الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقالات التنوير 5 تفكيك ظاهرة التطرف والتشدد الديني

احسان طالب

2019 / 4 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


انتشار التشدد الديني

المظاهر و الأسباب ، المفاعيل والتجاذبات



إن ظاهرة التشدد الديني حالة تاريخية اجتماعية وثقافية وسياسية متداخلة عبر علاقة جدلية معقدة، يتم خلال العلاقة تبادل مستمر للتأثير والتأثر.

لقد كان تأثير المفاهيم والتفسيرات المصاحبة للتراث الديني دور فاعل ومستمر في تغذية نوازع التشدد، في حين لم تتمكن القراءات والتفسيرات التنويرية من تثبيت قدمها في الوعي الشعبي لعموم المسلمين، المؤهلين بالطبيعة التاريخية والاجتماعية لقبول الوسطية والاعتدال دون إغلاق الباب في وجه القراءات المائلة للتطرف، والمبثوثة في تضاعيف التراث الفقهي المرافق للعلوم الشرعية الأخرى كمعلم الحديث والأصول ومدارس التفسير.
وستكون معالجتنا لتلك الظاهرة متحركة بين منهج البحث الإجرائي والتحليل والتفكيك الفكري والثقافي، وسنسعى لذلك عبر محورين اثنين:
الأول : انتشار التشدد الديني المظاهر الأسباب والدعائم
الثاني : المفاعيل والتجاذبات.
قد يكون من نافلة الفعل سوق أدلة وبراهين تؤكد طغيان التشدد الديني الذي هو ليس من صلب التدين الحق على الحراك الشعبي العربي فالقتلى والجرحى الذين سقطوا جراء حصار كنيسة ماري جرجس بحي محرم بك في الإسكندرية في أكتوبر 2005 بزعم أنها تعرض مسرحية تسيء للإسلام وتبين أنها قصة مبالغ فيها ألقى النار على الزيت خلالها بعض الصحافيين المتحمسين و ربما المغرضين ، استغلالاً لمشاعر متأججة لتحقيق امتيازات شخصية . و يمكن ببساطة لإمام مسجد أن يخرج عشرات الآلاف من العامة و النخب إلى الشارع تحت ذريعة تعرض أعداء الإسلام لشخص النبي مثلاً. ولا يخرج من تحت تلك المظلة ما صدر من عشرات بل مئات التعليقات على خبر نشره موقع العربية بتاريخ 16/1/2006 يرجح احتمال موت ابن لادن كانت معظمها تدعو للشيخ بطول العمر وتسأل الله تكذيب الخبر دعماً للإسلام والمسلمين . ( 1 ) وفي سورية ما زالت بعض القوانين لا تراعي المساواة الحقوقية بين المرأة والرجل كما لا تزال قوانين جنائية تعتبر جريمة القتل بداعي الشرف جريمة ذات ظروف مخففة في حين هي جريمة قتل كاملة ، وذلك هو الحال في غالبية الدول العربية والإسلامية .
ليس الحجاب ولا النقاب ولا الجلباب بل المتفحمات الموشحات بالسواد من قمة الرأس حتى أخمص القدم برداء سميك مزدوج على الوجه وقفازات يد سوداء وحلقات حبس على المعصم لإحكام الغطاء ، يرفعن راية لا لبس فيها على التزام التزمت والتشدد الذي غدا مهيمناً على الأحياء ذات الأغلبية المتدينة في المدن السورية ومنها دمشق بالتأكيد . هناك فرق بين الحرية الشخصية وبين الاجبار والقهر على ذلك الأسلوب من اللباس المفروض من قبل الأهل أو من قبل بعض التشريعات القانونية والجزائية في بعض الدول الإسلامية.

لماذا ترعى الأنظمة الاستبدادية التشدد الديني؟ :

سؤال لابد من طرحه لما تنطوي الإجابة عليه من تفسير لطبيعة العلاقة المتناغمة بين الاستبداد وتيارات دينية ذات سيطرة واسعة على المؤسسات و الشارع المدني، حيث تنسجم المواقف والآراء بينهما إلى حد كبير ولا تبرر الصدامات التي تفتعلها السلطات غالبا تنافرا أو اختلافا شديدا بين الفريقين ، فالتقارب البراغماتي الشديد والتوجه العام المتوافق في المواقف تجاه الأحداث و التطورات يؤكد التحام البنية الشمولية المولدة للتفكر الناظم لكلى المنهجين ، ويتحدد الاختلاف أو النزاع الحاد بينهما في الصراع على السلطة والوصول إلى سدة الحكم .فبالرغم من أن حقيقة الاختلاف بين أنظمة الحكم السائدة و المسيطرة و التيارات الغوغائية يرجع إلى نظريات أيديولوجية متعارضة إلا أن المصالح المرحلية تتجاوز مثل هكذا اختلاف
ولكن عندما يرعى المجتمع المدني نظاما وصل إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات وفق دستور ديمقراطي حديث يضمن الحريات وتداول الحكم فإن وصول أحزاب دينية إلى مراكز القيادة في الدولة بشكل طبيعي في ظل تحقق مفاهيم المواطنة وقيم المساواة و الحرية ، أمر ينبغي احترامه والتعامل معه والسعي للتغيير وفقا للأساليب الديمقراطية والمدنية المتعارف عليها وطنيا وعالميا (2 ). وبناءْ على هذا التوضيح يمكننا الإجابة على سؤالنا الرئيس بالنقاط التالية :

سهولة السيطرة على هذا التيار لانقياده لشخص أو شيخ أو أمير، فإذا تمت السيطرة أو التفاهم مع الأب الروحي للمجموعة والجماعة كان من السهل السيطرة على الأتباع ، وفي هذه الحالة يتم ترتيب الاستراتيجيات و المخططات التي تساهم في ترسيخ الاستبداد و رعايته مع الأمير الشيخ و يتم إنهاء المشاكل و توجيه الجموع بخطاب حماسي شعاراتي عقائدي أثبتت الأيام سرعة و تلقائية انقياد الجموع العربية تحت لوائه - الدعوة إلى التظاهرات وحرق السفارات احتجاجا على الصور المسيئة للإسلام أنموذج، وفي المقابل تقدم السلطات امتيازات و مصالح معنوية و شخصية و مادية لرواد التيار الديني و تتيح لهم نشر المزيد من مظاهر التدين و التعصب. إلى جانب تقديم مكاسب معنوية ومادية تساهم في زيادة تغلغل المريدين والمقلدين في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والتعليمية للمجتمعات والتجمعات الشعبية والمدنية .

لقد أثبت غزو العراق من قبل القوات الأمريكية وحلفائها أن جماهير التيار الديني تشكل الجيش الاحتياطي الجاهز للفداء بالروح و الدم ضد كل ما يُتصَوّر أنه خروج عن مبادئ العقيدة و الإيمان أو الاختلاف في الرأي أو المذهب , و بين كذلك مدى سهولة تسخير تلك الجماهير للقيام بأي شيء تطلبه السلطات الاستبدادية ـ دينية كانت أم سلطوية سياسية أم احتلال ـ مستغلة الانقياد العاطفي والوجداني التلقائي خلف الشعارات البراقة و الرواسب القيمية التاريخية و محرضة للفتن المذهبية، حتى و لو بلغت المسألة حد التضحية بالروح والولد بما يصب في النهاية ضد مصلحة الأمة الإستراتيجية. فمئات بل وآلاف الانتحاريين الذين قدموا إلى العراق وقاموا بالعمليات الإرهابية ضد الشعب العراقي كانت دوافعهم الأساسية عقائدية وإيمانية رعتها السياسة الإعلامية الشمولية في البلدان المجاورة للعراق وسياسات الاحتلال القائمة على مبدأ التفرقة، كما كان للجماعات الدينية المتشددة المنتشرة في أوربا و أماكن متفرقة من العالم دور كبير في دعم الفكر المنبت للإرهاب . كذلك دعاة التعصب والتزمت المتزعمين لمنابر الوعظ ومجالس الدعوة في العديد من الدول الإسلامية .و نحن هنا نفرق بين مقاومة وطنية للاحتلال و بين توجه يضر بمصالح الشعب و الوطن
بعد تجارب الستينات في مصر و الصراع الدموي بين الإخوان المسلمين و عبد الناصر و كذلك تجارب الثمانينيات في سورية و المعارك الطاحنة التي دارت بين طليعة الإخوان المسلمين و الدولة السورية و أدت للتضحية ولخسائر من المدنيين السوريين بهدف السيطرة على التمرد بالإضافة إلى العديد من الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري من قبل الإخوان. ارتأت السلطة بعد قمع التمرد أن تكون موجة التدين ذات فوائد و منافع عديدة تفوق تلك التي يمكن الحصول عليها من صراعها مع التيار الديني. وذلك بالتغلغل داخل ذلك التيار و السيطرة عليه بواسطة التعامل مع الزعماء التقليديين وإعطاءهم مساحة أكبر من الحرية مقابل مزيد من الانسجام مع مطروحات النظام وأيديولوجياته وسياساته. وبذلك توصل الطرفان إلى أن تبادل المصالح المقدم على أولوية الصراع الإيديولوجي الظاهري . و ربما كان الدعم المزعوم الذي تقدمه جهات رسمية أو مدنية إقليمية للقاعدة في العراق و أفغانستان ، يؤيد و جهة النظر تلك و يمدها بالرصيد الواقعي .

منذ عقد من الزمن انتهجت السلطات العربية سياسة تخويف الغرب بالتيار الديني و ألبست صراعها مع إسرائيل والغرب ثوب الإسلام فأصبحت المقاومة الإسلامية و الجهاد الأكبر عناصر الصراع جاذبية واهتماما ودموية ، كذلك ألبست المقاومة في بلدان عربية لباس التشدد الديني و أسلمت راية المقاومة لأحزاب دينية. و دأبت السلطات الشمولية على نشر الفكر المتطرف والتعصب وإقصاء الآخر بين الشباب و الشابات و النساء و الرجال و شجعت مظاهر ذلك التطرف والتزمت في كل وسائل الإعلام وذلك لدفع المنظرين و المفكرين و المخططين و السياسيين في أوروبة و أمريكا للاعتقاد بأن البديل عن أنظمتها هو أنظمة متشددة و متطرفة (الرسالة التي أفادت بها عملية حرق السفارات في عواصم عربية وإسلامية ) والواقع الذي تنقله وسائل إعلام السلطات يركز على إظهار المجتمعات العربية "خاصة في البلدان التي كانت تعد أنظمتها نصف علمانية " على أنه مجتمع متدين و محافظ جدا ً و انطلاقا ً من هذه الصورة يتوجب على الحكومات الغربية إبقاء و دعم الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية لأنها أخف الضررين و لأنها قادرة على السيطرة على جماهير التيار الديني و باستطاعتها توجيهه حيثما تريد فهي قادرة على نقل بندقيته من العراق إلى إسرائيل و من الخارج نحو الداخل.
إذن فالمكاسب التي تحظى بها الأنظمة الاستبدادية من تحالفها مع التيار الديني المتشدد أكبر بكثير من المخاطر المحتملة بوصوله إلى السلطة حيث اكتسبت الأنظمة خبرات هائلة في السيطرة والتحكم بالشارع بما يضمن لها البقاء والاستمرار وتجنب الأخطار
التدمير المنظم للمجتمع المدني :
اتخذت الأنظمة الشمولية منذ توليها زمام الحكم في أواسط القرن الماضي مبدأ عقائدي يقضي بتسخير منظمات وهيئات المجتمع المدني لخدمة السلطة وعقائدها والدفاع عن وجودها وبقائها متجاوزة الهدف والضرورة من وجود مظاهر المجتمع المدني المتمثل في تأطير الحياة المدنية واستقرار المجتمعات وفق معايير حضارية تنتعش خلالها المشاركة السياسية والحياة الثقافية والإبداعية لأعداد متنامية تكاد تشمل كافة أفراد الشعب وتهيئها أيضاً للتلاقي الإنساني مع الأمم والحضارات الأخرى .
ولتحقيق الهدف السلطوي كان لا بد من تسخير المظاهر الحضارية المدنية وتنظيمها ضمن أطر حزبية وعسكرية مكرسة لأيديولوجية منغلقة تنتهج العنف وتقصي الآخر أو المختلف وتسبب ذلك بعزوف جماهيري وفردي أتاح فرصة لموت العديد من الهيئات والمنظمات المدنية واستعاض الناس عنها بحلقات الدرس في المساجد والانتماء إلى جماعات الإسلام السياسي.
وفي بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي غيرت الأنظمة استراتيجيتها بإسباغ طابع التدين على التجمعات المدنية. وتوجيه الناشئة والشباب نحو الانخراط في المعاهد الشرعية والكليات الدينية وإعطائها هامشاً من الحرية يتيح لها حرية الحركة والعمل مع تقديم الدعم المادي والمعنوي والإعلامي مما نتج عنه تنام كبير جداً في أعداد الهيئات والمؤسسات الدينية التي تستوعب مئات الآلاف بل الملايين من أبناء الشعب .
في إحصائية للدكتور محمد حبش ــ عضو مجلس الشعب السوري ــ ارتكزت على عدد المساجد في سورية والبالغ تسعة آلاف مسجد وجد أن ثلثي السوريين متدينون وملتزمون بالشعائر والمظاهر الدينية .
وأبقيت بعض المؤسسات المدنية والثقافية الموجهة مباشرة والمساهمة في نشر فكر وفلسفة الحزب الواحد وقصرت منافذ الفن والإبداع على فئة معينة أثبتت ولاءها وانتماءها السياسي.
وهكذا انحسرت النشاطات السياسية والمدنية والثقافية وتحول عموم الناس نحو الالتزام بمظاهر التشدد والتعصب الفكري والعملي وغدت مسائل وقضايا مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والدفاع عن المرأة ومساواتها ومشاركتها أموراً ثانوية بل ومنافية للأخلاق والقيم الوطنية وفقاً للفكر الديني الشعبوي السائد.
ولم يعد الناس يناقشون الأمور المرتبطة بحياتهم ومستقبل أبنائهم ومقدرات وطنهم وبيئة بلدهم وابتعدوا عن الخوض في السياسة الداخلية وطفت على السطح أولويات واهتمامات كبرى لا علاقة لها مباشرة بما يجرى داخل الوطن من فساد وظلم وتدمير للبيئة و التراث العمراني حيث الأولوية الإيمانية تفرض التفكير بالجهاد والقضاء على أمة الكفر ومحاربة الأعداء المتربصين خارج الحدود للانقضاض على القيم والعقائد التي يهون في سبيلها الغالي والرخيص ، وهكذا أفرغ المجتمع من كل مضامينه المدنية وتحول إلى حالة استنفار دائم لحرب وشيكة مقدسة تقتضي فيما تقتضيه تمسكا وتشددا والتزاما كاملا بالحدود والضوابط الشرعية الصارمة .
سياسات الغرب المسؤولية الأدبية والمباشرة :

حسب الاعترافات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن فان العالم الغربي استمر في دعم الأنظمة الاستبدادية طيلة ستين عاما متغافلا عن آلام الشعوب ومتناسيا حقها في الحرية والديمقراطية غير عابئ بانتهاكات حقوق الإنسان ، مما أعطى الحرية المطلقة للاستبداد ليفعل ما يشاء بذريعة الحفاظ على الاستقرار.
لم يغب عن أذهان الشعوب العربية والإسلامية تاريخ العهد الكولونيالي المرتبط بجرائم ضد الإنسانية وإستراتيجية مستمرة في السيطرة والاستغلال ـ الجزائر نموذجا ـ ولم تتمكن القيم الحضارية والإنسانية المزعومة للدول الأوروبية والولايات المتحدة من تغيير تلك الصورة الراسخة في الوعي الجمعي الشعبوي خاصة وأن الغرب ولعهود طويلة تجاهلها أوعدها همجية ومتخلفة غير قادرة على اللحاق بركب الحضارة .
وجاء عدم جدية العالم الغربي أو عدم قدرته أو تأخره في حل المشاكل الإقليمية العالقة والمتفجرة ـ فلسطين و كشمير مثالا ــ وربما حسب ما يعتقد البعض إثارة للنزاعات المسلحة لإبقاء السيطرة وتصدير السلاح أسبابا كافية لتزيد من حدة صراع الحضارات وتسبغ عليه أشكالا دينية بعد أن كانت أخلاقية ومادية في خمسينيات القرن الماضي.
ولم تكن محاولة العالم الغربي احتواء ومن ثمة دمج المهاجرين واللاجئين إليه من بلدان العالم الثالث هربا من الطغيان ورغبة في الحرية ناجحة فبعد عدة عقود نشأت أجيال من الشباب عاشوا في فيء نظم ديمقراطية ومتحررة وغدوا أشد تمسكا وحرصا على التراث والماضي من الآباء والأجداد واكتسب التدين لديهم صيغة سياسية وتنظيمية مما أفرز قادة وأئمة يجاهرون بالدعوة للتعصب والعنف , استطاعوا السيطرة والتأثير على شعوب بلدانهم الأصلية ونجحوا في شحن الأجواء بمزيد من التزمت والتشدد.
وأخطأ المفكرون الغربيون ثانية عندما اعتقدوا أن بإمكانهم السيطرة على الأصوليين واستيعاب حركتهم الفكرية والتنظيمية وكان سبب ذلك , الفشل في الفهم العميق للتراث الفقهي وأصوله وآليات استنباط الأحكام ،حيث استطاع الأصوليون تأسيس مدارس فكرية ومذهبية جديدة ذات طابع سلفي محض متمكن يمتلك كل الأدوات والشروط والأدلة اللازمة للاستمرار وإحياء التراث الأصولي القديم من جديد.
وكانت الفوارق المادية والمعيشية الهائلة بين العالمين الأول والثالث وحالة البؤس والفقر والجوع والتخلف في مقابل معدلات عالية للاستهلاك والإسراف مع الوصول إلى الحد الأقصى من الكماليات في الدول المتقدمة وما ترافق معها طيلة القرن الماضي من اعتبارها للبلدان المتخلفة موردا للمواد الخام وسوقا للمنتجات المصنعة،كل ذلك أعطى مبررات مادية مقنعة لأعداء الغرب العلماني أو الصليبي ، ومع انحسار المد الشيوعي والاشتراكي الفكري والسياسي وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت الساحة خالية ومهيأة لقبول الفكر الديني بصورة أكبر وأوسع من ذي قبل وتم استلام راية الثورة الحمراء وفقا لمنطق الجهاد ونشر الدعوة وإقامة دولة الخلافة.
ممارسات الاحتلال الأمريكي للعراق و تخبطه و عجزه عن فرض الأمن و الفضائح الأخلاقية التي طغت على ما دونها من تعذيب و اغتصاب و قتل للمدنيين . كانت و مازالت موجبات لردود أفعال و ثورات فكرية ترى الملاذ و الخلاص في الأصولية و التزمت .


السبب الثقافي:

من الأسباب الرئيسة و الهامة في انتشار ظاهرة التشدد الديني الرقابة الحكومية على الإعلام بكافة أشكاله وأنواعه وفق سياسة إستراتيجية محددة غايتها ترسيخ الفكر الإيديولوجي المنغلق وتضييق المساحات على الفكر الليبرالي مقابل إتاحة المجالات الواسعة و الفضاءات المتنامية للخطاب الديني عموما ً, و إدخال و حشر المفاهيم الدينية في كل مجالات الخطاب الإعلامي الثقافي و العلمي و حتى السياسي .
فالحملات التي قام بها أطباء و متخصصون سوريون لدعم و نشر التداوي بالحجامة و التي دأبت - فضائية اقرأ -على إيصالها بشكل مبرمج و مدروس إلى شريحة عريضة من المجتمعات العربية أدت إلى انتشار مبالغ فيه لاستخدام الحجامة و قصر ثلاثة أرباع علوم الطب فيها و غدونا نقرأ على واجهات الصيدليات في أنحاء متعددة من المدن السورية الكبرى عبارات تنبه الشارع لمسألة العلاج بالحجامة و تعلن عن توفر تلك الخدمة لديها. و ليس ببعيد عن ذلك ما قام به أيضا ً دكاترة جامعات و أخصائيي مخابر صيدلية في جامعة حلب بالتأكيد على أن طريقة ذبح المواشي و الطيور المعدة للاستهلاك الآدمي المرتبطة بذكر لفظ الجلالة كافية لتطهير و تعقيم تلك اللحوم من الجراثيم و الفيروسات لمجرد التكبير عليها عند ذبحها. ولا يقل عن ذلك غرابة انتشار التداوي ببول البعير في القاهرة وغيرها من المدن المصرية ،و في اليمن وباكستان تخصيص جامعات ومراكز للعلاج بالنصوص المقدسة و تحديد أحاديث وآيات مخصوصة لأمراض معروفة وشائعة بالإضافة إلى تلك المزمنة والمستعصية, توصف للمريض كما يفعل الأطباء في العيادات و المستشفيات .
"فعندما لا يتسع هامش حرية الحركة و حرية التعبير إلا للخطاب الديني هكذا بشكل عام و من دون تحديد أو ضوابط فإن التطرف سوف يستفيد من هذا الغطاء" خالد الدخيل – الاتحاد الإماراتية
فتضييق هامش الحرية إلى حد الصفر في إعلام الدول العربية التي ترفع لواء تحكيم الشريعة في كل مسالك ومناحي الحياة يترك المجال للفكر المتعصب و المتشدد ليتحرك بحرية وإسناد غير محدود لسد الفراغ و ملء الفضاء الإعلامي المتنامي الذي يلاقي رواجا منقطع النظير لدى أكثرية المتلقين و هذا بدوره يزيد من عدد المهتمين و المتابعين للخطاب الديني مما يتسبب في حرص القنوات الفضائية على زياد ة المساحات و الفضاءات المخصصة لرواد الثقافة الدينية المتشددة لأنها ببساطة تجلب المزيد من الأرباح للقنوات الخاصة و الليبرالية في الأصل فبعض القنوات الفضائية اللبنانية – أل بي سي مثلا ً – دأبت في رمضان على بث دروس لعمرو خالد لجذبه عدد أكبر من المشاهدين.
و يتماشى ذلك مع ما تقوم به وزارات الإعلام من حجب و منع نشر و تداول الكتب التي تدعو إلى ثقافة الليبرالية مظهرة بذلك انحيازها للكتب الدينية القديمة و الحديثة التي تستطيع الوصول إلى القارئ بكل سهولة و يسر.
و يندرج ضمن إطار المبررات الثقافية لظاهرة التشدد عرض المسلسلات التلفزيونية و الدراما التي تغازل غرائز العامة بتمجيد الماضي و تعظيمه فقط و التركيز على رؤية تاريخية أحادية الجانب لا ترى في التاريخ سوى الفضيلة و الإيثار و النماذج الملائكية التي لا تحركها سوى الأهداف النبيلة والمقاصد الخيرة (3). حتى عندما حاولت الدراما أن التحدث عن الإرهاب لم تفصح عن حقيقته و أوصلت للمشاهد أن الإرهاب المقصود به هو ما يتعرض له الداخل أي ما يمارسه الإرهابيون داخل الدول العربية مشيرة بشكل غير مباشر – و ربما مباشر – إلى اعتبار الأعمال الإرهابية للمنتسبين للإسلام في الغرب بدون إدانة ، و لعلها ذهبت أبعد من ذلك بمحاولة التبرير للأفعال الإرهابية كونها ردود فعل لسياسات و ممارسات منحازة و متجنية من الغرب باتجاه العالم الإسلامي .
و إرجاع أسباب الظاهرة إلى الظروف الاجتماعية المرتبطة بالفقر والحاجة و إلى نتائج السياسة الغربية تجاه المجتمعات و الدول العربية – مسلسل الحور العين كنموذج – إن فشل الثقافة العربية في إحداث التغيير المطلوب للتنمية الإنسانية و البشرية شجع على ظهور و نمو التنظيمات المتطرفة و الأصولية" أحلام أكرم – إيلاف وإذا كان الباحث لا ينكر أهمية الظروف الموضوعية لمسببة و المحرضة للتطرف فانه لا يمكننا تجاوز الأسباب الذاتية و الداخلية و الهروب إلى الخارج لتجاوز نقد الذات
أثر المناهج التربوية والتعليمية :
ليس هناك من خلاف على الآثار الكبيرة والمباشرة لمناهج التعليم في صياغة وبناء الشخصية الثقافية والكيان الفكري للأفراد والمجتمعات ، والمتعلق بدراستنا هنا الأثر المسبب لانتشار ظاهرة التشدد .
تشترك المناهج التعليمية في غالبية البلدان العربية في تقديس الموروث وتكريس الدفاع عنه والنظر إليه بعين الرضا والإعجاب بما يضع جانبا كل بحث نقدي أو تحليل محايد قادر على تلمس الخطأ وبيان النقائص والعيوب مما أوقع الأجيال الناشئة في فخ الجمود والبحث عن الحلول وطرائق للعمل والتفكير في التراث حصرا وتجنب النظر إلى الأفكار و المناهج المختلفة إلا من خلال نقدها وبيان خطئها وفشلها .ْ " جاء في كتاب التوحيد للصف الثالث الثانوي للمدارس السعودية ما يلي : والانتماء إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية وغيرها من مذاهب الكفر ردة عن الإسلام " .
أما تلك المناهج التي تدعي العلمانية فقد تلاقت مع المناهج الدينية في تقديس ذات الأمة إلى حد العصمة والنزاهة بمفهومها الكهنوتي وغدا كل حديث عن نقد الماضي أو النظر إليه بطريقة علمية محايدة خروج عن الملة وطعن للمقدسات, وربما يوضح ذلك تلك الحملة الإعلامية والدعوى القضائية التي تناولت المبدع أسامه أنور عكاشة عندما أراد كتابة نص درامي يتناول حياة الصحابي عمرو بن العاص من منطلق علمي تاريخي بحت .
اقترنت نظرة مناهج التعليم إلى الحضارات الأخرى بتضخيم إنجازات الحضارة العربية وربط كل تقدم أو تطور للحضارات الأخرى بما تم إنجازه من قبل العرب والمسلمين و إعطاء صورة ضبابية وهامشية عن الحضارات السابقة للعرب والمسلمين , وخاصة في مراحل التعليم الأساسي بما يولد تربة ثقافية وفكرية ملائمة لقبول التعصب والالتزام به .
كل هذه المسلمات التي رسخت و قرت في اللاوعي الجمعي للجمهور العربي ، أوجدت ظروفا ومناخا وتربة خصبة وملائمة للانزلاق نحو تبني واعتناق مفاهيم التشدد حيث أصبحت تلك المفاهيم الملاذ الأسهل و السور الأمن الذي يحافظ على وهم التفوق و الخلود و الخيرية و يحقق لذة الرضا عن النفس ويبعد مشقة نقد الذات والبحث عن البدائل وامتلاك العصا السحرية القادرة على فعل كل شيء بمجرد الرجوع إليها .
" تكرس المناهج الدراسية العربية الخضوع و الطاعة و التبعية و لا تشجع التفكير النقدي الحر. ويتجنب محتوى المناهج تحفيز التلاميذ على نقد المسلمات الاجتماعية أو السياسية ويقتل فيهم النزعة الاستقلالية والإبداع " تقرير التنمية العربية 2003 الجزء الثاني . حال المعرفة في البلدان العربية .
وهنا لابد لنا من الالتفات إلى الأساليب التربوية الأسرية السائدة والتي ترسخ الخوف والخضوع في عقول وفكر الناشئة وتساهم بشكل مباشر في الابتعاد عن مناخات الإبداع الحر وتدفع بإصرار نحو تبني العلوم الدينية والاقتصار على تفرعاتها ومناهجها و تشجيع الالتزام منذ الصغر وإتباع أساليب الترغيب و الترهيب بما يكفل بقاء الأجيال القادمة مرتبطة وملتزمة بالموروث وثقافاته حصرا. ارتباط أسر و قيد تعجز عن الاستفادة الحقيقية منه و لا تستطيع تجاوزه لتلبي حاجات التطور الإنساني. هذا إلى جانب الأمراض التقليدية المعروفة في طرائق وأساليب التربية الأسرية العربية السائدة " إن أكثر أساليب التنشئة انتشارا في الأسرة العربية هي أساليب التسلط والتذبذب والحماية الزائدة ، مما يؤثر بصورة سلبية على الاستقلال و الثقة بالنفس والكفاءة الاجتماعية " المصدر السابق تقرير التنمية 2003
الانتصار التاريخي للتبشير الإسلامي أزكى نار التشدد:
إذا اعتبرنا عقد الثمانينيات من القرن الماضي بداية تفشي ظاهرة التدين المتشدد فإننا نستطيع تلمس بعض الأسباب التاريخية لنمو تلك الظاهرة وانتشارها ، ولا نقصد هنا عدم وجودها قبل ذلك فهي موجودة منذ نهاية عصر التأسيس بعد وفاة الرسول محمد لكن تحولها إلى ظاهرة عالمية معاصرة بمعنى سيطرتها على جموع كبيرة ومتزايدة من سكان الأرض بدأت في ذلك العقد . التدين الاجتماعي و المرتبط بصفة السماحة و التساهل و تقديم الالتزام الأخلاقي على الالتزام الديني كان هو السائد في المجتمعات العربية عموما إبان خمسينيات القرن الماضي حيث كان التشدد و التطرف حالة شاذة و طارئة إلا أنه أي التدين الاجتماعي بصفته تلك لم يكن مستندا إلى قاعدة أصولية أو فقهية مما تركه هشا و ضعيفا أمام القاعدة الصلبة و المتمكنة للتشدد ، و بهذا الصدد يضطلع دعاة التجديد و التنوير بدور هام و ضروري لترسيخ القاعدة التراثية و الفقهية لتدين إنساني و مدني .
أعطى انتصار المجاهدين الأفغان ـ الذين يشكل العرب جزءً مهما منهم ـ على جحافل جيوش الاتحاد السوفييتي السابق الدعوة الجهادية السلفية رصيدا تاريخيا معاصرا وزخما دعائيا كبيرا جير لمصلحة الالتزام والتشدد مما دفع بأعداد هائلة من جيل الشباب للتمسك بمظاهر التدين العميق المتزمت، ولاقتناع الراسخ بأفكاره ومبادئه ، حيث أعتبر ذلك النصر بمثابة دليل قاطع على صحة المنطلقات النظرية والمبادئ الفكرية والعقائد الإلهية التي قامت عليها الدعوة السلفية في مقابل هزيمة الفكر الوضعي الشيوعي وعقائده الدنيوية وما يتماشى معه من نظريات وتشريعات علمانية بشرية .لقد كان لعودة المجاهدين العرب إلى بلدانهم الأصلية دورا بارزا في آلية تكون النماذج الحية و الواقعية لدعوة الجهاد و التغيير القسري للأفراد و المجتمعات مما أتاح الفرصة لبناء شرائح شبابية واسعة لديها الرغبة و القابلية للتطرف و التشدد.
خلال ذلك جاء انتصار الثورة الإسلامية الخمينية على النظام الفاشي لشاه إيران العلماني، وكان النصر حضاريا سلميا ساحقا وشاملا أضاف رصيدا هائلا للنظرية الدينية الإسلامية المعتدلة ودفعا قويا ودليلا لا ينازع على صحة وصوابية توجهات وقناعات وأساسيات التدين حسب الظاهر و الراهن . وأعقب ذلك انتصارات مهمة للمجاهدين الشيشان على القوات الروسية ، وتمكن للحكم الإسلامي في السودان وسقوط منظومة دول أوربا الشرقية المرتبطة بفكر مادي لا ديني ، كل ذلك أوجد مناخا دعائيا مناسبا وأجواء ثقافية وفكرية وطرح تجارب و نماذج عملية وواقعية مهيأة لتقبل أفكار جديدة تتبنى النظم و الأفكار الإسلامية بشموليتها و أصوليتها بدا وكأنها تطرح للمرة الأولى يروج لها بريق الانتصار ووهج الإنجاز .
لكن الذي حصل بعد هدوء العاصفة وانحسار المد الجهادي والحرب الطاحنة بين المجاهدين الأفغان أنفسهم في صراعهم الشرس على السلطة ، وفشل الثورة الخمينية في تحقيق الرفاهة والعدل والتقدم المأمول ، لم تتأثر تيارات الشباب المندفع نحو المزيد من التشدد والالتزام ولم ينخفض رصيد الدعوات الجهادية والسلفية بل على العكس استمر الزخم الدعوي ولم يلتفت للهزائم والعثرات والأخطاء التي وقعت فيها الثورات الدينية وأغمض عينيه وبقي محافظا على أحلام الانتصار التي أعادت أمجاد الماضي وعد الهزيمة أمرا بشريا أما الانتصار فكان ربانيا ، مما لا يستدعي المراجعة أو النقد .
أثر النصوص وتفاسيرها في تبني التشدد:
مر التشريع الإسلامي بمراحل متعددة وأطوار مختلفة طبقا لنزول الوحي مجزأ وعلى فترات، مسايرا ومعلقا و مصوبا لمسيرة تأسيس وإقامة و بناء الدولة الإسلامية المحمدية . ووفقا للسياق التاريخي للدعوة تباينت المواقف والنصوص بين الحدة والشدة من جهة وبين اللين والتسامح من جهة أخرى .
فمن : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" سورة البقرة الآية 208
و : " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" سورة البقرة الآية 256
" وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ " سورة الأعراف الآية 156
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" سورة الأنبياء الآية 107
" وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " سورة الأنعام 54 الآية
إلى :
" إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" سورة التوبة الآية 36
"قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ " سورة التوبة الآية 29
وقف فقهاء الشريعة مواقف متناقضة ومتضاربة , ففي حين أعتبر العديد من دعاة الوسطية والتجديد أن الغلبة هي للنصوص التي ترجح التسامح والرحمة والسلام وعدّوها قيما عليا و مبادئ سامية جاءت الدعوة لترسيخها وتعميمها على العالم أجمع اعتبر التيار المتشدد أن الغلبة والسيطرة هي للنصوص المؤسسة للجهاد وقتال وحرب الكفار والصليبيين وأنها ناسخة لما خالفها أو سبقها.
ولسنا هنا بصدد دراسة فقهية مقارنة بل بصدد توضيح أن الرأي الثاني هو الذي غدا سائدا لدى الأكثرية الغالبة من عموم المسلمين في العقد الأخير من الزمن . مما أعطى مرجعية شرعية وفقهية وسندا قويا للتشدد والتزمت خاصة وأن الفقهاء الأقرب زمنيا إلى عصر الرسالة لم تتهيأ لهم ظروف علمية ومدنية تتيح لهم فرصة لتحديث الفقه والتشريع بما يلاءم مستجدات تاريخية ذات طبيعة ثقافية وسياسية متباينة مع الزمن الذي سادوا فيه ، ذلك أنهم عاشوا فترة الحروب والفتوحات والصراعات السياسية فمالوا إلى مجاراة الظرف السياسي والفكري الذي سيساعد الدولة على الاستمرار في صراعاتها ,فكان ذلك التراث الضخم من التفاسير والشروح والأحاديث والأصول والمتون الفقهية المتراكمة زادا وذخرا لا ينفذ من الأدلة والأسانيد الداعمة لمذهب التشدد و خيار القوة والعنف .
ولم تكن الظروف مواتية في يوم من الأيام كما هوالحال عليه الآن للمراجعة والبحث من جديد وإعادة تقويم الدراسات والعلوم الشرعية التراثية وما تحتويه من أحكام وشروح وتفاسير تنطوي على روح العداء للآخر وإقصائه أو حربه وإخضاعه.
هذا وقد شجعت الأجواء الثقافية والفكرية المشحونة بالتشدد و التطرف اليميني في الغرب (نظرية صراع الحضارات ، نظرية نهاية العالم ,مثالا ) على إزكاء نار الصراع الحضاري والانغلاق والعنف الموجود أصلا في ثنايا الموروث الفقهي والثقافي القومي( نحن بعث إذا مسنا جنح ضيم نحرق الأرض والسماء والوجود )،
إلا أنه أعطى المبررات للظهور على السطح واعتلاء منابر الثقافة والوعظ ، ودفع بالأنظمة التي كانت تتستر بثوب العلمانية إلى خلعه وارتداء جبة التراث وعمامة التدين
أثر التجربة العلمانية :
من أربعينيات وحتى ستينيات القرن الماضي شهدت الدول العربية انعتاقا من نير الاستعمار الأوروبي العسكري الحديث ورافق ذلك العهد روح وطنية وقومية جارفة رافقها استقطاب جماهيري كبير تجاوز الحدود القطرية ، وكان في ذلك تماشيا مع الاحتكاك المباشر بالحضارة الغربية والنظريات القومية التي سادت فيه لعقود سابقة
واكتسبت التجارب القومية في البلدان العربية (في مصر و في العراق وسوريا الجزائر ومن ثمة في ليبيا ) صفة الأنظمة العلمانية ورفعت لواء محاربة الإسلام السياسي والتدين الطاغي وطرحت شعارات قومية وحدوية اشتراكية شاملة معتبرة الإسلام تراث يستضاء به ويبقى حبيس التاريخ والعلاقات الاجتماعية المحدودة. ولم تمضي سنوات حتى ذاقت الشعوب الويلات من تخبط تلك التجارب واستبدادها وفسادها ,على درجات متفاوتة بينها لكنها بالمجمل لم تبق في ذاكرة الناس أثرا طيبا لتوالي هزائمها في صراعها الخارجي ـ وإخفاقها الداخلي تنمويا و ثقافيا وفشلها في تحقيق أهدافها المعلنة و بعدها العملي عن الشعارات التي رفعتها رايات و أعلام . وإن حققت تلك الأنظمة بعض النجاحات الإقليمية في ظل ظروف دولية خاصة لكن فشلها الأهم كان في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي وعجزها الكبير في تحقيق العدالة والتنمية ففقدت صدقيتها ورصيدها الشعبي وتفاقمت علاقتها السيئة بأبناء بلدانها .
وفي خضم ذلك الجو السياسي المشحون نمت تيارات ثقافية ليبرالية كانت متواجدة و ناشئة في العهد الاستعماري وكان لها روادها أمثال : أحمد لطفي السيد في مصر وعبد الرحمن الشهبندر في سوريا وغيرهم ، إلا أنها لم تستمر في عهد أنظمة حكم توليتا رية فضلا عن توفر خلل في منظور رؤيتها للعلاقة بالغرب كأنموذج يحتذى نقلا و تقليدا، ولم تتمكن المشاريع الثقافية الليبرالية من فك دائرة مغادرة النخب الثقافية ولم تستطع الوصول إلى شرائح واسعة من الناس بل على العكس كان ارتباطها الفكري بالأنظمة الشبه علمانية الحاكمة سببا إضافيا أفقدها رصيدها الشعبي الضعيف أساسا. كل تلك الظروف هيأت الأجواء العامة للبحث عن بدائل وتجريب أفكار وقيم مختلفة أو متعارضة مع النهج العلماني المعلن، فكانت العودة إلى الفكر الأصولي بحثا عن حلول وسعيا وراء نماذج جديدة لم يتم تجربتها وتطورت العودة لظروف كثيرة شرحناها سابقا إلى تقمص لأفكار متطرفة ومتشددة .
ولم يجد التيار الأصولي صعوبة كبيرة في الوصول إلى أذهان وقلوب وعقول الشعوب بسبب رصيده التاريخي القديم والإيمان المسبق بمبادئه ومعتقداته مما أعطاه الثقة قبل الاقتناع والتجربة .
ولم تستطع العلمانية الوطنية المعارضة الوصول إلى الجماهير كونها لا تملك سنداً تاريخياً ، ولقصر التجربة الزمنية التي شاركت فيها الحكم ( فترة الحكم الوطني في سورية بعد الاستقلال ، وفترة الحكم الملكي في العراق قبل ثورة البعث ) و تم طمسها وتجاوزها وقهرها بفعل الانقلابات العسكرية والثورية التي أحكمت السيطرة على البلاد والعباد. ولم تمتلك العلمانية الوطنية حلولاً جاهزة للأزمات القائمة والمشاكل المزمنة والمتمثلة في الفقر والتخلف والظلم الاجتماعي ولم تتمكن في سنين سابقة من فصل أطروحاتها عن الأنظمة فزاد جفاء الناس لها وانحسر تأثيرها أمام التيار الديني الجارف الأثر النفسي للكشوف العلمية :
لا يمكن إرجاع ظاهرة انتشار التزمت والتشدد بين الشعوب العربية والإسلامية إلى أسباب علمية بحتة كما يدعي رواد الإعجاز العلمي القرآني و النبوي و الإمامي ، أي لا يصح تأكيد ارتباط الصحوة الإسلامية بالتوافق المزعوم بين المكتشفات و الابتكارات العلمية العصرية و بين المنقول النصي، ذلك أن المكشوفات العلمية الحديثة عن الإنسان والكون لم تأتِ داعمة للتوجهات والمطروحات الدينية في نفس المجال ـ راجع كتاب " وهم الإعجاز العلمي " للدكتور خالد منتصر ـ بل على العكس من ذلك استطاع العلم بطريقته وأسلوبه ومنهجه الخاص المعتمد على التجربة والاكتشافات الجديدة في الفضاء والأرض تعميق الهوة بين العقل الإنساني المجرد و التفكير الديني المرتبط بالغيبيات و النبوءات الحتمية وأكدت دراسات الأنثروبولوجيا تبايناً عميقا بينهما ـ راجع كتاب الأنثروبولوجيا للدكتور عدنان أحمد مسلم " أصل الإنسان في ميثولوجيا الشعوب وفي العلم " ـ وجاءت ثورة الاتصالات ومنجزات علم الجينولوجيا و الاستنساخ لتضيف رصيدا جديدا للفكر الإنساني المستند إلى المنهج العلمي والمؤمن بقدرة العقل البشري على إيجاد النظم و التشريعات التي تحكم حياته وتنظم علاقاته بالآخرين أفراد وجماعات .
إلا أن ردة فعل العقل العربي الإسلامي السائد ـ وليس الأصيل ـ حيال التطور العلمي الذي شهده الكون كانت عكسية تماما ودفعت نحو مزيد من التدين والتمسك بمظاهر التعصب والانغلاق و اللجوء إلى الغيبيات لحل المشاكل والأزمات ، وربما يكون الشعور الحقيقي بالهزيمة تجاه التقدم الهائل للعلم انعكس خوفا شديدا على فقدان القيمة الوجدانية للمعتقدات والمسلمات المسيطرة فكان الحل بالتهام المكشوفات العلمية الفلكية الحديثة و أسلمتها أي إخراجها من تجردها .
هذا الخوف النفسي خلف قلقا وجدانيا مستمرا حيال الثورة العلمية الهائلة المتمثلة في المكشوفات الجديدة والنجاحات المهمة في مجالات قريبة الصلة بالغيبيات ، وأفرز إحساسا بخطر يتعرض لبعض أركان الدين بفعل المعول العلمي وإزاء ذلك الخوف والقلق والخطر ، لم يعد التظاهر باحترام المعتقدات والبديهيات و تقديسها و التعامل مع ما تفرضه من التزامات بلامبالاة ومن ثمة مخالفتها عمليا مع الاحتفاظ بالقناعة بصدقيتها وصوابيتها أمرا مقبولا.
فالخشية إذن قوية ولا بد من تأكيد المعتقدات والغيبيات باحترام ما تفرضه من سلوك و تعاليم و مناهج ، ولا يكون ذلك إلا بدعم العقائد بالأعمال، بما يستوجب إبراز مظاهر التدين المبالغ فيه وتأكيد السلوكيات التي توحي بتعامل جدي وصارم مع الواجبات والفرائض والمندوبات التي تدعو إليها الشريعة ويأمر بها الفقهاء ، حيث لم يعد الاحترام والتقديس و التعظيم الوجداني والعقائدي كافيا للحفاظ على هوية الأمة وحمايتها من منطلق أيديولوجي مغلق ، فكان من الضروري الالتزام بالتشريعات والقوانين والنظم الدينية الحاكمة لكل مناحي وسبل الحياة، وهذا يعني إفساح المجال كاملا لعلماء الدين والمشايخ للتدخل في تفاصيل الحياة اليومية العامة والخاصة وتأكيد الرقابة على الفكر والإبداع وتقيد الحريات المختلفة بالضوابط المشددة ، وهذا بدوره شجع على انتشار وسيطرة التشدد على الفكر والعمل .
خلاصة ونتائج :
إن انتشار وتوسع مظاهر التشدد والتزمت الديني في البلاد العربية والإسلامية خاصة و في دول العالم الأخرى ، ليست ظاهرة غيبية قدرية ترتبط بمستويات الإيمان و معجزات النصر و الهزيمة لا تبررها تفسيرات ما ورائية تدخلها في سياق الوعود و حتميات المعتقد، إنما هي محصلة ونتيجة لمجموعة عوامل وظروف موضوعية وتاريخية نمت و ترعرعت في ظل أحوال اجتماعية و سياسية محلية و إقليمية تتداخل فيها تأثيرات الخارج بالداخل و تعقيدات الهوية و الانتماء و تحقيق الذات ، تخضع للبحث والتأويل العلمي و المعرفي . وهي إحدى تجليات الصراع الحضاري بين الغالب و المغلوب بين القوي و الضعيف من الأمم و الشعوب ، تمثل في أحد و وجوهها ردة الفعل حيال الظلم و الهزيمة المقترن بضياع الكرامة و خبو الأمل .
ويمكننا إجمال العوامل المنشطة المرافقة و الظروف المهيأة لبيئة ملائمة لظهور و تنامي و استمرار تلك الظاهرة بما يلي :
غياب الإعلام الحر والديمقراطية في الفكر والممارسة ، ظهور أنظمة شمولية ساهمت بدعم التيارات الدينية، رغم رفعها لراية العلمانية في بداية استيلاءها على الحكم، بعد وصولها لقناعة بالاستفادة والاستعانة بالفكر والعمل المتطرف بما يخدم بقاءها وتسلطها ، وتزامن ذلك مع تغيب وغياب الفكر الليبرالي وثقافة الانفتاح على الآخر. وحصر ثقافة التسامح بالمتفق أو المتوافق .
الأخطاء و الجرائم التي ارتكبتها الحضارة الغربية من عهد الاستعمار الأول ـ الرق وتجارة العبيد ـ إلى عهد الاستعمار العسكري بعد الحرب العالمية الأولى والفشل أو عدم قدرة الغرب على تفهم حقيقة الفكر الديني وعدم قدرته على احتواء ودمج المهاجرين إليه بالمجتمعات الغربية ، مع أخطائها الفادحة في ترك الشعوب نهبة للاستبداد ودعمها للاستقرار الهدام على حساب غياب الحرية والديمقراطية والتستر على انتهاك حقوق الإنسان عبر عقود طويلة من الزمن ، عودة ظهور الاحتلال العسكري المباشر عبر احتلال العراق و ما رافقه من فشل و عجز عن إقرار الأمن و المصالحة السياسية و تفش الفتن و الصراعات الطائفية المفتعلة .
التراث المذهبي والفقهي الإسلامي التقليدي الذي اشتمل إلى جانبه التنويري والحضاري على مكونات مكرسة ومرسخة للعنف والتطرف والتزمت، وكذلك الإرث الثقافي القومي المنغلق وتجزر الوعي القبائلي والعشائري في المنظومة العقلية والفكرية للمجتمعات العربية و اختلاط مفاهيم الوطنية بالعداء للآخر وتغليب مفاهيم الإقصاء و العزل .
كان ذلك في مقابل عجز وعدم جرأة النخبة الدينية والليبرالية على كسر حاجز الخوف والخروج على المتعارف عليه وتخطئة الموروث وطرح أفكار التجديد وتبني تفاسير وشروح أكثر حداثة وعصرنه، وإخضاع للاجتهاد والفتوى للتوجهات السياسية للحكام و المزاج العام للتيار الشعبوي الديني .
الاعتقاد الفكري الراسخ لدى العامة والنخبة من أبناء الأمة بأنها الأفضل و الأكمل و الأكرم والأخير، حاضرا وماضيا ومستقبلا من بين أمم الأرض وتسبب ذلك في تجنب نقد الذات والموقف المتكبر والمتعالي تجاه الآخرين خاصة وأن الأمة تستند إلى المرجعية المقدسة فيما تدعيه وتزعمه .
عزوف المجتمعات العربية عن ولوج الحداثة في الفكر والسلوك ، والخشية من الذوبان وضياع القيم والعادات والتقاليد من جراء اختلاط المسلمين بالحضارة الغربية عبر الهجرة وثورة الاتصالات، مع الجهل بحضارات الآخرين وإنجازاتهم الإنسانية .
العجز عن اللحاق بالحضارات الأخرى فبينما كنا نظن سالفا أننا قادرون على الالتحاق بهم ومنافستهم ففوجئنا تاليا باستحالة تجاوزهم أو منافستهم أو الاستغناء عنهم، مما خلف إحساسا عميقا بالهزيمة والعجز.
الأوضاع السياسية المتأزمة والقضايا الإقليمية الملتهبة وتفاقمها وعجز الدول الكبرى عن إيجاد حلول لها ، وتنامي دور الفكر الجهادي في الحراك السياسي العربي الذي قدم نفسه بديلا ناجحا عن الجميع ؛ مع تحقيقه للانتصار مباشر في صراعه مع الشيوعية و إنزاله إصابات خطيرة بالغرب
الهزائم المتوالية وفشل الأنظمة والتيارات القومية والاشتراكية والعلمانية والليبرالية العربية السائدة وحصد الشعوب المزيد من الظلم والتخلف والفقر .
ساهمت الطفرة المادية النفطية العربية إلى حد بعيد في تطور أشكال الالتزام الديني حيث أصبح النموذج السعودي أكثر سيطرة ورواجا، ووجد العديد من الأثرياء العرب الفرصة متاحة للتقرب إلى الله بدعم الدعاة وتصديرهم إلى كافة دول العالم والمساهمة في إنشاء وبناء المؤسسات الشرعية بدون قيود أو ضوابط ،في حين استغل الغلاة والمتطرفون ذلك الدعم وجيروه لصالحهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا