الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الصراع الاجتماعي الراهن في السودان

محمد عادل زكى

2019 / 4 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات




يحكى، بتواتر، أن التاريخ السياسي المعاصر للسودان (أي الأراضى التي كان تضم مجموعات متجانسة من البشر، وإنما تتمتع كل واحدة منها باستقلالها، على الأقل ثقافياً وتاريخياً، عن الأخرى) يبدأ بنشوء كيانين: مملكة الفونج، وعاصمتها سنار، وسلطنة دار فور وعاصمتها الفاشر. الأولى في عام 1504 والأخيرة في عام 1650. وقد اشترك الكيانان من الناحية المؤسسية بالعديد من المزايا مع الممالك الآخرى، مثل مملكة وداي فيما يعرف اليوم بالتشاد، ومملكة كانم ومملكة بورنو، شمال شرق بحيرة تشاد(1) عبر السفانا الأفريقية السهلية، التي تمتد من البحر الأحمر في الشرق إلى نهر السنغال في الغرب؛ ودول مثل أوغندا وبونيورو- كيتارا في الجنوب. ويشير المؤرخون المعاصرون، كما يقول الدكتور محمود ممداني، إلى هذه الكيانات باسم الدول السودانية.(2)
ولقد ذكر عبد الله حسين، في عام 1934، أن قبائل السودان كثيرة جداً، وأرجع أصولها إلى: الزنوج. والبجه. والعرب. والنوبة والمولدون والمهاجرون، وذهب إلى القول أن الزنوج قبائل كثيرة منها الشلك غربي النيل الأبيض عند بحيرة نو، يعيشون في قرى متسلسلة لكل قرية شيخ ولكل مجموع من القرى ناظر. وأفرادها أقوياء وشجعان وطوال. والدنكا شرق النيل الأبيض سود الوجوه، وهم أجمل الزنوج شكلاً. والنوير بين بحر سبت وبحر الغزال في منطقة السدود والمستنقعات ويسكنون الجزر، ثم قبائل الباري والمادي واللاتوكا والمكارك والجانقي والبنقو والقولو والجور والأجار والديور والشيرى والنيام نيام والفراتيت والنوبة، وأفراد النوبة يسكنون جنوبي كردفان، وأجسامهم عارية، ويشتغل الزنوج بالصيد، ويربون البقر والماشية. ولكل قبيلة لغة ومذهب وديانتهم الطبيعة. أو هم لا دين لهم.(3(
كما ذكر حسين أن البجة أو البجاة هم سكان الصحراء الشرقية بين النيل والبحر الأحمر من بقايا شعوب إيتوبيا القديمة ويقال إنهم من سلالة أولاد كوش بن حام الذين هاجروا إلى السودان بعد الطوفان، ويقول المؤرخون أن البجة كانوا وثنيين ثم أصبحوا مسلمين عند هجرة العرب إلى أفريقيا. ومن قبائل البجه العبابدة، ويتصلون بأسوان، والبشاريين أو البشارية من القصير حتى سواكن والأمرار. والهدندوة وهم أقوى البجة وأكثرهم عدداً يسكنون الصحراء بين خور بركة والعطبرة وطريق بربر وسواكن. ثم قبائل بنى عامر والحباب.ثم يذكر عبد الله حسين النوبة بقوله: هم الذين يسمون أحياناً البرابرة ما بين الشلال الأول والشلال الرابع، وهم خليط من النوبيين الأصليين والعرب والترك. أما العرب: فهم الذين سكنوا السودان بعد الإسلام، وهم أكثر سكان السودان عدداً وأوفرهم حضارة وذكاء وعلماً. وأشهر قبائل العرب هى قبائل الشايقية والمناصير والرباطاب والميرفاب والجعليين والجميعاب والسروراب والعابدلاب والجموعية والحسنات ودغيم وكنانة والرفاعية والمسلمية والكواهلة والحلاوية، ثم المدنيون والعراكيون والشامباتة والعقليون والقواسمة واللحويون وبنو حسين والزبالغة، ثم الفونج وهم الذين أسسوا مملكة سنار القديمة مع العبدلاب ويدعون النسب إلى بنى أمية. (4 (ولسوف ندرس لاحقاً بتفصيل أكبر هذه التكوينات الاجتماعية المتنوعة.
الصراع على الأرض
أياَ يكن، فإن الأرض هى محل الصراع والاقتتال، وبصفة خاصة فى أجزاء الغرب، وهو الأمر الذى يدفعنا إلى فحص المسألة، مسألة الأرض، بالرجوع قليلاً إلى ما قبل عام 1821، فبإلقاء النظر على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، فى سياق التطور التاريخى، قبل 1821، نستطيع أن نستخلص مجموعة من الملاحظات بشأن الأرض، أهم تلك الملاحظات أن الأرض دائماً ما كانت محل تملك إقطاعى للحاكم، ففى النوبة السفلى خضعت الأرض للقانون العثمانى الذى كان يقضى بملكية السلطان لجميع الأراضى الداخلة فى حدود السلطنة، مع عدم الإعتراف بنقل الملكية بالميراث، فإن الفلاح ليس له سوى حق انتفاع يقوم فى مقابله بدفع ضريبة إلى الحاكم الذى تقع الأرض بداخل دائرة نفوذه، وأما دنقله فقد كانت خاضعة للسيادة السنارية ولنظامها الاقتصادى الذى تقوم فيه ملكية الأرض على النظام القبلى الذى كان سائداً فى النوبة العليا، ومضمون هذا النظام، والذى نشأ وسط ممالك صغيرة، أنه كان قائماً على أنقاض الممالك والدويلات المسيحية أو الوثنية التى كان نظام ملكية الأرض فيها يستند أساساً على النظام الإقطاعى المطلق، حيث كان رئيس الدولة أو المملكة هو المالك لجميع الأراضى فيما عدا الأراضى الموقوفة على المعابد، وما أن أتت الهجرات العربية وحدث شىء من التطور فى حياة المجتمع إلا وأصبحت الأرض توزع على الجماعة ويقوم أفرادها باستغلالها فى مقابل قيامهم بدفع الجعائل لشيخ القبيلة أو زعيم الدار.(5)
وفى حوض النيل الأزرق وأرض الجزيرة كان الإقطاع أيضاً هو الأسلوب المهيمن فى علاقات الملكية، وعادة ما يتم التمييز بين ثلاثة أنواع من هذه الإقطاعات فى الأراضى التى خضعت خضوعاً مباشراً للفونج، الأول: ويسمى بالإقطاع العسكرى الذى خصص لقادة الجيش ليكون معاشهم ومعاش جنودهم منها، إذ لم يكن لهؤلاء القادة العسكريين مرتبات ثابتة، وقد كان لهؤلاء القادة فى زمن السلطنة السنارية مجموعة من المقاطعات الممنوحة لهم مع بقاء الملكية للسلطان، وبالإضافة إلى الأرض كان للقادة نصيب محدد فى غنائم الغزوات التى يقومون بشنها على الزنوج. والنوع الثانى: فيمكن تسميته بالإقطاع الدينى، إذ حرص ملوك الفونج على تدعيم ملكهم دينياً وثقافياً فأظهروا إحترامهم لعلماء المسلمين، وهيأوا للمتصوفة مناخاً طيباً فى البلاد فجاؤا إلى سنار، ومنح هؤلاء العلماء إقطاعات معفاة من الضرائب أو أية إلتزامات أخرى. أما النوع الثالث من هذه الإقطاعات فكان خاصاً بالأفراد العاديين، إذ يقوم مشايخ القرى بتوزيع الأراضى على المزارعين لقاء ضريبة تُحدد حسب المحصول، وكان هناك مندوبون عن السلطان مكلفين بتسوية الحساب مع المشايخ وتسلُم مستحقات السلطان. ولقد كان من حق صاحب الإقطاع تأجير الأرض وتوريثها من بعده لذريته، بيد أن انتقال الحق على هذا النحو إنما يشترط أن يتم من خلال الموافقة عليه من قبل السلطة المركزية التى هى المالكة الأصلية للأرض.
2- القاعدة السكانية المتنوعة
استند البناء الاجتماعى فى السودان منذ النشاة الاستعمارية، على قاعدة سكانية متنوعة قوامها القبيلة، فمن بجا فى الشرق على ساحل البحر الأحمر، إلى نوبيين فى الشمال، فقبائل عربية على طول نهر النيل، وقبائل أخرى متفرقة فى أرجاء الإقليم، إلى مجموعات سكانية زنجية وعربية بدارفور وكردفان، وزنجية خالصة فى الجنوب. تشكل البناء الاجتماعى.
ويمكن، فى تقديرى، اعتبار المجتمع السودانى فى مجموعه مجتمعاً من الرعاة؛ إذ كان الرعى هو الحرفة الأساسية لغالبية السكان، على اختلاف الأنواع التى يتم من خلالها ذلك النشاط الاقتصادى فى المجتمع، فهناك الرعى اليومى، كما أن هناك الرعى الموسمى، وساعدت تلك الحرفة التى هيمنت على مجمل النشاط على التقارب والتفاعل، وكذلك اندلاع حروب ليس لها نهاية ما بين القبائل والأعراق المختلفة، إذ كان التحرك والانتقال من بقعة إلى أخرى هو السمة البارزة فى حياة رعاة السودان بحثاً عن الماء والكلأ، على العكس من الذين يشتغلون بالنشاط الزراعى، كالنوبيين مثلاً، حيث الاستقرار بجانب الأرض هو الشرط الأساسى فى سبيل إتمام تلك العملية الإنتاجية القائمة على النشاط الزراعى.
ولم يكن بالأمر الهين أن يتطور المجتمع السودانى وإقتصاده فى المرحلة السابقة على السلطة المركزية على يد الاحتلال المصرى، ثم المصرى/البريطانى؛ فقد كان الشكل البدائى للتنظيم الاجتماعى يلفظ تماماً أى تطور يلحق به خارج نطاق القبيلة، ومن ثم كان التفكك السياسى والإدارى، وبمعنى أدق عدم وجود ترابط سياسى وإدارى، هو الحال المسيطر على مجمل الوضع الاجتماعى قبل خضوع المجتمع لإدارة واحدة منذ عام 1821، فلما خضعت أصبح لهذه الإدارة الجديدة سياسة اقتصادية تستمد نظمها وقوانينها من مثيلتها فى مصر، وتعتمد بالأساس على استغلال الموارد الهائلة فى المجتمع، وتتضح هذه السياسة بجلاء شديد، كما يشير د. حمدنا الله مصطفى، فى خطاب محمد على، إلى بعض المشايخ والزعماء السودانيين، نقلاً عن المحفوظ بدار الوثائق القومية بالقلعة، فى القاهرة، حيث جاء فى الخطاب:
"إنه لا ينقصكم شيئاً لكى تنجحوا فلديكم الأراضى الواسعة، كما عندكم الكثير من الماشية والغابات الشاسعة، وشعبكم كثير العدد كما أن رجالكم أقوياء أشداء ونساءكم كثيرات الولادة. وقد كنتم حتى هذا الوقت بدون مرشد يقودكم ويأخذ بيدكم، ولكن ها هو جاءكم هذا المرشد، وهذا المرشد هو أنا فأطيعونى واعملوا بنصائحى وحسب إرشاداتى، وسوف أقودكم إلى المدنية وأجلب لكم الرخاء. . إن مصر ليست بالإقليم الواسع المترامى الأطراف ولكنها بفضل العمل والصناعة وبفضل نشاط سكانها أصبحت عظيمة وسوف تصبح أغنى من ذى قبل، وهذا أيضاً معروف عن كافة البلاد الأخرى. وإذا صرفنا النظر عن مشارق السودان ومغاربه واكتفينا بجزيرة سنار، لرأينا أنها من جهة الرقعة (أكثر من عشرة أضعاف مساحة مصر!) ولكنها لا تُنتِج شيئاً، لأن سكانها كسالى لا يميلون إلى العمل. وإن الانسان إذا توانى ولم يسع لن ينال المقصود. ضعوا فى رؤسكم جيداً أنكم بدون عمل لا تستطيعون أن تحصلوا على شىء" (6)
ووفقاً للتصنيف الاستعمارى البريطانى، والذى تعامل مع الجنوب كامتداد طبيعى للمستعمرات البريطانية فى شرق القارة، كما تعامل مع الشمال كامتداد طبيعى لمصر. فقد تم تقسيم المجتمع السودانى(عقب ترسيم حدوده الاستعمارية) إلى خمس طبقات متميزة:
- الطبقة الأولى: وتَضم، بالضرورة، المستعمِر، أصحاب الجنسية البريطانية.
- ويَحتل أصحاب الجنسيات الأوروبية الأخرى، العاملين فى السودان المرتبة التالية مباشرة.
- أما أصحاب الجنسية المصرية والجوالى الشرقية الأخرى، فيأتون فى الترتيب الطبقى الثالث.
- ثم، فى الطبقة الرابعة، سكان النهر، ويُعرفون بإسم الجلابة الشماليين. وكانوا الطبقة الأولى مِن السكان السودانين.
- وأخيراً الأهالى، وهم الطبقة الثانية مِن سكان السودان ويُمثلون الطبقة الخامسة
3- التصنيف الطبقى بعد الاستقلال
بينما قَدم التصنيف الاستعمارى الطبقات الثلاث الأولى(بريطانى، أوروبى، مصرى وشرقى) فى التعامل والوظائف، فإنه قام، فى نفس الوقت، بتقسيم السودان إلى شطرين(فى الواقع طبقتين) هما جلابة الشمال، مِن جهة، وباقى الشعب مِن جهة أخرى. ولم تَتَغير تلك الطبقية فى السودان بَعد الخروج الشكلّى للاستعمار البريطانى فى 1956، فلم تزل الطبقية مُهيمنة تحت ظِلال القمع والقهر والجوع والفقر والمرض، وإن حَدث التعديل على النحو التالى:
الطبقة الأولى: الشماليون، ويُمثلون نحو 4% مِن إجمالى السكان، وهم مَن بيدهم السلطة والثروة ويديرون الدولة ويتحكمون فى الطبقات الأخرى، وهم جلابة الشمال (أسهموا بدور فعال فى نقل الكثير من المناطق الجغرافية السودانية مِن الاقتصاد المعاشى إلى اقتصاد السوق) فى التصنيف الاستعمارى البريطانى، إذ يُسيطر الشماليون (كطبقات تابعة للرأسمال الدولى) على دواوين الحكم وإدارة المؤسسات بالدولة، وللتعاون الذى حدث بين جلابة الشمال والاحتلال البريطانى؛ فقد تكفل الاحتلال بتأهيلهم وتعليمهم هم وأبنائهم. وتم تسليم الأمر إليهم بموجب مؤتمر جوبا عام 1947.
يلى جلابةَ الشمال أو النخبةَ أهل الصفوة، الجاليات الشرقية، ويُطلق عليهم (الحلب) وهم يشاركون الطبقة الأولى فى الهيمنة على الثروة. ويبلغ نسبة الحلب 1% من نسبة السكان، وهم ذوو البشرة البيضاء فى الغالب. وهم المسيطرُون على التجارة الإجمالية فى السودان، ويُديرون المصارف، وشركات التصدير والاستيراد. وتُعتبر الحلب طبقة غاية فى الثراء، وتَجد صعوبة بالغة فى الانسجام مع باقى طبقات الشعب. ويُمثل الأقباط المصريون والسوريون الغالبية فيها.
يَلى الجلابةَ والحلب، العربُ السود أو الأفارقة مِن ذوى الأصول العربية، كَطبقة ثالثة، وتَبلغ نسبة العرب السود أو الأفارقة مِن ذوى الأصول العربية نحو 20% مِن سكان السودان وهم مِن ذوى البشرة السمراء فى الغالب. والعِرق الزنجى ما يميزهم. ومُعظمهم رعاة إبل أو أبقار وأغنام، ويعيشون على هامش المجتمع السودانى، إذ يعيشون فى وضع اجتماعى واقتصادى بدائى متخلف. وينتشرون فى الأقاليم الطرفية فى السهول الغربية والوسطى وفى الشرق، ولا يشاركون فى الدولة السلطة أو الثروة بشىء على الإطلاق، وغالبية العرب يعيشون بدو فى الشرق، فى حالة رفض للدولة، ومع ذلك فقد تم استخدامهم كجنود مرتزقة فى حرب الإبادة ضد الجنوب، كما استخدمتهم الدولة فى حربها فى إقليم دارفور، فالعرب السود، كما تردد الآلة الإعلامية، يُمثلون القسم الغالب مِن مرتزقة "الجنجويد" المتهمين بارتكاب جرائم فى حق السكان الأصليين تصل إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.
وفى الطبقة الرابعة. يأتى الزنج المسلمون، وهم مِن السكان الأصليين مِن ذوى الثقافة العربية. ويَبلغ نسبة الزنج المسلمين 50% وعلى الرغم مِن غالبيتهم العددية فإنهم يتميزون بالجهل والفقر الشديدين، ويتشاركون مع العرب السود فى طريقة التدين والتمازج العرقى. ويتصف الإسلام السودانى ببعد صوفى امتزج بالطرق الدينية المتعددة ذات الصلة بغرب أفريقيا، وتُعدّ تلك الطبقة مِن أكثر الطبقات تميزاً فى الاضطهاد والفصل العنصرى، كأحد مظاهر الصراع الطبقى، إلى جانب كونهم شديدى الجهل والفقر.
وفى نهاية التراتبية الاجتماعية، يأتى الزنج من غير المسلمين، وهم كذلك مِن السكان الأصليين. ويمثلون نحو 25% مِن السكان، وغالبيتهم يَسكنون الغابات الجنوبية والجبال الوسطى. وبوجه عام يشكّل الزنوج مِن المسلمين وغير المسلمين الأغلبية السكانية. ولا يُمكن تبرئة (الزنج المسلمون) مِن التعاون مع جلابة الشمال فى حرب الخمسين عاماً ضد الجنوب، ولربما كانت هناك خطة سرية مِن الطبقة الأولى وتشاركها بقية الطبقات فى إبادة الطبقة الخامسة ومحوها مِن الوجود. هكذا يَعتقد الزنوج غير المسلمين فى الشطر الجنوبى. إذ تعتبر الطبقة الخامسة طبقة منبوذة اجتماعياً، ولا يَربط بينها وبين الطبقة الأولى أى رابط، مما دفع بذلك الشطر الجنوبى إلى الانفصال!
4- التصنيف القبلى
ومِن جهة التصنيف القبلى(7)؛ ثمة 9 مجموعات قبلية تَنحصر فى داخلها التشكيلات الاجتماعية:
- مجموعة قبائل البجا فى الشرق.
- مجموعة القبائل النوبية فى أقصى الشمال.
- مجموعة القبائل العربية فى الوسط والنيل الأبيض وجزء مِن الإقليم الشمالى.
- مجموعة قبائل كردفان فى الغرب.
- مجموعة قبائل الفور فى الغرب (100% يدينون بالإسلام).
- مجموعة قبائل المابات والانقاسنا جنوب النيل الأزرق.
- مجموعة القبائل النوباوية فى النصف الأسفل لوسط السودان(تابعة إدارياً لإقليم كردفان)
- مجموعة القبائل النيلية الجنوبية (دنكا، شُلك، نوير) فى الجنوب.
- مجموعة القبائل الزنجية الجنوبية فى الجنوب.
(أ) البجا(8)
تعدّ"البجا"من أقدم المجموعات البشرية التى سكنت الأرض، لا الأرض السودانية فقط، وإنما الأرض قاطبة، وهم يشغلون الأراضى الواقعة بين البحر الأحمر شرقاً وبين نهر عطبره ثم النيل غرباً، ومن المنحدرات الشمالية للهضبة الحبشية جنوباً إلى نهاية حدود محافظة أسوان (الحالية) شمالاً.
وتنقسم البجا إلى أربعة أقسام رئيسية، ويمكن أن نطلق على كل قسم منها إسم قبيلة وهى: "البشاريون" فى الشمال، و"الأمرار"، و"الهدندوا" فى الجنوب، و"بنى عامر" فى الجنوب الشرقى حيث تمتد أوطانهم من طوكر فى الشمال إلى داخل حدود إريتريا جنوباً.
(ب) النوبيون(9)
سكن النوبيون الأراضى المحاذية لنهر النيل، من شمال أسوان حالياً إلى بلدتى الدبة وكورتى، ويعتبرهم الجغرافيون من الشعوب النهرية التى تلتزم بمجاورة وادى النيل التزاماً شديداً، وذلك بسبب اشتغالهم بالزراعة من جهة، ولأن الصحراء المتاخمة للنهر شرقاً وغرباً قد أرغمتهم منذ زمن طويل على أن يظلوا ملتزمين بمجاورة النهر والمساحات القليلة الصالحة للزراعة، التى تحف نهر النيل.
(ج) القبائل العربية
انتقل العرب من شبه الجزيرة العربية عبر البحر الأحمر شرقاً، أو من مصر شمالاً، منذ الحكم الطولونى، بنفس التقسيم المشهور: العرب "العاربة" والعرب "المستعربة"، أو"القحطانيون" و"العدنانيون"، إذ مثَّل "الجعليون" القسم العدنانى، ومثّلت القبائل"الجهنية" القسم القحطانى، بالإضافة إلى "الكواهلة".
(1) الجعليون
تُعتبر قبيلة الجعليين من أكبر القبائل العربية التى وصلت إلى السودان فى بدايات القرن السادس. وقد استوطنت نهر النيل فى المنطقة التى تقع شمال الخرطوم من الشلال السادس(السبلوقة). وتُعتبر مدينة شندى عاصمتهم التاريخية وكذلك مدينة المتمة. وقد اشتهر أفراد هذه القبيلة بأنهم كانوا يمتهنون الزراعة والتجارة، وهذه الأخيرة قادتهم إلى الهجرة داخل السودان نفسه. وقد انتشروا فى كل مدن السودان، ولا نجد، تقريباً، مدينة فى السودان تخلو من الجعليين.
وتمتد أرض هذه المجموعة الكبيرة من القبائل العربية من دنقلة فى الشمال إلى أراضى الدنكا فى الجنوب، وقد فرضت تلك القبائل نفوذها، على الوادى بأكمله، إلا فى أطرافه الشمالية حيث "الدناقلة"، وفى الجنوب حيث "البقارة"ـ وينتسب"الجعليون" إلى إبراهيم الملقب بـ"جعل" وهو تبعاً للمرويات التاريخية ابن سعد بن فضل بن عبد الله بن عباس عم النبى(صلى الله عليه وسلم) أى إن الجعليين ينتسبون، وفقاً لذلك، إلى الأصل الهاشمى، ولذلك فإنهم يسمون أحياناً بالمجموعة العباسية، وتشتمل "الجعلية" على مجموعة قبائل(70)، منها: القبيلة التى أخذت الأسم،"الجعليين"، وهى الأكبر حجماً أرضاً وسكاناً، و"الميرفاب" التى يسكن أفرادها فى الشمال من عطبرة، حول بربر. وأيضاً: الرباطاب والمناصير، والشايقية، والجوابرة .
(2) الجهنيون(71)
وهم المجموعة الثانية الكبيرة من القبائل العربية فى السودان، وتُرجع القبائل الجهنية فى السودان نسبها إلى عبد الله الجهنى الصحابى، ولم تتركز فى السودان فى منطقة واحدة، مثل "الجعليين" الذين تركزوا فى الإقليم النهرى، بل انتشرت فى الشرق وفى الغرب، وربما يعود ذلك إلى أن هجراتهم كانت متفرقة زماناً ومكاناً. ويتوزع"الجهنيون" بين ثلاث مجموعات: "مجموعة رفاعة"، و"مجموعة فزازة"، ومجموعة "الدويحية"، و"المسلمية"، و"البقارة"، و"المحاميد"، و"الكبابيش"، و"المغاربة"، و"الماهـرية".
ويتركز "الجهنيون الغربيون" فى كردفان، بعكس دارفــور التى يقل عددهم فيها، وهم ينقسمون إلى قسمين كبيرين: رعاة الإبل فى الشمال، مثل "الكبابيش"، وهؤلاء هم "الإبالة"، أما القسم الكبير الثانى، فهم رعاة الأبقار، ويسمون بـ" البقارة"، وهذا الاسم لا يطلق إلا عليهم على الرغم من عدم انفرادهم بتلك الحرفة. ومن أشهر قبائل "البقارة" فى كردفان "بنو سليم" على النيل الأبيض، و"أولاد حميد" وفرع من "الهبانية" و"الحوازمة"، ثم" المسيرية" وأخيراً "الحمر" فى الركن الجنوبى الغربى من كردفان.
أما الجزء الذى يعيش فى دارفور فيتمثل فى: الرزيقات، والهبانية، والتعايشة، وبنى هلبة، وبنى خزام. وكثيراً ما حدث تصادم بين "البقارة" وبين سلطنة دارفور، الأمر الذى أنهكهم مع الوقت، ويبدو أن الحياة التى تعيشها قبيلة البقارة جعلت هذا الصدام أمراً حتمياً لأنها أثناء فصل الجفاف فى آواخر الشتاء تقوم بالنزوح بمواشيها نحو الجنوب للصيد، وتهاجم "الزنوج" وتخطف ماشيتهم، وتتجه فى فصل المطر نحو الشمال هرباً بقطعانهم من الذباب والمستنقعات إلى المرتفعات الشمالية الجافة، التى يقول الدارفوريون أنها ملك لهم، ومن ثم كان القتال هو السبيل الوحيد للحسم.
(3) البقارة
وهى قبيلة سودانية كبيرة مشهورة برعى البقر وتُطلَق اللفظة على رعاة البقر عامة وان لم يكونوا من قبيلة البقارة وفروعها ولكنها مخصصة بالقبائل الجهنية فى غرب السودان التى ترعى البقر ومعظمهم فى "كردفان" و"دار فور" وينتسبون إلى جهينة ومعظمهم ينتسب إلى جُنيّد بن أحمد بن بابكر بن العباس وهو من الجعليين الذين هاجروا إلى "كردفان". ومن ثم فهناك "بقارة كردفان" و"بقارة دارفور".
(4) الكواهلة(72)
من المجموعات الصغيرة فى السودان، قياساً بالمجموعة العباسية أو الجهنية، وهم ينسبون فى أُصولهم إلى كاهل بن أسد بن خزيمة، وبالتالى يعدون من عرب الشمال، إلا أنهم منفصلون عن المجموعة الجعلية فى النسب، وقد نزلوا فى وقت متقدم على السواحل السودانية على البحر الأحمر ما بين عيذاب وسواكن، واختلطوا بالبجا وتعلموا لغتهم وصاهروهم واندمجوا فيهم، بحيث لم يعد لهم وجود فى أقاليم البجا كوحدة قبلية مستقلة، وهم بذلك قد حملوا النسب العربى للبجا.
وهناك بطون أخرى من بنى كاهل انتقلت من شرقى السودان إلى أقاليم عطبرة والنيل الأزرق، وأخرى إلى النيل الأبيض تسمّى بالكواهلة وأحياناً الحسانية والحسينات.
(د) قبائل إقليم سواحل البحر الأحمر(73)
يُقصد بهذه المجموعات على وجه التحديد جماعات السومال والدناكل والجالا، وتبـدأ أراضى "السومال" مـن المجـرى الأسفـل لنهـر تانا وتتجـه نحـو خليـج عدن، ويقع أكثر تلك الأراضى حالياً فى الأرض الصومالية. كما أن بعضاً منهم يعيش فى الجزء الجنوبى الشرقى من إريتريا، فى منطقة أوجادين، ويعبر فى بعض الأحيان عن السومال بقبائل أولاد عيسى، وتُعدّ قبيلة الدناكل جزءًا من القبائل الواقعة جنوبى هرر، وهناك مئات الأقسام الصغيرة لتلك القبائل المنتشرة فى هذه المناطق.
ويبلغ حالياً عدد السكان، فى إقليم سواحل البحر الأحمر، ثلاثة ملايين نسمة، ويتركزون فى المنطقة الجنوبية والشريط الحدودى مع إريتريا، والجزء الجنوبى من ساحل البحر الأحمر، وترتفع معدلات التركز السكانى فى أربع مدن هى: القضارف، وكسلا، وبورتسودان، وحلفا الجديدة. ويُعتبر سكان المنطقة الساحلية والشريط الحدودى الأكثر نشاطاً وتورطاً فى النزاع فى شرق السودان، كما سنرى. وتوجد فى الإقليم حوالى 7 قبائل رئيسية، بعضها قبائل عربية توجد فى الجزء الداخلى، بينما غير العربية توجد على الشريط الحدودى وساحل البحر الأحمر الجنوبى.
وأبرز القبائل غير العربية تتمثل فى البجا، والهدوندوة، والخاسة، أما القبائل العربية فتتمثل فى بنى عامر، والرشايدة، والبطاحين، والبشاريين.
وجميع سكان الإقليم مسلمون، ويدينون بالولاء التام لطائفة الختمية التى يتزعمها الميرغنى، وتعتبر مدينة كسلا بمثابة المركز الروحى والدينى لها. ويتحدث 50% من سكان الإقليم بلهجاتهم المحلية، ويتحدثون باللغة العربية كلغة ثانية، وقد أدى هذا التباين اللغوى إلى الاحتكاكات والعنف الرمزى الثقافى بين سكان الساحل والشريط الحدودى الذى تغلب عليهم اللهجات، وسكان الجزء الجنوبى، والداخلى الذين يتحدثون العربية.(74)
(هـ) قبائل الجنوب، وأهمها وأشهرها
(1) الدّنكا
الدّنكا هم أكبر المجموعة النيلية، والمجموعة النيلية عموماً جاءت من سفوح الهضبة الأثيوبية واستقرت فى الجزء الجنوبى من منطقة "البيبور" الحالية وكونوا حلقات حول الأنهار، وقد قُسم النيليون إلى قسمين: نيليين ونيليين حاميين، والدّنكا نيلييون، وهم أكبر المجموعات النيلية عدداً وانتشاراً، وقال البعض إنهم ثانى أكبر قبيلة بإفريقيا بعد الماساى فى كينيا وهم يمثلون عُشر مجموع سكان السودان و 4.5% من سكان الجنوب.
ومن الجهة الاقتصادية، تنوعت النشاطات التى يمارسها الدّنكا وإن ظل الرعى هو النشاط السائد؛ فقد عرف الدّنكا صيد الأسماك كحرفة، وصهر الحديد أيضاً، حيث عشائر الحدادين فى الجنوب الشرقى من بحر الغزال، وبلغت مهارتهم حدود ابتكار عملة حديدية توَافق عليها المجتمع فى عمليات التبادل، وتظل الماشية على وجه العموم قوام اقتصاد الدّنكا، وبصفة خاصة البقر، فهى مقياس ثروتهم وفخرهم وعزهم ومصدر سعادتهم وعماد مركزهم الاجتماعى، وبها تُدفع المهور والدّيات.
(2) الشُلك
هى أقل المجموعات تعداداً، وتعيش فى شريط على الضفة الغربية للنيل الأبيض، من كاكا فى الشمال إلى بحيرة نو فى الجنوب.
وقبيلة الشلك ذات نظام سياسى مركزى تحت قيادة ملك أو سلطان يطلقون عليه لقب"الريث"، حيث إنه يجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية فى صيغة مشابهة للتقاليد المصرية الفرعونية القديمة. ويقوم الريث بتفويض بعض سلطاته أحياناً إلى العمد والمشايخ الذين يمثلونه فى الدوائر العشائرية الخاضعة لهم، ويتم تتويجه فى احتفال كبير تنتهى مراسمه فى فشودة عاصمة المملكة، وتنظم طقوسه حدود المملكة كلها.
(3) النوير
قبائل نيلية ينتمى أفرادها مع الدّنكا إلى أصل واحد وجد واحد، وهى ثانية أكبر المجموعة النيلية، إذ تحتل المرتبة الثانية بعد الدّنكا من حيث التعداد السكانى، ثم تليهم الشُلك، وأساطيرها شبه المقدسة لديها تحكى أن جدها الأكبر لانجور عبر النيل الأبيض عند منطقة فاشودة، ثم سار بها إلى شرق ملكال، حيث استقر به المقام هناك، والقبائل هذه تنحدر أصلاً من الجد أبينو ينق، شقيق دينج، وهو جد الدّنكا والنوير فى جميع أنحاء السودان. وتتحدث بلهجة واحدة وأسلوبهم فى الحياة واحد، وتعتقد أن تاريخها يبدأ من منطقة ليج المقدسة لديها، حيث شهدت هذه المنطقة نشأة جميع فصائل النوير التى تفرقت منها إلى جميع مناطقها الحالية، ثم نزحت غرباً حتى استقرت فى منطقة ميوم، ثم اتجهت شرقاً، فسار كثير منهم إلى أكوبوا، وواط، والناصر، وميورد، وإيود. ومن فروع النوير قبائل ليك وجكناج فى محافظة ربكونة، ونوير جقى واروك وادوار ونونق فى محافظة اللير، وفى مركز فنجاك فروع شتى للنوير تمتد إلى داخل الحدود الإثيوبية.
5- ملاحظات حول التكوين الاجتماعى السودانى فى تطوره عبر الزمن
بناءً على ما سبق، يتعيّن الوعى بما يلى:
- عاش السودان، بالمفهوم الذى سبق أن حددناه، وحتى امتداد الإدارة المصرية إليه فى العام 1820، دون حكومة أو إدارة مركزية موحدة، تفرض هيمنتها على الأجزاء المختلفة والمكوّنة للإقليم ككل.
- قامت سلطنة سنار فى السودان الشرقى، وامتد نفوذها من دنقله شمالاً إلى فيزوجلى جنوباً، ومن سواحل البحر الأحمر شرقاً إلى النيل الأبيض وحدود كردفان غرباً.
- انضوت تحت لواء سلطنة سنار منذ القرن السادس عشر الممالك والمشيخات الإسلامية فى حوض النيل الأزرق. وقد ظلت هذه السلطنة الوطنية قائمة حتى أخذ الضعف يدب فى كيانها فى آواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
- ظهرت فى الفترة ذاتها سلطنة عظيمة، هى سلطنة الفونج، ولقد تسربل تاريخ هذه السلطنة بالغموض، والبعض يُرجع ذلك إلى ندرة المصادر الوطنية، ويرجعه البعض الآخر إلى صمت المصادر العربية المعاصرة عن تلك السلطنة، ويُمكن القول إن أصل الفونج لايزال يُشكل إشكالية رئيسية فى تاريخ السودان. وبتلك المثابة تم طرح العديد من النظريات، والتى تفترض رجوع أصل الفونج إلى واحد من ثلاثة بلاد : بلاد الحبشة (إثيوبيا) أو بلاد برونو الواقعة حول بحيرة تشاد، أو بلاد الشُلك على النيل الأبيض.
- قامت فى غرب السودان سلطنة "دارفور" التى عاصرت السلطنة "السنارية". ويرجع الفضل فى تأسيسها، وفقاً لإجماع المؤرخين وعلماء السلالات، إلى العناصر العربية الأصل التى هاجرت من شمال غرب أفريقيا إلى هذا الإقليم، حيث اختلطت بجماعات الفور الزنجية القاطنة هناك.
- بلغت سلطنة "دارفور" أوج عظمتها فى القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر.
- جرت عادة سلاطين الفور على القيام بالحملات العسكرية على المقاطعات الزنجية المجاورة على شكل غزوات، لأغراض اقتصادية، كان أهمها الحصول على الرقيق، وغير ذلك من السلع والغلات ذات القيمة التجارية، وهو ما يمكن اعتباره عملية نهب منظمة.
- ارتكز البنيان السياسى والاقتصادى لسلطنة دارفور على تجارة موسعة للعبيد.
- ظلت دارفور تتمتع بكامل استقلالها حتى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حتى تم إخضاعها للإدارة المصرية عام 1874 على يد الزبير ابن رحمة(75) فى عهد الخديوى إسماعيل.
- قامت فى غرب السودان مملكة تقلى فى المرتفعات التى عُرفت باسمها شمال شرق منطقة الجبال التى تقطنها قبائل "النوبة" فى الركن الجنوبى من إقليم كردفان.
- ومملكة تقلى وإن لم تصل إلى ما وصلت إليه سلطنة الفونج أو سلطنة الفور من اتساع الرقعة وعِظم النفوذ إلا أنه كان لها من الأنظمة والتقاليد الموروثة فى الحكم والإدارة، إلى جانب قوة مركزها التجارى وعلى وجه الخصوص تجارة الرقيق، ما ضمن لها البقاء قروناً من الزمن.
- إلى جانب تلك الممالك والسلطنات، دخلت بعض أجزاء السودان(شمال النوبة) تحت النفوذ التركى ابتداءً من القرن السادس عشر.
- كذلك تمكن الأمراء المماليك، بعد أن زالت دولتهم نهائياً فى مصر على يد محمد على، من دخول السودان الشمالى والسيطرة على دنقله وما حولها فترة من الزمن.
ولكى تكتمل الصورة نسبياً، يتعين أن نشير إلى أن هناك حالة (تُمثل نقطة مركزية فى مجرى التحليل) مِن الاحتقان التاريخى (تدعمها الثقافة القبلية، والنزعة الطائفية) لا يُمكن أبد التعامى عنها؛ تلك الحالة التى تُمثّل الانعكاس القوى والمباشر للإرث العبودى، "المعنوى" وفقاً لتعبير منصور خالد، على أقل تقدير، لكُل مِن الشمال، كأسياد قناصين، والجنوب، كعبيد مقتَنَصين، وليس فى ذلك التصنيف أى نوع مِن الاختزال للتاريخ، فثقافة الرق والعبودية والاسترقاق، مِن جهة، لم تزل ترسم الصورة الاجتماعية الكلية، بين شمال(سيد) وجنوب(عبد) بين أبيض وأسود ومِن جهة أخرى فالحفاظ على نهر النيل وجريانه مِن الجنوب إلى الشمال، كان الأساس الذى ارتكز عليه الاستعمار فى عدم تقسيم السودان إلى شمال وجنوب، والأن يظهر "النفط" عنصراً إضافياً، فإذا كان العرب والزنوج تقاتلوا فى الماضى حول المراعى، فإنهم اليوم يتقاتلون مِن أجل النفط المتمثّل فى احتياطيات تصل إلى ثلاثة مليارات برميل، يقع أغلبها فى منطقة حدودية مُتنازع فيها بين الشمال والجنوب. هى منطقة أبيي.
والسؤال الأن، وبعد الانفصال أيضاً، هو: هل ستترك حكومة الشمال (وهى التى أنفقت فى العام 2000 ثلاثة مليارات دولار، وجندت نحو112500 جندى) الجنوب كى يذهب بنفطه (60% مِن إجمالى نفط السودان، 15% فى دارفور(76)) ؟.
6- الصراع فى الشرق
ليس الصراع فى الجنوب، والغرب، فحسب، بل ينبغى، واستكمالاً للصورة العامة، توجيه النظر ناحية الشــرق أيضاً. فى الإمكان القـــول إن ما بين الصراعات الاجتماعيـــة الملتهبة فى مُجمَل الإقليم السودانى والصراع فى القرن الأفريقى، يبرز الصراع الجدلى كذلك فى الشرق، ويمكننا النظر إلى عدة أطراف رئيسية تلعب الأدوار الحاسمة فى هذا الصراع الذى لا يَقل ضراوة عمّا يَحدث فى الجنوب، وفى دار فور؛ فلقد بلغت الأحوال غير الإنسانية فى الإقليم، مثله مثل باقى الأقاليم، مبلغاً انفجارياً بعد سنوات طوال من الإهمال والنسيان والتهميش، فالنظام المركزى فى العاصمة يحتكر السلطة والثروة، ولا يكون لباقى الأجزاء المكونة للإقليم سوى الفتات...والمهانة!
فهناك مؤتمر البجا وهو تنظيم عسكرى مسلح يقوم على اعتبارات عرقية وثقافية إثنية، ويمثل، على وجه التحديد قبائل البجا، التى تشكل نحو 35% من سكان الإقليم، ويعد مؤتمر البجا التنظيم المسلح الرئيسى فى الإقليم، الأمر الذى أهّله للتفاوض الناجح مع النظام وإجباره على شروطه، وهو الذى تبلور فى اتفاق سلام شرق السودان، فى أسمرا بتاريخ 14/10/2006، واعترف بموجبه النظام فى الخرطوم بحق الشرق فى ثروات البلاد وإعادة النظر إليه كأحد أجزاء السودان، الذى يتعين أن ينال حقه فى التعليم والصحة والأمن والعدل...إلخ، وفى نفس الوقت يوفر نظام أسمرا الدعم والحماية الدائمة لمؤتمر البجا الذى تتمركز معاقله داخل أراضيه. وفى المقابل يُقدّم المؤتمر خدمات لنظام إريتريا يتعلق بالتقارير الدورية عن تحركات المعرضة المسلحة الإريترية المنتشرة على طول الحدود الشرقية.
وعقب الحملة المسلحة التى شنها الجيش النظامى السودانى على الشرق، تحديداً على قبيلة الرشايدة، بزعم السيطرة على عصابات تهريب السلاح التى تُهدد استقرار البلاد؛ تكوّن الطرف الثانى من أطراف الصراع، وهو تنظيم الأسود الحرة وهو تنظيم عسكرى مسلح أيضاً يتكون بشكل رئيسى من أفراد قبيلة الرشايدة.
وإلى جانب مؤتمر البجا والأسود الحرة، هناك: إسرائيل، والولايات المتحدة، وإريتريا؛ فالبنسبة لإسرائيل فقد عمل الكيان الصهيونى، ومنذ وقت طويل، على ترسيخ وجوده فى أفريقيا بوجه عام، منتهجاً سياسات التغلغل فى بؤر التوتر، بل وخلق الشروط الموضوعية لتخليق هذا التوتر بين القوى الاجتماعية المتناحرة، وتُعد إريتريا من أهم المراكز الصهيونية فى أفريقيا، إذ تقوم الصهيونية بتركيز وجودها من خلال إقامة قاعدتين عسكريتين تتمكن من خلالهما من بسط رقابتها على مضيق باب المندب، كما تمتلىء المؤسسات الإريترية بعشرات الخبراء الصهاينة، كما تقوم إسرائيل بتقديم الدعم لحركات المعارضة السودانية عن طريق الحكومة الإرتيرية، إذ عن طريق المطارات والموانىء الإريترية تدخل شحنات السلاح إلى قوى المعارضة السودانية وبصفة خاصة فى الشرق.
وهناك أمريكا التى تربطها العديد من الاتفاقيات على اختلاف أنواعها مع إريتريا، ولا يقل إهتمامها عن الاهتمام الصهيونى بها، فهى بحال أو بآخر، مدخل إستراتيجي للتغلغل فى القارة الأفريقية. ومن ثم ضمان السيطرة على النفط والماس والمادة الأولية، ومنهجية فهم هذه السيطرة هى بيت القصيد هنا.
أما إريتريا؛ فهى تلعب الدور الرئيسى كوسيط فى نقل شحنات السلاح المقدَم من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى قوى المعارضة فى الشرق من أجل تأجيج الصراع، وقد كانت المدفعية الإريترية الثقيلة هى الغطاء الرئيسى لقوى المعارضة فى صراعها مع النظام فى الخرطوم؛ وهو الأمر الذى من نتائجه الطبيعية توتر العلاقات الإريترية السودانية على الصعيد السياسى(77).
وبالإضافة إلى هذه الأطراف، وبالإضافة إلى حركة" قوى الريف السودانى" أُعلن فى العام 2007، إنشاء حركة معارضة جديدة، أطلقت على نفسها: الحركة الشعبية لتحرير شرق السودان.
ولقد عبّر أحد أبناء الشرق عن مُجمل الوضع الاجتماعى الراهن بقوله:"... ولايات دارفور الثلاث يحكمها الأن أبناء دارفور ونحن لم نملك فى ولاياتنا وحكوماتها الثلاث. حكومة ولاية القضارف كمثال لا يوجد فيها شخص واحد من أبناء الشرق ولا حتى الذين يدافعون عن الحزب الحاكم الأن ليس لهم وزن ولا يعيرهم حزبهم قيمة مع العلم إن قاعدة الحزب الحاكم فى الولاية هى من أبناء الشرق وقد فاز بهم وبأصواتهم وقد شهدنا المبايعة المهزلة التى رتبت للوالى باسم البنى عامر والمبالغ الكبيرة التى دُفعت لتمويل حملته وقد ذهب كل ذلك العمل هباءً منثوراً بعد الفوز، هل إخواننا فى حكومات دارفور هم مؤتمر وطنى درجة أولى وإخوتنا من أبناء شرق السودان درجة ثانية فى المؤتمر الوطنى ولهذا تلتزم الحكومة بإشراكهم فى الحكم وتحرم هؤلاء ولا تُقيم لهم وزناً رغم الوطنية والقومية التى يتشدقون بها؟ دارفور لها خمسة وزراء فى وزارات سيادية؛ فكم نملك نحن أبناء الشرق مقارنة بهم ولو أنه لا توجد مقارنة أصلاً. ومع هذا يتهمنا البعض بالعنصرية وهم من كرس لها وأسس بنيانها ...".
7- الأجزاء المنسية والصراع المستعر
بعد الاستقلال لم تنتبه، بمعنى آخر لم تُرِد النخبة الحاكمة، كما قال منصور خالد، بل ولم ترد النخبة المفكّرة كذلك، التعرض لفض الإشكال التاريخى(78)، وتصفيته مِن محتواه المتأجج والعدائى، والنتيجة استمرار العلاقة الطبقية بين الأسياد (الشمال) وبين العبيد (الجنوب) ولم تزل تلك الوضعية محل اعتبار؛ فلا يستطيع الجنوبى التخلى عن صورة جده (العبد) فى بلاط (السيد الشمالى) وعندما بدأ الجنوبيون يطالبون ببعض حقوق المواطنة، باعتبار أن ذلك مِن قبيل الحق المشروع، لم تجد الخرطوم فى تلك المطالب إلا تعدياً صارخاً على خصوصيات الشمال(كصفوة) بل تعدياً على حق الشمال التاريخى فى أن يُقرر بمفرده مصير السودان بأكمله، وفى ظل تلك الثقافة الشمالية الاستعلائية، وادعاء امتلاك ناصية الحقيقة الاجتماعية والدينية كذلك، تبلور رد فعل الجنوب فى التمسك الصارم بخصائصه الثقافية ودياناته المحلية وعاداته الموروثة. مِن المهم فهم دور الحدود الاستعمارية فى جمع عدة تشكيلات إجتماعية مختلفة ومتنافرة أحياناً فى حيز جغرافى واحد.
كما يَكون على درجة مُعيَّنة مِن الأهمية فى مجرى الرصد والتحليل الوعى بالصراعات المسلحة التى تقودها قوى نشأت ونمت فى إطار مِن الكراهية والدموية وصنمية العقيدة، فهناك جيش الرب، والجيش الشعبى لتحرير السودان، ويضاف إليهما:"العدل والسلام، المقر فى بريطانيا"ولا يُمكن غض البصر عن الحزام الفرنكفونى، ابتداءً مِن تشاد، ومروراً بالنيجر ومالى، وانتهاءً بالسنغال، الذى لن تَتَخلى عنه فرنسا بسهولة، ولذا قامت باستقطاب عبد الواحد نور من حركة تحرير السودان، فى مقابل استقطاب بريطانيا خليل إبراهيم. ومِن جهة لا تُغفَل كذلك، هناك الولايات المتحدة التى تَمد جسور التعاون مع الحركات الانفصالية.
8- القوى الاجتماعية المتصارعة
وعلى ذلك سيمُسى من العبث الجلى البحث فى المسألة السودانية بدون تكوين الوعى الناقد بصدد القوى الاجتماعية الفاعلة، ومن ثم لا تستقيم الدراسة التى تقتصر على البحث فى التكوين القبلى، وتختزل فيها، بلا وعى، الصراعات الطبقية، باعتبار أن الصراعات الراهنة هى صراعات قبلية، ومن ثم تصبح هامشية الحركات المتصارعة التى تُعبّر عن قوى اجتماعية فاعلة ومؤثرة فى مجرى أوضاع الصراع الراهن، وهو الأمر الذى نرفضه جملة وتفصيلاً؛ إذ نرى أهمية حاسمة فى مجرى التحليل لــ"فك" ما هو قبلى عن ما هو طبقى، ولذلك كان من الضرورة المنهجية البحث فى أهم القوى وأكبرها تأثيراً، والتى تتمثل فى: الجيش الشعبى لتحرير السودان وحركته، والتجمع العربى، والجنجويد. وحركة تحرير السودان، والعدل والمساواة، وأخيراً جيش الرب وحركته اللذين سنسعى من خلال بحثنا فيهما إلى فهم وتحليل مجمل القوى الاجتماعية، والقيام بترسيم أوّلى لحدود علاقاتها الجدلية. وسنبدأ بالجيش الشعبى لتحرير السودان. دون أن ننسى بالطبع ما سبق وأن ذكرناه بشأن الصراع المحتدم فى الشرق، وعناصره المتناحرة.
(أ) حركة/الجيش الشعبى لتحرير السودان
حادثتان يمكننا البدء بهما لفهم ما كان وما سوف يكون من صراع بين الشمال وبين الجنوب؛ فمع بدايات عام 1980 شهد المجتمع الجنوبى مجموعة من الإجراءات المستفزة، ففى شهر فبراير من ذلك العام تم تطبيق قانون المجلس التنفيذى العالى والمجلس الإقليمى، والذى أصدره الرئيس جعفر النميرى وعلى أساسه تم حل مجلس الشعب الإقليمى لجنوب السودان والمجلس التنفيذى العالى، والذى كان برئاسة الفريق جوزيف لاقو. حل هذا القانون عملياً محل قانون الحكم الذاتى للمديريات الجنوبية، والذى كان يُعرف باسم اتفاقية أديس أبابا الموقعة فى العام 1972(79) وذلك بالتصادم مع النصوص الدستورية المنظِمة لكيفية إجراء مثل تلك التعديلات التشريعية.
لم تخل المناقشات التى دارت كذلك حول هذا القانون الجديد من استفزاز لمشاعر وعقليات الجنوب، فبينما كان البرلمان يُناقش القانون لتقسيم شمال السودان إلى ستة أقاليم، أُرفقت خريطة مع القانون لتوضيح حدود الإقاليم الجديدة، بيد أن تلك الخريطة ضمت، عن عمد وتجاهل، أجزاءً من الجنوب إلى الشمال، مما أثار غضب الجنوبيين وأدى إلى اندلاع احتجاجات عارمة شارك فيها جميع فئات الشعب، ولم يتم احتواء الموقف إلا بعد أن تم الرجوع عن الحدود التى تضمنتها الخريطة، والابقاء على الحدود كما هى وفقاً لاتفاقية "أديس أبابا" بين الشمال وبين الجنوب، لكن، وكما يقول لام أكول، بالرغم من أن هذا الحل كان مرضياً للجنوبيين إلا أن الحادثة فى حد ذاتها أسهمت فى غرس مزيد من الشك بين شطرى البلاد.
ولم تكن مشكلة الحدود هى المشكلة الوحيدة التى تفجرت فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى وأثارت الشكوك فى نفوس الجنوبيين؛ ففى العام التالى، تفجرت مشكلة أخرى، وهى المتعلقة بموقع مصفاة النفط الثانية فى البلاد، وهى المصفاة التى ستقوم بتصفية النفط الذى تم اكتشافه فى بانتيو فى جنوب السودان. فقد كان الجنوبيون يرون أن المصفاة يجب أن تُبنى فى بانتيو حيث اكتشف النفط، ولكن كان لحكومة رأي مختلف، إذ أرادت أن تكون فى "كوستى" فى الشمال. ورأت أن بناء مصفاة إنما يعنى امتصاص بطالة وارتفاع مستوى المعيشة إلى حد ما، وهو الأمر الذى لم يرده نظام الخرطوم لشعب الجنوب على ما يبدو، إستكمالاً، كما تردّد، للمسيرة التاريخية لنظرة الشمال الاستعلائية إلى الجنوب!
لم تجْدِ الاحتجاجات تلك المرة، وأصر الرئيس النميرى على موقفه، وهو ما قاد الحكومة الإقليمية إلى الرضوخ، بل إلى محاولة إقناع باقى الشعب فى الجنوب بقبول الوضع الحالى، إلا أن الجماهير لم تقابل تلك المحاولات إلا بالسخرية من الطرفين فى الشمال، كذلك الأمر فى الجنوب.(80)
من الممكن اعتبار هاتين الحادثتين نقطة بدء فى سبيل فهم مدى ارتباك العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الشمال وبين الجنوب، إذ بات من الواضح أن اتفاقية أديس أبابا محل تطبيق انتقائى واختيارى من قبل نظام النميرى، بل ويزداد الأمر تعقيداً حينما يساهم فى خرق نصوص تلك الاتفاقية مسؤلون فى الحكومة الإقليمية نفسها فى الجنوب.
ولقد كان لقيام النميرى بإلغاء اتفاقية أديس أبابا، الأثر الهائل فى اندلاع الثورة فى الجنوب المشتعل أصلاً، ولذا قام نميرى، فى 1983، بإرسال العقيد جون قرنق لإخماد تلك الثورة.
ما أن وصل قرنق إلى الجنوب، الذى ينتمى إليه أساساً، حتى انضم إلى صفوف المتمردين، الذين صار قائدهم الأعلى، واستخدم لغة خطاب يسارية راديكالية لاستقدام مساعدة موسكو، ولكن لم يُعلن الانفصال؛ إذ كان كل ما يطلبه الجنوبيون(كما الشرقيين) يطلبونه هو معاملتهم كمواطنين لهم حقوق فى الثروة ولهم حقوق الإنسان فى وطنهم. وعندئذ أعلنت الحركة عن نفسها بشقيها الدبلوماسى ممثلاً فى الحركة الشعبية لتحرير السودان، والعسكرى المسلح ممثلاً فى الجيش الشعبى لتحرير السودان.
ومنذ ذلك الوقت أصبح ذلك التنظيم بجناحيه الدبلوماسى والعسكرى هو المتحدث الرسمى باسم الجنوب، وهو الذى من ثم يقوم بالتفاوض مع الحكومة فى الخرطوم، وهو الذى يقرر، بل قرر، الانفصال.
ويمكن من خلال التدقيق فى كتابات واحد من أهم زعماء الحركة/ الجيش، وهو لام أكول أن نستخلص مجموعة من الأفكار والعناصر التى يمكن على أساسها تكوين الوعى حول تلك الحركة الاجتماعية. إن أهم ما يُميز حركة/جيش تحرير السودان هو:القسوة والبطش والتضحية عادة بالمدنيين فى الحروب المستعرة(81) وكذلك تميزت الحركة/الجيش بانعدام التنظيم وبصفة خاصة على الصعيد الإدارى، بالإضافة إلى الخلافات الداخلية المستمرة وسيادة القرارات العشوائية(82) ولعل أخطر ما قد لاحظته فى كتابات لام أكول، وبصفة خاصة فى الثورة الشعبية لتحرير السودان أن الحركة/الجيش تعانى عدم ولاء بعض الفصائل المنضوية تحت لوائها(83).
ويمكن القول أن معظم المواطنين الجنوبيين ممثلون فى الجيش الشعبى لتحرير السودان، مضافاً إليهم البعض من مواطنى جبال النوبة، ومجموعة الانقسانا الوطنية، وأفراد من أواسط السودان وغربه. أما مجموعات الازاندى فلم تنضم ولم تبد، فى الوقت نفسه، معارضة إيجابية له.
أما عن نوعية ضباط وجنود الجيش الشعبى لتحرير السودان، الذين هربوا من الجيش النظامى، ومن مؤسسات الشرطة والسجون، فيمكن القول أن نوعية كادر الضباط والجنود فى الجيش الشعبى الأن عالية، ويوجد بين الضباط أعداد كبيرة ممن نالوا تعليماً جامعياً، وحصل البعض منهم على درجة الدكتوراة فى دراسات تتفاوت بين الاقتصاد والقانون والطب والهندسة.
ولدى الجيش اليوم، كما يقول أبيل ألير، عدد كبير من الأطباء البشريين، والبياطرة، والفنيين، يرتدون الزى العسكرى، أما ضباط الصف فجلهم يجيدون القراءة والكتابة(84).
(ب) التجمع العربى
ملك ملوك أفريقيا، وإمام المسلمين، وعميد الحكام العرب، وأمين القومية العربية،... وغيرها من الألقاب، لم يقم الرئيس الليبى معمر القذافى بابتكارها أمس، وإنما أصابه هوسها منذ سنين، تحديداً عقب الانقلاب الذى قاده ضد الملك السنوسى، فلم يبخل القذافى على نفسه بالألقاب العصابية الرنانة، كما لم تبخل عليه فى المقابل الظروف المحيطة، كما سنرى.
فلقد قام النميرى فى السودان بإصلاح العلاقة السياسية المتدهورة، آنذاك، بين الخرطــوم وندجامينا، ومن ثم تغير الموقف الرسمى المعلَن من قِبل الخرطوم من قوى المعارضة التشادية؛ فبعد أن كانت مؤيَّدة على طول الخط من قِبل حزب الأمة والأخوان المسلمين فى السودان، بحسبان أن تلك القوى، كما تم تسويقه إعلامياً، إنما كانت تُحارب بإسم العروبة والإسلام التى يريد الأفارقة المسيحيون فى تشاد طمسهما، أصبحت قوات التمرد التشادية، بعد تحسن العلاقات ما بين الخرطوم وبين ندجامينا، خطراً على البلدين معاً السودان وتشاد، ومن ثم ستكون ليبيا أفضل ملجأ لقوات التمرد، إذ فى الوقت نفسه كانت تشاد محور اهتمام القذافى، كخطوة أولى فى سبيل مخططه لإقامة "الحزام العربى"، فى مواجهة "الحزام الزنجى"عبر أفريقيا، فقام القذافى فى 1975 بضم قطاع "أوزو" فى شمال تشاد، وفى 1979 دخلت القوات الليبية ندجامينا، كى يُعلِن القذافى فى 1981 الوحدة بين ليبيا وتشاد. بيد أن تلك الوحدة لم تستمر وكانت فاشلة قبل تحقيقها أساساً.
وفى الوقت الذى كان يحتضن فيه القذافى غالبية الحركات الانفصالية والمتمردة والمعارضة(85)فى الدول الحدودية ، كانت الولايات المتحدة وفرنسا تساند وبقوة النظامين السودانى والتشادى، الأول بقيادة جعفر النميرى، والثانى بقيادة "حسين حبرى". وحينما أُقصى"حسين حبرى" فى الفترة من 1981 حتى 1983 لم يجد سوى الانسحاب إلى دارفور كى يُعيد تسليح جيشه وينظم صفوفه بمعاونة من النظام السودانى، وهو الأمر الذى حدث فعلاً فى 1985 ورجع "حسين حبرى" رئيساً للبلاد، مما أغضب القذافى على الرغم من مكائده، وعلى الرغم من دولارات النفط.
إلا أن الرياح أتت بما تشتهى سفن القذافى، وإنما فى السودان، فقد أُقصى العدو فى الخرطوم، جعفر النميرى، وصار لزاماً على طرابلس، وفى مقابل دولارات النفط، تدارك المواقف وتسارع فوراً بتجسير العلاقات مع النظام الجديد فى الخرطوم، كى يُسمح لقوات القذافى باستخدام القواعد العسكرية فى دارفور ومن ثم الاقتراب أكثر من العاصمة التشادية ندجامينا.
ومع أوائل الثمانينات من القرن الماضى، بدت اللغة الاستعلائية تفرض نفسها فى دارفور من قِبل العرب، الذين قرروا بفعل المساندة الليبية إنهاء حكم "الزرقة"بدعوى أن تلك القبيلة قد حكمت دارفور أكثر من اللازم وأن الوقت حان لتداول السلطة مع عرب دارفور، وجاءت نتيجة الانتخابات كى تُفجر صراعاً وحشياً من خصائصه الرئيسية أنه لا ينتهى بموت المتصارعين!
ثمة نقطة مهمة هنا فى مجرى البحث، قبل استكمال السرد، هى أن الصراع الإثنى، قبل تورط النظام، فى دارفور تطور حول محورين رئيسيين: شمالى/جنوبى(أى بين إبّالة الشمال وبين القبائل المستقرة فى الجنوب) والآخر جنوبى/جنوبى (أى بين قبائل بقارة الجنوب التى تألب بعضها على بعض)، بيد أن وسائل الإعلام العالمية رأت فى تسويق المحور الأول أكثر تشويقاً وإثارة لأنه يشير إلى صراع عرقى بين العرب وبين الأفارقة، ولذا كان القتال بين هذين الفريقين المتصارعين هو الذى يتصدر الإعلام اليومى، فى مقابل الإهمال المتعمد للمحور الثانى المتعلق بالصراع ما بين القبائل الجنوبية نفسها.(86)
واستكمالاً نقول: وإذ يتحالف "التجمع العربى"مع النظام فى طرابلس، فقد كان من المتعين أن تُعلن المليشيات المسلحة فى دارفور تحالفها مع النظام فى ندجامينا، وإذ تمر الأيام حتى يعتلى الإسلاميون السلطة فى الخرطوم، يقوم القذافى بإعلان السيادة العربية الإسلامية ورفض ما عداها، ويوجب، كإمام للمسلمين، على الخرطوم إخضاع الأقاليم المتمردة وعلى رأسها دارفور للشريعة الإسلامية، والتأكيد على سمو العرق العربى فى مقابل باقى الاثنيات الدارفورية. ومن ثم ازدحمت نشرات الأخبار والتقارير بأخبار بحور الدم فى دارفور ما بين العرب الفور والمليشيات المسلحة، وهو الأمر الذى بدا كتمهيد تقنى وأيديولوجى، لظهور تنظيم لا يقل تأثيراً وفعالية فى مجرى وقائع الصراع الاجتماعى، وهو تنظيم "الجنجويد" أى الجن الراكب على جواد، دلالة على الرعب والهلع الذى تنشره هذه الجماعات المسلحة بين سكان القرى أينما حلت.
(ج) الجنجويد
المشكلة نفسها التى تواجه الباحث عادة فى عناصر المسألة السودانية وهى تلك المتعلقة بالغموض تارة والتضليل الإعلامى تارة أخرى، تواجهنا عند التوجه نحو التعرف على واحد من أهم القوى الاجتماعية الفاعلة فى الصراع الراهن: الجنجويد؛ إذ يصعب أن تجد اتفاقاً بين الباحثين على رأى فى المسألة المتعلقة بالتنظيم، أو تأريخ يتتبع نشأة التنظيم وعناصره ولحظات قوته وضعفه، وتحلفاته وعداءاته، وإن كانت وجهات نظر، أقربها، فى تصورى، إلى الصواب وإنما النسبى، وهى تلك التى تؤرخ للجنجويد ابتداءً من الحرب التشادية/التشادية فى الثمانينات من القرن الماضى، إذ لجئت القوتان المتصارعتان إلى تجنيد ميلشيات تدعم حرب كل واحدة منها تجاه الأخرى، وقد صارت تلك الميلشيات فيما بعد هى الجنجويد. ثمة مروية أخرى(87)، ربما تتماس مع مجموعة المساهمات المقدَمة، هى تلك التى ترى أن الحكومة السودانية قد لجأت خلال حربها ضد متمردى الجنوب إلى تسليح القبائل العربية فى دارفور لصد هجمات الحركة/الجيش الشعبى لتحرير السودان، بقيادة جون قرنق.
ولما جاءت حكومة الانقاذ، ارتكب حسن الترابى، زعيم الحركة الإسلامية أخطاء فادحة انعكست على الأوضاع فى دارفور ومن هذه الأخطاء إثارة النعرات الجهوية، على حد تعبير د. زكى البحيرى(88)، فى نشاط الحركة حيث اعتمد على قبائل غرب السودان، واستخدمها كوقود لهذا النشاط، وبصفة خاصة وأن الجفاف والعوز ضربا عرب دارفور، وكان استخدام الخرطوم للميلشيات القبلية من قبيل الانتهازية السافرة، فهم كانوا هناك، وكانوا يمتلكون السلاح كما يمتلكون المهارات القتالية، ولكى ينجح الترابى فى إثارة هذه النعرات ضد "قرنق" رفع راية الجهاد فى حرب الجنوب، وأقدم على فتح الحدود للمسلمين المهاجرين من دول غرب ووسط أفريقيا بدعوى أن "ديار المسلمين بلا أبواب" كما أعلن فى الوقت نفسه أن المال مقابل الإسلام؛ الأمر الذى سارعت المرتزقة معه فى الانضمام إلى قوات الترابى، والتى منها تكونت ميلشيات الجنجويد، التى نشأت فى حقل الطبقية وليس الدين أو العرق كما يروج. فالعرب فى الشمال، وهم فى الواقع النُخب الحاكمة (المالكة للثروة والسلطة) لن يجدوا أفضل من الدّين"كما يرونه هم" لإكسابهم شرعية الحكـم والتصرف فى مجمل الإقليــم، ومن هنا فإن "شريعة الجهــــاد "ضــــد المتمردين إنما تقتضى بسط الهيمنة على هؤلاء "الخوارج" كما يكون تمردهم هذا فى ذاته هو تمرداً على الإسلام. هكذا سوّقت حكومة الخرطوم الصراع، إلا أن الطبقية (فى الصراع شمال/جنوب) بين شمال غنى (النخب، السادة، مَن يملكون) وجنوب فقير (المهمشون، العبيد، مَن لا يملكون) هى نقطة البدء، فى تصورى، للفهم الصحيح.
إن مليشيات الجنجويد، ببساطة شديدة، هى: مجموعات من المرتزقة الذين استخدمتهم الحكومة (النخبة) فى الخرطوم من أجل بسط هيمنتها على العناصر المتمردة (التى تمثل طبقة مهمشة اجتماعية وفقيرة اقتصادياً ذات إرث تاريخى غير لطيف إنسانياً) وبصفة خاصة فى الغرب.
ومن ثم لا محل للاستغراب على الإطلاق حيال ما تناقلته وسائل الإعلام من أن القذافى، على سبيل المثال، يستخدم المرتزقة فى حربه ضد شعبه، أو أن البشير، فى حربه القادمة(89)سوف يستخدمهم؛ إذ أن الجوع والفقر والمرض فى تلك المنطقة من العالم جعل القتل ليس من أجل المال فقط، وإنما أيضاً من أجل شربة ماء وقطعة خبز!! بعد أن ضاع الأهل وتفتت الأوطان!
(د) حركة تحرير السودان
وهى الحركة الرئيسية فى دارفور، أنشأها فى العام 2001 عبد الواحد نور، الذى ينتمى إلى التيار اليسارى منذ أن كان طالباً فى كلية الحقوق عضواً نشيطاً فى الحزب الشيوعى السودانى. تتخذ هذه الحركة مثلها مثل سائر الحركات من العرقية والإثنية غطاءً كثيفاً لجميع أنشطتها ضد النظام وضد الميليشيات التى كوّنها النظام، دون الذهاب مباشرة إلى مكمن الأزمة فى الصراع الطبقى الذى يمتطيه كثير من مظاهر الصراع العرقى والقبلى، وبعد أن تم التوقيع على اتفاقية جوبا انفصلت مجموعة من الفصائل (الباحثة عن مصلحتها والمكاسب المالية التى من الممكن أن تعود إليها أثر مفاوضاتها المهادنة مع النظام فى الخرطوم)عن الحركة أهمها: تنظيم الوحدة، والقوى الثورية الموحدة، والتنظيم الديموقراطى الوحدوى، بالإضافة إلى فصيل أحمد عبد الشافع.
(هـ) العدل والمساواة
من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار جاء د. خليل إبراهيم كى يُعلِن، من لندن، قيامه بتأسيس وانطلاق حركة ثورية، ليس من مطالبها الانفصـال، وإنما أيضاً نفس اللحن وإن كان بآلات مختلفة، فمن حزب المؤتمر، وحكومة الإنقاذ، والجبهة القومية الإسلامية، إلى العلمانية اليسارية العنصرية، تتلخص الرحلة الفكرية لمؤسس الحركة خليل إبراهيم، فبعد أن كان أحد كوادر حزب المؤتمر، ووزيراً للصحة فى حكومة الإنقاذ، أصبح، بعد زيارة لبولندا ومقابلة مع د. شريف حرير(90)، من أهم المناهضين للنظام فى الخرطوم، وقام فى 1999 بإصدار مؤلَّفه "الكتاب الأسود" الذى احتوى على تقييم (عرقى) للوظائف والمناصب العليا فى السودان حيث بيّن أن العناصر الشمالية هى التى تُسيطر على السلطة فى البلاد، وأن أبناء أغلب المناطق الأخرى وفى مقدمتهم دارفور، مهمَشون، وأن 800 من مجموع 887 وظيفة قيادية فى الحكومة المركزية يشغلها موظفون شماليون.(91) كما استخدم نفس اللغة السائدة التى تخفى ما هو طبقى فى ما هو عرقى، فلم يكلف د. خليل إبراهيم نفسه عناء الذهاب إلى ما هو أبعد من التصفية العرقية التى لا تُمثل سوى الغطاء الإعلامى للصراعات الطبقية الضاربة بجذورها فى قلب هذا المجتمع منذ أول عدوانية للرأسمال البريطانى/المصرى على الأجزاء المختلفة، ودمجها (بكل تناقضاتها وصراعاتها وطبقيتها) فى كيان واحد غير متجانس على الإطلاق. ولذلك كان السبب الذى هو وراء شغل أبناء الشمال لـ 800 وظيفة من أصل 887 إنما يتحصل، لدى خليل إبراهيم، وكل من يتحدث لغته من باقى الفصائل المتناحرة، فى التفضيلات العرقية والعنصرية السافرة، من دون أن يدرى أو يدروا أن تلك التفضيلات ما هى سوى المظهر الذى تُجسد الصراعات الطبقية نفسها من خلاله على أرض الواقع السودانى شرقاً، وغرباً وجنوباً بشكل خاص.
(و) جيش الرب
كنا حتى الأن نتحدث عن القبائل والتركيبة الاجتماعية، وربما تاريخ كل منها، من دون أن نعالج الكُل الاجتماعى إلا من خلال فعل السرد الخطى، وهو ما تعمدناه كتمهيد من داخل النص، لفهم (فى مرحلة تالية) الصراع الجدلى لا الخطى بين القوى الاجتماعية المتناحرة، وبصفة خاصة فى الغرب وفى الجنوب، وإن رصد وتحليل حركة/جيش الرب وعلاقتهما، المتناقضة المرتبكة، مع السلطة المركزية فى الخرطوم ليعكسان، فى تصورى، صورةً واضحةً للصراع الراهن فى الجنوب تحديداً. وسنجعله مدخلاً لاستيعاب مقولة (الصراع الطبقى فى السودان) وهو فى الواقع صراع بين طبقتين رئيسيتين: شمال غنى، وأطراف، شرق وغرب وجنوب، فقيرة! أى إنه الصراع فى شكله البدائى والتقليدى، بيد أن تقديمه العرقى من قبل المؤسسة الإعلامية كصراع دموى إثنى كان له التأثير الحاسم، وبصفة خاصة حينما يكون العرب أحد أطراف الصراع، وبصفة أخص بعد تلك المهزلة الإنسانية فى11سبتمبر2001.
بداية، المعلوم من الجغرافيا، ومن التاريخ بالضرورة أن جميع قبائل أفريقيا تقريباً هى قبائل قطّع أوصالها ترسيم الحدود الاستعمارى على الخريطة دون أى إعتبار للحياة المشتركة والتاريخ المشترك والألم المشترك والفرح المشترك لملايين البشر الذين يجمعهم وطن واحد، ومعتقد واحد، وتاريخ واحد، وثقافة واحدة.
فنجد على سبيل المثال الدنكا مقطعة الأوصال بداخل كينيا وأوغندا، وأطراف إثيوبيا الغربية وبالطبع السودان، والنيليون بوجه عام يمتدون حتى وسط تنزانيا، وكذلك الازندى الممتدة حتى الكونغو وزائير، أما عن باقى القبائل الأفريقية فالأمر ربما أفدح، فقبائل الهوسا على سبيل المثال تم تقطيع أوصالها بين نيجيريا، والنيجر، وغانا، وتشاد، وكوت ديفوار، أما قبيلة الفولا كمثل آخر فتفتيتها لا يقل جسامة وسخافة فهى موزعة بين غينيا، ونيجيريا، والكاميرون، والسنغال، وسيراليون، وبنين، وتشاد، وغانا، وتوجو،... وهكذا باقى قبائل أفريقيا، ومن هنا سيكون من اليسير فهم إشكالية الانفصال، وتكوين الوعى بشأن العلاقات الجدلية بين القوى الاجتماعية المتصارعة على أرض الجنوب تحديداً (والذى صار بفعل فاعل سودانياً!) الأمر الذى يجعل التحرر من الوطن الزائف مسألة وجودية.
لقد برزت حركة "جيش الرب"، أو"حركة الروح القدس"،أو"لاكونيا2" وكلها أسماء لتنظيم واحد وفقاً لتطور الحركة نفسها على الصعيد الاجتماعى، إلى أن تم الاستقرار أخيراً على إسم "جيش الرب للمقاومة" كحركة معارضة للنظام الأوغندى من قبائل"الاشولى"عام 1986، وهو نفس العام الذى إستولى فيه الرئيس يورى موسيفينى على السلطة فى كمبالا. واستندت الحركة، على ما تستند عليه غالبية الحركات الثورية المناهضة للنظام الحاكم، وكان الادعاء هنا هو إدانه تهميش ونسيان الأجزاء الشمالية فى أوغندا.(92)
قادت الحملة على نظام موسيفينى من البدايات الأولى أليس لاكونيا والتى اشتهرت فى أول عهدها بالروحانية وبمهارات فى علاج المرضى، وهذا بحال أو بآخر من الأمور الشائعة فى أفريقيا والمهيمنة على مجمل الحياة اليومية للإنسان الأفريقى كما هو معروف، وقد أعلنت أليس أنها تتلقى تعاليمها من السماء كى تقوم بتطهير قبيلة الاشولى من الرجس، والشرور، ومحاربة السحرة. ولم تستغرق أليس لاكونيا فى دعوتها الروحية وقتاً طويلاً حتى حولتها إلى حركة سياسية مسلحة تدعو للإطاحة بحكم الرئيس موسيفينى إذ نجحت فى نفس العام 1986 فى حشد أعداداً كبيرة من المؤيدين وشنت حملات حربية واسعة النطاق، إلا أن الأيام أثبتت أن التنظيم بحاجة إلى المزيد من الثوار والسلاح، ثم أنه فى حاجة أيضاً إلى زعيم بعد أن ماتت أليس لاكونيا.
تولى القيادة، بعد وفاة أليس واحد من أقربائها، وهو جوزيف كونى الذى سيتولى مقاليد الزعامة الروحية والعسكرية معاً. وكما سيحتل، فيما بعد، أحد الخانات المتقدمة فى قائمة الإرهابيين على الصعيد العالمى الذين يهددون السلم والأمن الدوليين وفقاً للمنظور الأمريكى.
يبدأ الظهور الرئيسى لجيش الرب على الأرض السودانية، المشتعلة بالأساس، مع النصف الأول من تسعينات القرن الماضى، تحديداً فى الفترة من 1993 و1994، وهو الظهور الذى باركه، آنذاك، النظام فى الخرطوم بقيادة الرئيس عمر البشير، فالصفقات الكلاسيكية جاهزة: أن يسمح النظام فى الخرطوم للتمرد الأوغندى (جيش الرب) باستخدام الأرض السودانية واعتبارها ملجأً آمناً، إذ ما أُتخذ القرار بالتقهقر أو بالانسحاب، وإعادة التعبئة، وفى المقابل، فعلى جيش الرب أن يشترك مع الجيش النظامى السودانى فى سحق التمرد فى الجنوب، ليس ذلك فقط وإنما شملت الصفقة الاتفاق على سحق العدو المشترك، وهو قوات الدفاع الشعبية الأوغندية، التى باتت تؤرق النظام فى الخرطوم بعد توتر العلاقات بينها وبين كمبالا.
والجدير بالذكر أن تلك التحالفات/الصراعات العابرة للحدود بين الأنظمة الحاكمة وبين الحركات الثورية المسلحة تعد من خصائص الصراع الدائر فى تلك المنطقة من العالم، فمثلاً وإضافة إلى الأمثلة العديدة التى سنراها لاحقاً، نذكر هذا التحالف ما بين النظام الأثيوبى وبين الجيش الشعبى لتحرير السودان فى مواجهة التحالف بين النظام السودانى وبين المتمردين (الويانى) وهكذا، والأمثلة عديدة. صراعات مسلحة تنطلق من أرضية الصراع بين الطبقات المكونة للتنظيم الاجتماعى الذى إنشطر (بالإضافة إلى الصراعات الداخلية كما سنرى) إلى قسم غنى وقسم فقير.
فالجيش الشعبى لتحرير السودان فى الجنوب يريد إقتسام الثروة والسلطة لأن الجنوب (كمركز للطبقات المهمشة) ببساطة شديدة فقير ومنسى، وفى المقابل الجيش النظامى السودانى يريد الحفاظ على الوضع الطبقى الراهن لمصلحة النخب الحاكمة فى العاصمة، وبصفة خاصة وحينما تكون القوات المسلحة هى الحاكمة على أرض الواقع، ولذا فلا ضير من التحالفات التى تحقق الأهداف، ونفس التحليل يصدق بشأن باقى التحالفات التى تتخذ شكلاً عسكرياً أو سياسياً، وهى فى واقعها تعبير صارخ عن صراع العوز والهيمنة.
ولنعد لجيش الرب، لم يظهر جيش الرب من البداية كتنظيم أيديولوجى، على الرغم من نشأته المرتَكِزة على تعاليم التوراة والتلمود والوصايا العشر، ولم يترك له نظام كامبالا أى مساحة لتقديم نفسه كتنظيم له أهداف وبرنامج.
لم يستمر هذا الحال كثيراً من الغموض والتجهيل حتى بلغت المجازر التى إرتكبها الجيش السودانى فى المدنيين فى حربه ضد قوات الدفاع الشعبى الأوغندية، وكذلك ما إرتكبته الأخيرة ضد المدنيين أيضاً فى حربها المفتوحة مع الجيش النظامى، حدوداً لم يعد من الممكن المضى فى إخفائها عن المجتمع الدولى أكثر من ذلك، وحينئذ قدم جيش الرب نفسه كمعارضة مضطهدة من قبل نظام فاسد فى بلده، وأن المذابح التى تُرتكب على الحدود السودانية الأوغندية والاستوائية إنما هى بفعل القوتين المسلحتين المتناحرتين الجيش السودانى وقوات الدفاع الشعبى الأوغندية.
إلا أن تركيز الضوء على تلك المنطقة الملتهبة أدى بالضرورة إلى تركيز الضوء على جيش الرب، وحينئذ فقط إستطاع المجتمع الدولى أن يجد إجابات عن أسئلة حائرة تتعلق بمرتكبى المذابح الجماعية وخطف الأطفال وتجنيدهم، فلقد كان لجيش الرب الدور الحاسم فى تلك الجرائم، وهى الجرائم التى أحرجت النظام السودانى نفسه، إلا أن النظام فى الخرطوم كان يجد فى وجود جيش الرب فى السودان قوة مساعدة فى حربه ضد الجيش الشعبى لتحرير السودان من جهة وضد قوات الدفاع الشعبى الأوغندية، وهى قوات تابعة للنظام الأوغندى، من جهة أخرى؛ أى أنه وجد فى الحرب بالوكالة ما من شأنه ضرب عصفورين بحجر واحد! "وفى حال اشتباك جيش الرب للمقاومة مع الجيش الشعبى لتحرير السودان، وفقاً لماركيه شوميروس، يقوم مقاتلوا جيش الرب للمقاومة كما هو معهود منهم بالهجوم أولاً ثم تليهم القوات المسلحة السودانية بهجوم ثان، لقد إشتركت القوات المسلحة السودانية فى معظم المعارك التى خاضها جيش الرب للمقاومة مع الجيش الشعبى لتحرير السودان، وغالباً ما كانت القوات المسلحة السودانية تستخدم فى إشتراكها هذا الدبابات وفى بعض الأحيان طائرات أنطونوف.(93)
9- عملية القبضة الحديدية
ولم تكن الأخبار الاتية إلى واشنطن من السودان جيدة بوجه عام، بل كانت مفزعة، الأمر الذى جعل واشنطن تُعلن السودان دولة إرهابية، ولم يكن أمام نظام الخرطوم سوى البحث عن أى مخرج يمكنه من إسترضاء الرأى العام العالمى، فما كان منه إلا التوقيع على اتفاقية نيروبى فى عام 1999، بينه وبين أوغندا، وبمقتضاها لا يجوز لأية دولة من الدولتين القيام إيواء العناصر المتمردة، الأمر الذى فك الارتباط، ظاهرياً، ما بين نظام الخرطوم وجيش الرب من جهة، وبين الجيش الشعبى لتحرير السودان ونظام كمبالا من جهة أخرى، كما تضمنت الاتفاقية السماح للقوات المسلحة الأوغندية بالدخول إلى الأراضى السودانية لسحق جيش الرب المتمرد.
وفعلاً شهدت الأرض السودانية بحوراً هائلة من دم المدنيين العُزل فى شرق الاستوائية إضافة إلى مئات القتلى من كل جانب من جانبى الصراع المستعر، وتلك العمليات الحربية الانتقامية التى مارستها القوات المسلحة الأوغندية ضد جيش الرب للمقاومة هى التى أُطلِق عليها "عملية القبضة الحديدية".
بيد أن نظام الخرطوم لم يكن، فى تصورى، صادقاً تماماً فى التوقيع على الاتفاقية، إذ أدمج غالبية جيش الرب فى الجنجويد، واستمرت الحروب وأعمال الإبادة، كما استمر الإرهاب، حتى كانت مفاوضات جوبا بين جيش الرب وبين القوات المسلحة الأوغندية وبين الجيش الشعبى لتحرير السودان فى 14/7/2006
10- جدلية العوز/الهيمنة
ذكرنا سلفاً أننا ننشغل بجيش الرب إبتداءً من انشغالنا بالصراع الطبقى فى السودان، وإن نظرة لحقل عمليات جيش الرب فى السودان، قبل أن ينتقل إلى الكونغو، وبصفة خاصة شرق الاستوائية، من الممكن لها أن تقوم بتأييد وجه نظرنا بشأن تلك الحروب المفتوحة؛ وأنها تتخذ أشكالاً عسكرية وهى تعبر تعبيراً صارخاً عن (جدلية العوز/الهيمنة)، وأنها فى جوهرها صراعات طبقية بين مَن يملكون ومَن لا يملكون، أغنياء فى المركز وفقراء فى الأطراف، وهى صراعات(مغلفة بلغة خطاب عرقى وإثنى).
لقد وجدَ المدنيون أنفسهم، فى شرق الاستوائية بمفردها، وسط صراعات قوى: جيش الرب للمقاومة وقوات الدفاع الشعبى الأوغندية، والجيش الشعبى لتحرير السودان، والقوات المسلحة السودانية، وقوات الدفاع عن الاستوائية، وحركة استقلال جنوب السودان(94)، وكلها "تقاتل بعضها" تحت مسميات مختلفة، وأهداف مختلفة، وإنما الذى يتم تسويقه على صعيد الإعلام العالمى هو حروب الإبادة العرقية، أو التطهير العرقى(95) بمجرد أن يوجد (عرب) وذلك كله على الرغم من أن الصراعات الدائرة لا يمكن الوعى بها وعياً ناقداً وخلاقاً إلا ابتداءً من الوعى بالصراع الطبقى بداخل التنظيم الاجتماعى، فما هو السياق الطبقى فى تلك الحروب؟
يجدر بنا، أولاً، أن نذكر أمرين على درجة من الأهمية، أولهما: القوات المسلحة الأوغندية إنما كانت تستمد قوتها من قوة جيش الرب نفسه ! إذ إن الذريعة لزيادة تمويل الجيش جاهزة لمجابهة هذا العدو القوى الذى يُهدد أمن وآمان البلاد، ولن يجد النظام أفضل من ذلك للمزيد من التمويل متعدد الجنسية!
والأمر الثانى هو أن الإبقاء على نار الحرب مشتعلة بات فى حد ذاته جزءً من تجارة مربحة للقوات المسلحة الأوغندية التى مارست سلطات احتكارية على المناطق التى تحتوى على الماس والذهب، بالإضافة إلى التجارة الدولية فى الأخشاب عبر جمهورية الكونغو الديموقراطية. بما يعنى ذلك من تخريب وتدمير لمئات القرى، وقتل وتشريد الآلاف من البشر فى السودان وأوغندا والكونغو.
ولنرجع إلى السؤال: أين السياق الطبقى فى تلك الحروب المفتوحة؟ على الرغم من كون الموضع الصحيح لتقديم طريقة إجابة على هذا السؤال هو فى الخطوة الفكرية التالية، المعنية بتحليل الصراع الاجتماعى الراهن؛ إلا أننا سوف نثبت ها هنا بعض الخطوط العريضة التى تُحدد الإجابة وتُمهد لها فيما بعد، على النحو التالى:
أولاً: إن العناصر المتناحرة، على اختلاف مسمياتها وتوجهاتها، كما رأينا تتمثل تقريباً فى ست حركات رئيسية، وعلى الرغم من العسكرة التى تغلفها، إلا أنها تظل حركات اجتماعية عاكسة لواقع اجتماعى متدهور، ووضع اقتصادى متردّ. والجدول أدناه يوضح حجم التفاوت الصارخ ما بين الشمال وبين الجنوب. الأمر الذى يشير إلى (جدلية العوز/الهيمنة) بوضوح.
ثانياً: الثروة والاستئثار بها من قبل حفنة رجال يسكنون القصور فى العاصمة، هو العنوان الأمثل للبدء فى فهم أولى للحركات المتمردة. ثم فهم تال، من هذا المنظور، لذلك الإصرار على قمع المتمردين وسحقهم. والجداول أدناه توضح مقدار الإهمال الذى يُعانيه الجنوب، وتهميشه، بكل ما به من صراعات. الأمر الذى يشير إلى جدلية "العوز/ والهيمنة" بوضوح .
ثالثاً: تسيطر النزعة العنصرية، كتعبير عن الصراعات الطبقية، على جُل العناصر المتصارعة، ولن يكون أمام العرق(الطبقة) المهمَل سوى القتال من أجل الثروة والسلطة. ومن ثم الدخول فى تحالفات تمكنه من ذلك الهدف، أياً يكن الحلفاء، فنظام الخرطوم، مثلاً، حينما يتحالف مع جيش الرب للمقامة، يتجاهل مذابح وفظائع هذا التنظيم التى يفعلها أينما حل، المهم أنه يتصدى، بالوكالة، للأعداء.
رابعاً: وإذ تسيطر النزعة العنصرية، ذات الأساس والبناء الطبقى، على نحو أو آخر على مجمل خطاب جُل الفصائل والقوى المتناحرة، فلن يكون أمام هؤلاء المهمَشين سوى التمسك الشديد بالموروث التاريخى والثقافى والدينى والقتال الضارى من أجل هذا الموروث فى مواجهة قوى يرون أنها تهدف إلى طمسه، وإزالة ثقافتهم وكيانهم الاجتماعى نفسه من على الخريطة الرسمية للبلاد.
خامساً: الواقع يقول إن هناك مستفيدين، اقتصادياً، من الحروب الضروس الدائرة، إما بالارتزاق من الجانب الغنى، والقتال وكالة عنه، وإنما بالدخول فى صفقات مهادنة معه.
سادساً: يسود السودان نمط الإنتاج المعاشى أى الإنتاج من أجل إعادة تجديد حياة المنتِج بالتوازى مع الإنتاج من أجل السوق، فالمنتِج، وبصفة خاصة فى الجنوب، يعلم أنه من الحتمى عليه أن يحافظ بالعمل على تجديد إنتاج نفسه بأن يوفر لنفسه المأكل والملبس والمشرب والمسكن، لأن النظام الحاكم لن يقوم بتوفير ذلك، وهنا يتبدى المستوى الثانى من الصراع، كصراع بين الجنوب والجنوب.
فهو (صراع جنوب/جنوب) وهو بحكم طبيعته التاريخية والواقعية على الأرض والماء والكلأ، المعزَز غالباً بلغة الخطاب العنصرية، حينما يشتبك (العرب) والعرب فقط، إذ نجد الآلة الإعلامية الغربية وبما أتيت من قوة لا تسوق، وبمنتهى الضخامة المطلقة، سوى الصراعات الدموية التى يكون العرب أحد أطرافها، والجدول أدناه يوضح تاريخ الصراع وأسبابه بين القبائل فى الغرب، وهو (صراع جنوب/جنوب) فى الفترة من 1932 وحتى 1999.
ويتضح من الجدول أعلاه، أنه قبل أواسط الثمانينات، كانت معظم الصراعات فى دارفور تقع بين الجيران، وأشرسها وأشدها فتكاً كان محلياً، ويضم جانبين فقط عادة: المعالية والرزيقات فى عام 1968، والرزيقات البقارة والمعالية والدنكا بين عامى 1972 و1974، وبنو الهلبة والمهرية بين عامى 1975 و1977، وما إلى هنالك. وكانت الصراعات غير متوالية ومتدنية الحدة، وسويت جميعها عن طريق الوساطة التقليدية بين شيوخ ورؤساء القبائل، بينما شكل صراع العرب والفور(1987-1989) بل وكل الصراعات التى يكون أحد أطرافها من العرب، مادة إعلامية ثرية كما ذكرنا لأنها تحتوى على إمكانية تسويق حروب الإبادة إلى جوار المذابح اليومية.
سابعاً: بدأ الصراع فى دارفور فى أواسط الثمانينات كحرب أهلية، طبقية، عرفت باسم الحرب بين العرب والفور، إذ إجتمعت كل القبائل العربية للمرة الأولى تحت راية واحدة تدعى "التجمع العربى". وقد توقف الصراع فجأة عندما أطيح بالحكومة المنتَخبة فى الخرطوم، واعتبر قادة الانقلاب الإسلامى فشل الحكومة فى وقف القتال فى دارفور واحداً من أسباب عديدة لتحركهم. فقد استمرت حرب (1987-1989) بين العرب والفور على الرغم من مؤتمرات المصالحة العديدة التى عقدت لإخمادها.
والواقع إن التوزيع الإثنى الراهن للمجموعات الإثنية فى دارفور لا يختلف كثيراً عما كان عليه أيام السلطنة. ذلك لأن معظم المجموعات الإثنية الأصغر ترتبط مثل الفور، بالإنتاج الزراعى. ويظل الزغاوة والميدوب يزعمون ملكية الحزام الشمالى شبه القاحل من دارفور الذى تتوزعه بعض القبائل العربية من رعاة الإبل (الإبالة) الرحل مثل رزيقات الشمال والزيدية. وما يزال يحتل المنطقة الجنوبية من الإقليم عرب البقارة الرحل وشبه الرحل الذين يربون الأبقار(الرزيقات والهبانية والتعايشة والبنى هلبة) ويتوزع فيها أيضاً بعض الجماعات المهاجرة من مختلف أنحاء دارفور. لذا يمكن تقسيم الإقليم إلى ثلاث مناطق رئيسية طبقاً لنظم الإنتاج السائدة. يحتل المنطقة الوسطى الجماعات المزارعة التى تزرع الدخن، ويحتل الأجزاء الجنوبية البقارة (رعاة البقر) الرحل وشبه الرحل، ويقطن الأجزاء الشمالية الأبالة (رعاة الإبل). ورغم وجود "الديار" القبلية التى تتصور كل قبيلة داخلها أنها وحدة إقليمية محلية لا تشمل الآخرين، فإن موسمية المراعى والمياه تقود إلى تحركات كبيرة عبر الأقاليم القبلية، وهى الممارسة التى تقود إلى الصراعات التى يسببها التنافس على الموارد الطبيعية، وبذلك يتعين على معظم المجموعات القبلية التى تعتمد اقتصاداتها ومجتمعاتها على تربية الحيوانات أن تتفاوض كل عام على حقوقها فى الوصول إلى الأراضى التى تعود إلى عدد من المجموعات القبلية الأخرى والمرور عبرها. وتقود النزاعات المتقطعة التى تحدث وسط هذه المجموعات على الموارد إلى العداوات المسلحة مما يدخل السلطات الحكومية كوسيط، وقد أفضت مؤتمرات الصلح القبلية التى تدعمها الدولة إلى حل هذه النزاعات فى معظم الأحوال.
ثامناً: لم تُصبح الحكومة طرفاً فى الصراع إلا بعد عام 1989، عبر مبادرة حاولت معالجة السبب الأساسى للصراع. وعندما فشلت المبادرة تورطت الحكومة فى الصراع الذى إندلع على نطاق واسع وبلغ مستوى جديداً من المواجهة بين المساليت(المسلمين) وبين القبائل العربية فى عام 1995، وإستعر الصراع ثانية فى عام 2002-2003، عندما تطورت صلات نشيطة بين القوات المناوئة للحكومة فى دارفور وبين المعارضة المنظمة فى المركز. وقد تشكلت هذه العلاقات عبر مبادرتين منفصلتين: واحدة ارتبط فيها المتمردون المحليون (جيش تحرير السودان) بالمعارضة الجنوبية (جيش تحرير شعب السودان(96)) والأخرى يرى د.محمود ممدانى(97)وحده، حركة العدل والمساواة كإمتداد طبيعى للمعارضة الإسلامية فى المركز (حزب المؤتمر الشعبى بقيادة حسن الترابى) على الرغم من أن جميع الشواهد واقعياً وأيديولوجياً تفيد غير ذلك، وأن تنظيم العدل والمساوة يقف موقف الخصم بالنسبة لجبهة حسن الترابى على الأقل من الوجه الأيديولوجية.
وإذ ننتهى مِن خطوتنا الفكرية الثالثة، بعد أن عاينّا الهيكل الاقتصادى، وتعرّفنا على الكُل الجغرافى، والتاريخى، وصولاً إلى التعرّف على التشكيلات السكانية والاجتماعية وعلاقاتها المتناقضة، فإن الطريق الأن يبدو مُمهداً نحو تكوين الوعى بشأن حقيقة وطبيعة الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن فى السودان، ومآله، وهو الذى يمكن تحقيقه من خلال الخطوط الفكرية الآتية، وإنما بهدف الوصول إلى حقيقة تطور المجتمع السودانى ديالكتيكياً، والوصول كذلك إلى حقيقة تخلفه الاقتصادى والاجتماعى، إذ لا يملك سوى أدوات إنتاج بدائية لم تسمح بعد إلا بظهور الصراع الطبقى، وليس الرأسمالى، بين قوى الإنتاج، أنه الصراع الذى أعتبره حتى الأن صراعاً خفياً فى السودان، ويَعلوه الصراع الطبقى المغلَف بالعنصرية والعرقية، وبالطبع من دون التفات الباحثين إلى طبيعة الصراعات الداخلية بداخل الفصيل الواحد، أياً يكن نوعه: قبلى، عشائرى، تنظيم سياسى...،إلخ؛ إذ يتم النظر إلى القبيلة ككتلة صماء تُصارع كتلة صماء أخرى، ولذلك فإننى سوف أفترض إمكانية دراسة الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن فى السودان من خلال منهج عام يتكون من الخطوط الفكرية الآتية:
- يتبدّى الصراع فى السودان على مستويين: شمال/جنوب، وجنوب/ جنوب، والمستوى الأخير هو أساساً صراع بين القبائل التى "تمتلك" داراً وتلك التى"لا تمتلكها"، وإن الخط الفكرى المنشغل بطبيعة الصراع على المستويين إنما يوجب الوعى بـ : الصراع بين الشمال والجنوب، والصراع بين الجنوب والجنوب. والصراعات الداخلية فى داخل الشمال. والصراعات الداخلية فى داخل الجنوب.
- لا يمكن فهم الصراع، من الأساس، دون الوعى بفكرة (القفص الكبير) الذى وُضِعت بداخله أعراق وثقافات وديانات مختلفة تمام الاختلاف ثم أُطلِقَ على هذا القفص الكبير اسم (السودان).
- لا يتطور المجتمع تطوراً خطياً، وإنما يتبدى التطور الديالكتيكى للمجتمع السودانى بالنظر إلى طبيعة الحركات المتصارعة وأدائها اليومى عبر الزمن، إذ تتطور هذه الحركات وتُطور معها المجتمع ككل من خلال أداءات يومية لمصالح متناقضة، ويمكن رؤية تلك الأداءات المتناقضة من خلال الأداء اليومى كما ذكرت عبر الزمن فى: الكر والفر، الإقدام والإحجام، الهجوم والدفاع، النصر والهزيمة، العداء والمصالحة، التحالف والانفصال، فهذا التناقض، ومفرزاته، هما اللذان يدفعان المجتمع نحو التغير، أياً يكن نوع التغيّر. ولقد رأينا: جيش السودان/جيش الرب (ضد) القوات الشعبية الأوغندية/الجيش الشعبى لتحرير السودان، الجنجويد (ضد) الأفارقة فى دارفور/جيش السودان/ جيش الرب/جيش تحرير السودان، إريتريا /مؤتمر البجا (ضد) المعارضة الإريترية/ الجيش السودانى، وهكذا... ولم يزل الصراع والتطور مستمرين.
- تبدأ العملية التاريخية الدامجة للسودان فى الكل الرأسمالى على الصعيد العالمي، وتهيئته كمصدر رئيسي للقيمة الزائدة، ومن ثم فقد شروط تجديد إنتاجه، مع أول اتصال فعلى مع قانون الحركة الحاكم لآلية عمل النظام الرأسمالى على يد عدوانية رأسمال دولة محمد على، ومن بعدها بريطانيا، الشارعة، آنذاك، فى الدخول فى عملية التركيم الرأسمالى والتى تستلزم: (ن) و(ق ع) و(و أ). الأمر الذى جعل السودان هدفاً رئيسياً من أجل الاستحواذ على مصادر هذا التراكم: المعادن، والعبيد، والغذاء. الأمر الذي استصحب ضمان ولاء نخبة معينة يتم صنعها تضمن استمرار تدفق القيمة الزائدة مع المعادن والخام والغذاء حتى بعد الخروج من البلد، كما استصحب تقسيم المجتمع إلى أجزاء غنية وأجزاء فقيرة.
- ودون أن ننسى الصراع فى الشرق، يتطور المجتمع السودانى من خلال الصراع على صعيدين: الشمال/الجنوب، والجنوب/الجنوب. والأخير مفهوم، فهو، كقاعدة عامة، من أجل الماء والكلأ. أما الأول فهو من أجل بسط نفوذ وهيمنة الشمال على الجنوب الغنى بطبيعة حاله، وبصفة خاصة عقب تفجر النفط.
- إن ظهور الثروة النفطية فى أرض السودان، بالتحديد فى الجنوب، إنما يوجب استدعاء منهجية فهم ترتكز على الوعى بكون النفط كسلعة قادرة على نوع ما من التركيم الرأسمالى وفقاً لشروط معينة، إنما يعنى تبلور الصراع، ربما المسلح كقاعدة عامة، فى سبيل الاستحواذ على الريع من جهة، والربح من جهة أخرى، وأهم ما يعنى حكومة الشمال هو الإطباق على الاثنين، على حين أن الكل الجنوبي فى حالة من الصراع الجدلي المستمر، بما لا يمكن معه الكلام عن جنوب واحد يسمح له بالتنمية من خلال النفط. وإن كان من المحتمل أن تتغير تلك الوضعية بعد فترة من إعلان دولة الجنوب المستقلة: جوبا.
- الصراع الذى يتم تسويقه من خلال وسائل الإعلام الغربية، وبالإضافة إلى قيام تلك الوسائل بخلق الوعى العالمى بأن الإبادة الجماعية التي تمارسها القوى العربية في دارفور إنما تستلزم التدخل الدولى وفرض العقوبات على نظام الخرطوم، بالإضافة إلى ذلك فإن الحديث عن الصراع دائماً ما يسير في اتجاه واحد ويصدر عن توجه فكرى أحادي، إذ يتم التعامل مع كل طرف من أطراف الصراع ككتلة واحدة لا تناقض فى أجزائها المكونة لها، إغفالاً لكون كل طرف من الأطراف المتصارعة إنما يتكون هو الآخر من تراتبية تصنف مَن ينتمون إليه، فالقبائل على سبيل المثال ليست كلاً واحداً، وإنما بكل قبيلة تراتبية تشكل قوامها وتحدد أطر تطورها على الصعيد الاجتماعى، بدءاً من القائد الأعلى أو الشيخ أو الرئيس ومالكي الثروة وإنتهاءً بصغار الخدم. ويكون لتلك الطبقية الداخلية دور مهم فى العديد من المسائل المتعلقة بقرار الحرب والمصالحة، والهجوم،...إلخ. وهذا من دون أن نذكر الانقسامات ما بين القبيلة الواحدة إلى عدة قبائل، تنشب فى ما بينها هى الأخرى صراعات، بيد أنها بعيدة عن تسليط الضوء الإعلامى فى الغالب الأعم، وإنما الرجوع إلى الجدول الذى أوردناه سلفاً والمنشغل ببيان تاريخ الصراع وأسبابه بين القبائل فى الغرب فى الفترة من 1932 - 1999، إنما يشرح لنا مدى الصراع أيضاً ما بين القبائل المنتمية إلى عرق واحد وربما قبيلة أكبر واحدة. فمثلاً هناك : الصراع بين الرزيقات والمعالية (قبيلتين عربيتين)؛ الصراع بين بنى هلبة والزيادية والمعالية (قبيلتين عربيتين)؛ الصراع بين بنى هلبة والرزيقات الشمالية (قبيلتين عربيتين)؛ الصراع بين الرزيقات والمسيرية (قبيلتين عربيتين)؛ الصراع بين القمر والفلاتة (قبيلتين غير عربيتين)؛ الصراع بين الزغاوة والقمر(قبيلتين غير عربيتين)؛ الصراع بين الزغاوة والمراتيب (قبيلتين غير عربيتين)؛ الصراع بين الزغاوة والبرقيد (قبيلتين غير عربيتين)؛ الصراع بين الزغاوة السودانية والزغاوة التشادية (قبيلتين غير عربيتين).
فأين الصراع العرقى؟ إن الصراع على الأرض. الذى لم تدّخر الحكومة أى وسع لتأجيجه بسحب الأراضى وإعادة توزيعها فى أقاليم تعتمد أساساً على التراتبية القبلية وحكم الأعراف السائدة ابتداءً من التمركز فى الأرض، وبصفة خاصة بقارة الجنوب، والمساليت الذين برعوا فى الزراعة وبصفة خاصة الفاكهة بشكل باهر، ولذا سيكون أي اعتداء على الأرض هو اعتداء على وجودهم الاجتماعي ذاته.
- إن تلك الانشقاقات الداخلية التى تكون بين قوى الجنوب بوجه عام لا تتكون بين عشية وضحاها، وإنما هى نتاج تفاعل ديالكتيكي ما بين الرغبة في الثروة، بما يعنى ذلك معادة للأقوى المهيمن، وما بين الرغبة فى حماية هذا الأقوى والأكثر عدداً، وهذا هو القانون العام لجميع الانقسامات والتطورات على أرض الواقع، وبصفة خاصة جداً داخل القبائل.
- إن أوضح مثل على تطور المجتمعات من خلال التفاعل الديالكتيكى انقسام السودان نفسه؛ فقد أسفر النزاع الممتد عبر سنوات بين الشمال وبين الجنوب عن نشؤ دولتين لهما خصائص الدولة الأولى (السودان) وخصائص تخلقها كل دولة بمعرفتها من خلال الحراك الاجتماعى بداخلها وتفاعل عناصرها الداخلية، ومع الزمن يتم دمج الخصائص القديمة فى الخصائص الجديدة فى كيان يمثل خصائص جديدة تجمع ما بين خصائص السودان وخصائص شمال السودان (العربى) فى الشمال، وخصائص جديدة تجمع ما بين خصائص السودان وخصائص جنوب السودان (الزنج/الأفارقة) في الجنوب(98). أي كما قال ابن خلدون.
- السودان دولة، أو هكذا صارت بفعل التدخل الاستعماري، ذات موارد هائلة، وتتركز معظمها في الجنوب، ومعنى انفصال الجنوب، حرمان الشمال من تلك الموارد، في مقدمتها النفط، في حين أن الشمال يحول دون الوصول السهل إلى المنافذ المؤدية إلى العالم بحراً، الأمر الذى يثير قطع مسافات بعيدة عبر الأراضي الإريترية، أو الإثيوبية، وصولاً إلى البحر الأحمر، ومنه إلى العالم الخارجي.
- بسبب فقدان السودان لشروط تجديد إنتاجه، فإنه يعتمد، كأحد الأجزاء المتخلفة، على ما يحدث خارجه فى الأجزاء المتقدمة، التي تتحكم فى مصيره. وما السلطة التى تدّعى حب الشعب، والتضحية من أجله، وتسعى إلى أن تستمد من عدوانية الإمبريالية قوة دعائية لدى الشارع السودانى، إلا أهم وسائل تسرب القيمة الزائدة إلى خارج المسام، بما يعنى المزيد من التبعية والتخلف.
- وبدلاً من طرح الأزمة طرحاً منضبطاً، يبدأ من حيث فهم قانون الصراع الطبقى، ودور الرأسمال آنياً فى تأجيج الصراع، أصبح الطرح، وهو الأسهل لدى الفكر العاجز، ابتداءً من الصراع العرقى، الذى لا يُعبر إلا عن مظهر سطحى لحقيقة الصراع الراهن.
- يهيمن على المسرح الاجتماعى الاقتصاد المعاشى، أى الإنتاج من أجل الحياة، والقليل من أجل السوق، مثل بعض المنسوجات و"المراكيب" أى الأحذية وهى عادة رديئة الصنع فى دارفور مثلاً، إلا أن سائر مناطق النزاع والتوتر تظل مناطق ذات اقتصاد معاشى. ما عدا بعض الأماكن التى شهدت إستثماراً أجنبياً مباشراً فى بعض المجالات والتي أبرزها الزراعة وما يتعلق بها من تربية الماشية وصناعات الألبان. مع مراعاة أن جُل المصانع، وكل المؤسسات العامة والسيادية والوزارات، والأجهزة القومية، وكل المصارف وكل الشركات تقع فى الخرطوم حيث السلطة والثروة.
- يكون الاقتصاد المعاشى الذى يُهيمن على مجمل الحركة الاجتماعية هو أفضل ما يمكن بالنسبة للنظام فى العاصمة؛ فهو الذى يمكنه من تعبئة الفائض نحو المدينة ثم من المدينة إلى الخارج، ومن ثم تسرب القيمة الزائدة، ثم الدولارات الأمريكية، ثم الأسلحة، ثم الحروب المفتوحة.
- ولا تمارس العاصمة الخرطوم، كشكل تاريخى من أشكال المدينة الاستعمارية التابعة، فقط دور الموزع بالنسبة للفائض الزراعى (بما يحتويه من قيمة زائدة) وإنما تشرع أيضاً العاصمة، بإنشاء مدينة جياد الصناعية فى ممارسة نفس الدور على صعيد الصناعة (بما يحتويه بالطبع من قيمة زائدة) منتَجة بسواعد ابناء السودان، النازحين والفاريّن من الموت جوعاً أو حرباً. والمسألة لا تتوقف عند حدود تعبئة الفائض من الريف، بواسطة المدينة، ثم تحويله إلى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى، بل تتعدى ذلك إلى ما هو أهم أى خروج الفائض (بما يحمله من قيمة زائدة) لا يستفاد منها فى التنمية الوطنية المستقلة المعتمدة على الذات، بل تذهب لتدعيم المراكز الصناعية المختلفة في الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر؛ من خلال عملية موسعة من الاستيراد من أجل الاستهلاك. أى أن القيمة الزائدة المنتجة فى الأجزاء المتخلفة(ومنها السودان، محل إنشغالنا) تذهب عبر الحدود كي تمول مصانع الأجزاء المتقدمة.
- يتبدى الاطار العام للاقتصاد المعاشي والذي من خلاله يُعبأ الفائض (الزراعى) نحو المدينة، ثم إلى الخارج، محملاً بالقيمة الزائدة، فى أن ليس السودان أدنى علاقة بالتصنيع، وإنما ينشط القانون العام للنظام الاقتصادي للرأسمالية (ن - ق ع - و أ - س- Δ ن) فى حقل الزراعة ويكون على الفلاح أو العامل الزراعي بعد أن يستقطع من المحصول ما يكفى لتجديد إنتاج نفسه، أن يدفع بالفائض إلى النظام (المدينة) عن طريق علاقة تعاقدية غير متكافئة، إذ غالباً ما تنصب فى صالح الطرف الاقوى. الحكومة، من خلال أسطورة بورجوازية خالدة اسمها العقد شريعة المتعاقدين.
- كما رأينا حينما ناقشنا مجمل الوضع الاقتصادي أن السودان دولة زراعية بالدرجة الأولى، وبالنسبة إلى وسائل الإنتاج المستخدمة فى حقل الزراعة السودانية فهى جميعها أدوات أجنبية الصنع لا يشارك السودان في أى مرحلة من مراحل تصنيعها إطلاقاً، اللهم بعض الأدوات البدائية التاريخية التى لم يزل الفلاح يستخدمها بالطريقة القديمة إياها، وهي الأخرى فى طريقها إلى التقلص والاختفاء مع ميكنة الزراعة. بما يعني الأخذ فى التطور بخفض معدلات إنتاج القيمة الزائدة، وتسريع أليات إنتاجها، وهذا التطور لا يمثل طفرة يتميز بها السودان عن غيره، أو تتميز بها دولة ما عن غيرها، وإنما هو الصفة السائدة للنظام الرأسمالى العالمي المعاصرـ الذى يعمل باستمرار على تثوير عملية الإنتاج، وبصفة خاصة وسائل الإنتاج. وما يؤكد وجهة نظرنا هذه هو إنشاء مدينة "جياد" الصناعية على بعد 50 كم من الخرطوم(99)، وهى المدينة التى تتوسم فيها الخرطوم أن تقوم بإدخال السودان عالم التصنيع.
نضيف هنا أن الفلاح السودانى لا يتعامل مع السوق الدولية بشكل مباشر، وإنما يقوم بتعبئة المنتَج بما يحويه من قيمة زائدة، بالكيفية التى سبق لنا شرحها فى مثلنا التقليدى، إلى المدينة، ومن المدينة تنطلق السلعة إلى السوق الدولية. وهو الأمر الذى يحدث تماماً بالنسبة لنصيب الحكومة من النفط قبل إعلان الانفصال، والجدول أدناه يوضح حجم التسرب بالكيفية السابق شرحها؛ بالفارق الحسابى ما بين الصادرات والواردات، مع مراعاة أن الزيادة فى قيمة الصادرات لم تكن نتيجة نمو صناعى وإنما نتاج نمو فى حجم صادرات النفط.
تلك هي الملاحظات التى تمثل الخط المنهجي العام الذي نقترحه، وندعي فائدتها في سبيل الإجابة على ما تثيره المسألة السودانية من أسئلة وإشكاليات. ومن جانبنا سنترك الإجابات للمزيد من الحوار، بغية إثراءه، إذ لم نهدف، كما أعلنا منذ البدء، إلى تقديم إجابة، إن ما نقدمه هو طريق للإجابة، الطريق الذي يمكن لسالكه أن يكتشف المزيد من الإشكاليات الثرية في مضمونها والقادرة على تكوين الذهنية المتجاوزة التي تملك التعامل مع الواقع لا بغرض تفسيره وإنما بغرض تغييره. رفضاً للانتحار الجماعي، بقيادة نظام عالمي همجي، وبحثاً عن مشروع حضاري لمستقبل آمن. انه المشروع الحضارى الذى قوامه السيطرة على تسرب القيمة التى ينتجها المجتمع مع أجل إستخدامها فى الداخل، في سبيل بناء إقتصاد قومي قادر على التنمية المستقلة المعتمدة على الذات في مواجهة إمبريالية وحشية. والآن من المهم منهجياً فهم ما بعد الانفصال.
1- ما بعد الانفصال
من المفارقات أن البعض من الذين تباكوا، ولم أكن منهم، على انفصال الجنوب عن الشمال (لاحظ إنفصال عن الشمال وليس عن السودان وتلك هى اللغة السائدة بوجه عام) وقاموا بإعطاء دروس فى الوطنية والقومية، حينما بات أمامهم الانفصال حقيقة لا مهرب منها، إذ لا يرضى الجنوب بحاكمية الشمال، ولم يرفض الانفصال من الجنوب سوى 1% مقابل 99%، نقول إن هؤلاء قاموا بعمل الدراسات الموسعة التى تتعلق بأثر هذا الانفصال على الشمال (فقط)، من دون اعتناء بحثى علمى بالجزء الثانى الذى انفصل عن الوطن، في تصورهم، وكأنه ذهب بصراعاته غير مأسوف عليه؛ فلقد أراح واستراح، من منظورهم، والقائمة طويلة(100). ولكن لن ننشغل هنا بمناقشة إشكالية الانفصال فى ذاته؛ إذ ما يعنينا منها هو الأثر الذى تخلفه هذه الإشكالية فى الشمال وفى الجنوب.
2- أثر انفصال الجنوب فى الشمال
من الأمور التى كانت واضحة للعيان أن الانفصال كان متوتراً، إذ صحبته، ولم تزل تصحبه عمليات عسكرية وانفلات أمني كبير في كل من الجزأين، وهو الأمر الذى سينعكس بلا شك على الأوضاع الداخلية في كل من بلد الشمال وبلد الجنوب. وفى ضوء ذلك تظل هناك حزمة من الافتراضات يمكن النظر إلى مستقبل الشمال من خلالها، وهى تتلخص في ما يلي:
(أ) لن تجد المعارضة المتربصة،كالعادة، فرصة أفضل من تلك؛ فقد فشل النظام الحاكم بقيادة البشير في منع الانفصال، وتلك فرصة مدهشة بالنسبة إلى المعارضة لإدانة الجبهة الحاكمة أمام الرأي العام الشعبي داخل السودان. الأمر الذي يسرع من وتيرة الاستقطاب السياسى بين المعارضة وحزب المؤتمر الحاكم.
(ب) بات من الواضح بعد انفصال الجنوب أن هناك ثمة أجزاء أخرى تعانى بسبب نظام الخرطوم، ومن ثم سيكون من لوازم الأمر زيادة الضغوط الدولية على السودان، فى مجالات التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية ورعاية حقوق الإنسان، وتحقيق بنود اتفاقيات السلام، وغيرها، وذلك بقصد الضغط على الحكومة حتى تستجيب لمطالب الشرق وأهل دارفور وولايتى جنوب كردفان والنيل الأزرق، أو يتغير النظام.
(ج) خروج نصيب حكومة السودان من عائدات نفط الجنوب، وهى تساوى حالياً حوالى نحو 80% من كل عائدات النفط، وهو الأمر الذي سيستتبع بلا شك انخفاضاً حاداً فى النفقات العامة التى هي متدنية في الأساس، والتوقف عن الوفاء بالالتزامات الدولية، ناهيك بأن المديونية الدولية وتوزيع نسبتها بين البلدين محل إشكالات معقدة. وهو ما يعنى، من ضمن ما يعنى، عدم إمكانية حصول الشمال على قروض جديدة.
(د) سيؤدى ذلك، فى تصورى، إلى الدفع بالنظام الحاكم إلى محاولة إعادة فرض هيمنته على الجنوب، وبصفة خاصة أماكن النفط، وإنما بطريقة أخرى، لا تقل عسكرية بطبيعة الحال، أى بخلق بؤر التوتر واختلاق سبُل عديدة للنزاع تتيح له مساحة التدخل العسكرى، وبصفة خاصة في إبيى، التى عادة ما يُقرن اسمها بعبارة "الغنية بالنفط".
(هـ) لن تكون زيادة نفقات التسليح، والدخول في حروب (دولية) مفتوحة مع الجنوب، فى مصلحة نظام الخرطوم؛ إذ سيكون توقف الاستثمارات الأجنبية المباشرة هو الأمثل لجميع المستثمرين، على اختلاف جنسياتهم وتوجهاتهم.
(و) مع تردى الوضع الاقتصادي والخلل الطارىء في الميزانية الاتحادية، لن تجد الخرطوم سوى زيادة الضرائب والرسوم الجمركية، وهى الزيادة التى من المؤكد أنه لن تصاحبها زيادة فى الأجور، وهذا يعنى زيادة العبء الحياتى اليومى على الطبقات المتوسطة والضعيفة التى ظلت تعانى لسنوات من الضائقة المعيشية، ولم تتحسن أحوالُها حتى بعد تدفق عائدات النفط، وسيُفضى ذلك إلى المزيد من الاضطرابات السياسية.
(ز) أعتقد أن انفصال الجنوب قد يغرى الشرق، كما يغرى الغرب، ودارفور تحديداً بالانفصال كذلك. الأمر الذى ينتهى بالخرطوم إلى عاصمة لدولة حبيسة.
3- أثر انفصال الجنوب في الجنوب نفسه
الانفصال كان رغبة أكيدة لدى شعب الجنوب، ووافق عليه (99%) من هذا الشعب، لماذا؟ الإجابة على السؤال تحتوى الإجابة على سؤال مواز يتعلق بأثر انفصال الجنوب على الجنوب نفسه:
(أ) من الأسباب الرئيسية الدافعة إلى الانفصال، كما شهدنا، تلك الأوضاع الاقتصادية المتردية التى يعانيها شعب الجنوب، على الرغم من أن الثروة تستخرج من أراضيه وعلى ذلك يرى الجنوب أن من مصلحته، بالانفصال، السيطرة المنفردة على ما فى باطن الأرض من ثروة فى سبيل تنمية ونهضة شاملتين، لاسيما أن إسرائيل والولايات المتحدة من أهم الحلفاء الراغبين فى تقديم ما يلزم من أجل تينك النهضة فى مقابل النفط.
(ب) الأمر الذي قد يشير إلى إمكانية إضافة دولة ريعية أخرى إلى قائمة الدول الريعية، مع اختلاف يتبدى فى الصعوبة الشديدة التى سيجدها أى نظام ديكتاتورى فى الجنوب يسعى للسيطرة على الحكم، فالجنوب مسيّس ومسلح وتاريخه هو تاريخ حروب، فالحراك الاجتماعى فى الجنوب يدور فى فلك الحرب؛ وما تحتويها من تناقضات.
(ج) أصدر البنك الدولى في مايو 2012 تقريراً، لم يعد سرياً، يحذر فيه أن دولة جنوب السودان على وشك الانهيار. جوهر مشاكل جنوب السودان الاقتصادية هى الاعتماد المطلق على النفط (يمثل النفط 98% من موارد الجنوب) ومن ثم الاعتماد الحتمى على الشمال كى يستطيع تصدير النفط. بالإضافة إلى ذلك فإن الجنوب على ما يبدو ليس منشغلاً كثيراً بتنويع اقتصاده بعيداً عن النفط. مثلاً، ما زال القطاع الزراعى بجنوب السودان يعانى ضعف الاستثمارات برغم من أن أكثر من 50% من مساحة جنوب السودان أرضاً خصبة وعالية الجودة، لكن فى موازنة 2012/2013 خصصت الحكومة 60% من نفاقاتها على الجهات الأمنية، بينما تم تخصيص 17% للزراعة ومشروعات البنية التحتية.
(د) في ظل توحيد مختلف عناصر شعب الجنوب وقبائله (دنكا، شُلك، نوير،... إلخ) فى كيان سياسى متطور يجمع في ما بينهم، فربما تنبىء الأيام عن الحد من الصراعات الداخلية على الماء والكلأ، وتبلور نوع آخر من الصراع على صعيد مختلف يتبدّى حينما تنجح قوى اجتماعية معينة فى فرض سيطرتها على أرض الواقع على باقى القوى الاجتماعية.
مما سبق يتضح لنا إن الصراع الذي تم تسويقه عالمياً من قبل المؤسسة الإعلامية الغربية ليس صراعاً عرقياً، وإنما هو فى حقيقته صراع بين طبقات متفاوتة الحظوظ من الثروة والسلطة، وما الاشتباكات المسلحة إلا المظهر السياسى لهذا الصراع. الصراع الذى تكون قاعدته الاقتصادية مرتكزة على آليات تجديد إنتاج التخلف، ولا يأخذ المجتمع فى التطور والتغير إلا من خلال الصراع الجدلي على مستويين:
المستوى الطبقى: الذى يتجسد فى جدلية حرمان الطبقات الأشد فقراً من السلطة والثروة، بالتناقض مع تمتع الطبقات الأشد ثراءً بكل السلطة والثروة. ليس على صعيد الدولة "شمال/جنوب" فحسب، وإنما أيضاً داخل القبائل المتناحرة، وقد تُنتِج هذه الجدلية بعضاً من تنازل الطبقات الأعلى عن بعض السلطات، كما صرح البشير مؤخراً فى 28/6/2011 بأن منصب نائب الرئيس سيكون من حق دارفور بعد الانفصال، وكان رد دارفور جاهزاً، فالمسألة ليست متعلقة بموقع نائب رئيس وإنما هى أكبر من ذلك، وتتعلق بالثروة والسلطة وإنما بدءاً من إرادة تعاقدية حرة بين نظام الخرطوم وأهل دارفور.
المستوى الاقتصادي: الذي يتجسد فى جدلية "ارتفاع معدلات إنتاج القيمة الزائدة المتناقض مع الضعف المزمن في أليات إنتاجها" وقد تُنتِج هذه الجدلية أيضاً بعضاً من التطوير فى حقل الصناعة والزراعة ونحوهما، كما تبدّى ذلك نسبياً فى المدينة الصناعية "جياد". ويرتبط بجدلية المستوى الاقتصادى على صعيد الاقتصاد الكلى جدلية أخرى تتعلق بتسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً إلى خارج الاقتصاد القومى، ويتبدى ذلك بوضوح شديد حين النظر إلى جدول الصادرات والواردات بعد خصم قيمة النفط، وسنجد حينها أن هناك ثمة مليارات تخرج/تتسرب سنوياً من أجل شراء سلع (غذائية، واستهلاكية، وإنتاجية تتوقف عليها شروط تجدد الإنتاج القومى) تُنتَج فى الأجزاء المتقدمة فى معظمها: تلك المليارات هي القيمة الزائدة. إنها القيمة التى أنتجتها سواعد الشعوب الفقيرة فى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر.
وإن التفوق في المرتبة يكون للمستوى الأول الذي يحدد شكل المستوى الثاني، ومستويات تطوره








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز