ليعبده أهل مكة . ببحث بسيط عن اسم الإله هبل في الفضاء الجغرافي السوري تتوجه أنظارنا بسهولة إلى الإله بل التدمري الذي كان معروفا ككبير آلهة تدمر . طبعا الاختلاف بين الاسمين بوجود الهاء ببداية اسم الإله المكي تفسيره هو أن الهاء ببداية الكلمة هي أداة تعريف معروفة باللهجات الشمالية و نراها موجودة بالخط الارامي المربع المستعمل في الكتابة التدمرية و الذي دونت به احداث العهد القديم أيضا . و الهاء هنا تقابل (ال) التعريف العربية . ف(هبل ) ممكن ان يكون ببساطة هو الإله (بل ) التدمري مضافا له أداة التعريف . مصدر اخر مرجح للإله هبل القرشي هو الإله (بعل) الكنعاني . و الهاء تعود لنفس السبب السابق بكونها أداة تعريف مع اسقاط حرف العين بالوسط لتخفيف اللفظ رغم أن الأرجح هو المصدر التدمري للإله هبل و ذلك لقرب الفترة الزمنية بين ازدهار تدمر و ازدهار مكة مقارنة بالفترة الكنعانية التي تعود لقرون قبل الميلاد . هبل مكة لم يعثر له على أي أثر مادي في مكة و محيطها الجغرافي و لو من قبيل تماثيل صغيرة مدفونة بالقبور أو في كتابات نذرية متناثرة على الصخور . بينما الإله (بل) التدمري معبده و تماثيله معروفة و موجودة ليومنا الحالي .
ننتقل إلى الإلهة اللات و هي إلهة عبدتها ثقيف في الطائف . و اعتاد العرب الحج للطائف بقصد التعبد لها و تقديم القرابين , اللات كما تنقل السير لم تكن صنما بل وثنا و هي صخرة مربعة بيضاء ( الصنم تمثال يكون على هيئة او صورة مخلوق ... الوثن يكون على غير هيئة محددة.... تفسير اخر يذهب بان الوثن يصنع من الحجارة و الصنم من غير الحجارة كالمعادن او الخشب او الذهب ) . و كان للات حرما لا يجوز الاعتداء عليه و تقديم القرابين لها يكون عبر وضع القربان في حفر تحتها تسمى الغبغب ( قريبة من لفظ الجب المتداولة عاميا و التي تعني البئر في اللهجات الشمالية ..... حفرة في الارض) , و بقيت عبادة اللات إلى أن جاء المسلمين و هدموا حرمها و سيطرو على مدينة الطائف.
الإلهة هذه لم تكن خاصة بالعرب في الجزيرة فقط أو هم من ابتدعوها . فهي جاءت لهم على الأرجح عبر الحركة التجارية مع الشمال و الاحتكاك بسكان سوريا التي كانت عبادتها معرفة لديهم و خصوصا لدى التدمريين و الأنباط . فاسم اللات نراه يذكر في اسم أحد ابناء أذينة و زنوبيا بصيغة وهب اللات . و كان لها معبد في تدمر اكتشف من قبل بعثة بولونية و يعود للقرن الثاني الميلادي و نقش عليه بأنه انشئ بأموال الربة اللات . و يبدو أن اللات كانت معبودة لدى الانباط أيضا يرد اسمها في نقوش بصلخد و الحجر ايضا و ربما اسم مدينة العقبة القديم (إيلة) او (إيلات بالعبرية ) يحمل إشارات لانتشار عبادتها بينهم .
لمصدر اسم اللات هناك عدة تفسيرات . فالتراث العربي يذهب لتفسيرها بان اللات كان اسم لرجل ييبع السمن للحجيج او ان كان يلت له السويق عند صخرة اللات (روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه)و بعد موته اعتبروه اختفى داخل الصخرة , او ان اسم الالهة من الفعل (لوى لويت ) بمعنى غير رأي الشخص و بدله الى غير ذلك من التفسيرات البسيطة . التفسير الأقوى هو أن يكون اسمها مشتقا من اسم الاله (إيل) كبير آلهة الشعوب السامية و اعتبار إيلات هي مؤنث إيل ( إيل ... إيلة... إيلات ). بإضافة تاء التانيث ( كما في كلمة مار و تعني سيد مؤنثها مارتا و تعني سيدة ) . كل ما طرحناه يشير لارتباط اللات مع البيئة السورية في تدمر و البتراء بشكل وثيق ماديا و ثقافيا بينما يغيب كل أثر مادي للإلهة اللات في الفضاء الجغرافي مكة أو الطائف فلا نقوش تذكرها.

ننتقل إلى الإلهة العزى كبيرة آلهة غطفان لدى العرب أيضا يبدو أنها جاءت من الشمال و من الفضاء السوري النبطي تحديدا . الإلهة العزى كانت تمثل لدى غطفان بصنم امرأة و كانت لها شجرات مقدسة في حرمها و التي قطعها خالد كما تورد السير الإسلامية . اسم الإلهة العزى نراه يظهر بقوة في الفضاء السوري و تحديا بالثقافة النبطية و تلقب بذات القناع في مدينة البتراء . و تمثل العزى هنا بصورة امرأة جميلة وراءها أشجار خضراء ( و هو ما يذكر بشجرات العزى المقطوعة في الرواية الإسلامية ) . هناك اتجاه يربط ما بين العزى و الإلهة المصرية إيزيس والدة الإله حورس و لكن الأرجح أن العزى هي استمرار للإلهة عشتار المعروفة في الرافدين و الشام خصوصا أن الشجرة التي هي رمز للإلهة العزى هي أيضا رمز معروف من رموز الإلهة عشتار . ابعض العرب تسمى باسم الالهة العزى و منهم عبد العزى بن قصي بن كلاب (جد النبي الأكبر ). أيضا العزى لا اثر مادي لها في مكة او الحجاز بينما نراها حاضرة شمالا بالنقوش النبطية .
رابع الآلهة هنا هي الإلهة مناة و التي كان لها تمثال على شاطئ البحر الأحمر و كان العرب يحجون إليها . النقوش النبطية المكتشفة في منطقة الحجر تشير لأن هذه الإلهة أيضا من جذور نبطية و هي وافدة من الخارج للعرب . حيث وردت بصيغة منوتو (و ل ع ن دو ش ر ا و م ن و ت و و ق ي ش هـ ر / ك ل م ن د ي ز ب ن ك ف... ر ا د، هـ )، ترجمتها (و لعنة دوشرا ومناة وكاهنها على كل من یبیع هذا الضریح ). بينما لليوم لا أثر مادي لها في الحجاز الا بكتب السير الاسلامية .
الآلهة الأربعة هم من أكبر الآلهة بمجمع الآلهة المكي و العربي و ثلاثة منهم ترد اسماؤها قرآنيا ( أفرأيتم اللات و العزى . و مناة الثالثة الأخرى ) سورة النجم . بينما الدلائل الأركيولوجية تشير لكونهم جميعا من الثقافة الدينية السورية و تحديدا التدمرية و النبطية . تم العثور على آثار و نقوش لهم في تدمر و حوران و مناطق الأنباط بينما لم يتم العثور للآن على أي دليل أثري على عبادتهم في الحجاز و جزيرة العرب إلا ما ورد في السير الإسلامية التي دونت في القرن التاسع الميلادي ... بعد قرنين من زوال عبادة هذه الآلهة .
ننتقل إلى إله اخر من الثقافة السورية و هو الإله (مناف أو منف ) الذي يظهر بالنقوش في حوران (جواد علي تاريخ العرب قبل الإسلام ج5 ص 106) و فيه تمت مماثلته مع الاله زيوس و هذه الترجمة للنقش
1- يا زيوس مناف امنحني السعادة والوفرة
2- أبو معن الذي عاش تقيا قدم هذا المذبح قربانا للإله
سبب حديثنا عن الإله مناف هو عدم وجود اسم له بين الهة العرب فهو ليس من معبوداتهم بالمقابل نراه موجودا بأسماء العرب و منهم عبد مناف بن قصي بن كلاب ( أخ عبد العزى بن قصي بن كلاب المذكور سابقا ) ... فمن عادة العرب التسمية بأسماء آلهتهم المقدسة و هو ما رأيناه باسم عبد العزى بن قصي الذي سمي تيمنا يإسم الإلهة العزى ذات الجذور السورية و التي قدسها العرب .... فلم سمى قصي ابنه عبد مناف تيمنا باسم الإله مناف الذي لا يعبده العرب و لا يذكر من بين آلهتهم ؟
من يتتبع ما نقله الرواة عن قريش و مكة و آلهتها قبل الإسلام و يحلل ما يرد من معلومات . يلاحظ ان البوصلة دائما تشير شمالا باتجاه سوريا و ثفافتها و تحديدا النبطية و التدمرية . من أسماء الآلهة و تماثيلها التي لا أثر حجازي لها على الأرض بينما تعلن عن نفسها بكل وضوح في الفضاء السوري . إذا ربطنا ما سبق مع غياب اسم قصي عن الفضاء المكي و عدم وجود أثر مادي او نقش باسمه رغم ما تنقله السير عن مكانته العالية و الدور الكبير الذي لعبته بتطور مكة و بروزها على الساحة السياسية و الدينية . بينما نجد اسمه يظهر بوضوح في نقش معبد للإلهة اللات في صلخد بالسويداء بسوريا بصيغة ( قصيو بر أكلبو ..... قصي بن كلاب في العربية .) إلى جانب أسماء ( روحو بر قصيو ... مليكو بر قصيو ) و هي أسماء لأشخاص ينتسبون لعائلة واحدة من الكهنة في صلخد (جواد علي ... المفصل في تاريخ العرب ) . و قصيو بر أكلبو هذا هو رجل ذو مرتبة دينية عليا في المعبد و يذكرنا بمرتبة قصي بن كلاب الدينية العليا بالإشراف على الكعبة .
إشارات كثيرة .إذا أضفنا إليها الروايات عن وفاة هاشم جد النبي بغزة .و عن نفي أمية إلى الشام بعد خلافه مع عمه هاشم و التحكيم لدى الكاهنة الخزاعية ( و هو أمر يبدو مرتبطا مع تأسيس الدولة الاموية في الشام و يشكل تمهيد و خلفية لها ). تجميع هذه الإشارات يجعلنا نقف امام مدينة مقدسة ذات طابع سوري مشبعة بالثقافة الدينية التدمرية والنبطية . فهل الامر مقتصر على الثقافة فقط أم ان للجغرافيا و موقع المدينة المقدسة هذه كلام آخر . طروحات كثيرة نقرؤها عن كون مدينة الإسلام المقدسة منشأها في الجغرافية السورية و ليس الحجاز . طبعا الكلام السابق يشير لذلك و لكنه ليس بدليل حاسم على هذا الأمر . و لكن الكلام السابق يشكل أساسا متينا لاعتبار قبيلة قريش على الأقل قبيلة ذات جذور سورية و ثقافة سورية آرامية نبطية قد تكون ارتحلت لمكان اخر بزمن سابق و نقلت ثقافتها معها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة