الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مناجاة لفراشة تأبى الطيران

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2019 / 4 / 20
الادب والفن


لا أفهم ما الذي يشدني إليك أنت أيتها الفراشة الصامتة ! بلا شك إنه نداء الأبدية، فكلما ازددت غموضا إلا وازداد حبي لك وكلما كنت صخرة صماء وإلا كنت النحات الذي يفتتها إلى غبار، ليس الحاضر هو الذي لنا وإنما المستقبل، وصورتك تمثل أمامي في كل لحظة وتأبى التواري والغياب، ولذلك لن تكوني تجربة من تجاربي المنقضية التي لفها الزمن في رحلته الأبدية، بل تمثلين الزمن نفسه، والأدهى من ذلك أنت الصورة التي أوقفت الزمن وجعلته سجين نقطة اللاعودة، فمن تكونين أيتها الفراشة ؟ ربما لست فراشة، فالفراشات لا تعيش طويلا، فلماذا عشت في دواخلي كل هذه السنوات والأيام والشهور ؟ هل صرت أحب ؟ لقد أحببت الكثير من المرات وأحسست بنداء الأبدية وتلقفته على مهل، ولكن بعد برهة من الزمن ضاع كل شيء في السراب، إن الحب وليد المعاناة واليأس والموت ويقتل على نحو رهيب، وخاصة إذا لم يعبر المرء عن تجاربه العاطفية لمن يحب، إنه يأكل ويقضم الإنسان كما تقضم النحلة الزهرة، ولهذا لا أريدك يا عزيزتي أن تصمتي، إن الصمت هو الموت، علينا أن نتكلم لكي نحيا، إن الحب وليد الحركة والصراع وليس وليد السكون، وينبغي أن نتصارع حتى نذوب وننمحي في الآخر ونحيا من جديد، إن الحب الذي لا يقتل ولا يحيي ليس حبا، والقتل هنا يحمل معنى رمزيا ووجوديا، والحياة تعني هنا الامتلاء والشعور بالكمال ومعانقة المطلق.
لا أعي ما الذي يشدني إليك أيتها الصخرة الصماء ! اعلمي يا عزيزتي أن الصخور في قريتي ليست صخورا ميتة، بل حية، إذ تتحول مع مرور الوقت إلى تربة خصبة، والآن تعشش فيها العقبان وتتزاوج، وتشيد تحتها الثعالب جحورها وتتوالد، وتحلق فوقها طيور القبرة والحمام والدوري وتهاجر وغيرها من الطيور، فلماذا يا عزيزتي ساكنة سكون الصمت ! إن الصمت من الجمود، والجامد لا جوف له، فلا حياة فيه، تكلمي يا عزيزتي لكي تتكلم الحياة فيك، ارقصي وغني وعبري واكتبي أجمل قصائد الحب لكي تولدي من جديد ! أنت حبيسة ثقافة ميتة ومعدومة، ثقافة تكره الجسد وتعلي من شأن الروح، ثقافة تفضل إرادة العدم على عدم إرادة أي شيء، لماذا أقول لك كل هذه الأشياء ؟ لأنني أحبك والحب تمرد على التقاليد والأعراف، من لم يتمرد يوما لا يمكن أن يحب، ومن لم يتألم ويعاني لا يمكن أن يحب، إن الحب تضحية ومعاناة وصراع ضد وفي سبيل الآخر، إن الحب مواجهة بين شخصين وثقافتين ومجتمعين مختلفين، ولذلك فالحب ليس انسجاما وتوافقا من أجل التوافق، بل يبقى اختلافا من أجل التوافق، إن الشخصين اللذين يحبان بعضهما البعض ينبغي عليهما من خلال الحب أن يتحولا إلى شخص ثالث يقطع مع ذاته الأولى، فهل استطعت الوصول إلى هذا المستوى من الحب، لا أظن ذلك ! أنت حبيسة أسوار منيعة، تلك الأسوار التي تكلم عنها غاستون بيرجي، بينما الحب هو البين ذاتية أي الخروج من قوقعة الذات والإحساس بفرح وألم ومرض الغير الذي هو ذات ـ موضوع للحب ؟ من منا يصل إلى مستوى حب المرأة الهندية التي تحرق نفسها بعد موت حبيبها ؟ ومن منا يصل إلى مستوى حب أنجالي لابنها، إذ مشت في طريق النار ـ دروبادي من أجل شفاء ابنها الذي كان يعاني من مرض التهاب السحايا ؟ لا أريد يا عزيزتي أن تجيبي عن هذين السؤالين، ولكن أريدك أن تفكري أكثر وأكثر، فالحب ليس كلمة وليس جملة، بل إن الحب مواقف وتضحيات في سبيل من نحب حتى لو كلفنا ذلك حياتنا، وليس انتظارا لمقابل، فلا مقابل في هذه الحياة غير مقابل الحب، والحب هو تجاوز للنقص وبحث عن الاكتمال الذي قد يتحقق في لحظة من اللحظات، ومن ثمة الحب يضارع ما هو إلهي ويتجاوز ما هو إنساني، فهل هناك ما هو أجمل من رعشة الحب ؟ إنها رحلة نحو الأبدية، إنها ولادة متجددة، إنها مضاهاة لله نفسه، ولهذا فالإنسان لا يولد مرة واحدة في حياته، فكلما أحب إلا وولد من جديد .
عزيزتي : لقد رحلت عمتي البارحة بنفس الطريقة التي رحل بها أخي الصيف الماضي، لقد أفجعني الخبر وحزنت حزنا مبرحا، ولذلك فهذه الحياة لا تحمل أية قيمة غير قيمة عيشها كما هي بأفراحها وعذاباتها، نحن لسنا سوى مسافرين وعلينا أن نحب ولو مرة واحدة في حياتنا ونرحل في صمت كما يرحل اللقلاق نحو الأقاصي البعيدة، كانت عمتي رمزا للطف والحنان والصبر، ولم أسمعها يوما تتفوه بعبارة سيئة، كانت راضية بالحياة ولا تعرف إلا الخير وحب الناس، ولقد تعلمت منها الكثير من القيم الإنسانية، كانت مكافحة من أجل الحياة ومناضلة ضد الزمن، آه يا عمتي، فلترقدي بسلام وتبقى ذكراك حية في وجداننا جميعا، و تبقى حياتك كذكرى تأبى النسيان، وأعزي كل أبنائها الذين أحبهم جميعا، ولم أعرف عنهم سوى الطيبوبة، ولن أنس مهما حييت هذين الموقفين :
ـ ذات يوم من شتاء 1997 كنت عائدا من السوق على متن الدراجة رفقة والدي، وداهمتنا أمطار غزيرة، فكدت أموت من شدة البرد، ولم أجد إلا منزل عمتي، إذ قامت هذه الأخيرة بتدفئتي وألبستني ملابس ابنها وأحسست بالحياة مرة أخرى .
ـ ذات يوم من خريف 2003، كنت راجعا من الإعدادية، وكان علي أن أقطع سبعة كيلومترات مشيا على القدمين في الظلام الدامس ولم أجد سوى ابن عمتي الذي ذهب بي إلى منزل والدته وتناولت بمعية أبنائها الشاي .
هذه هي الحياة ! إنها مواقف باختصار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ أنجالي بطلة رواية غطاء دروبادي للكاتبة أناندي ديفي من جزر موريس وتحكي عن امرأة هندوسية تحرق جسدها في سبيل إنقاذ طفلها المريض بالتهاب السحايا.

الدار البيضاء : 19ـ 04ـ19








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة الجميلة رانيا يوسف في لقاء حصري مع #ON_Set وأسرار لأ


.. الذكرى الأولى لرحيل الفنان مصطفى درويش




.. حلقة خاصة مع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي وأسرار وكواليس لأ


.. بعد أربع سنوات.. عودة مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي بمشاركة 7




.. بدء التجهيز للدورة الـ 17 من مهرجان المسرح المصرى (دورة سميح