الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الحقيقة في حياة برتراند راسل

هاني عبد الفتاح

2019 / 4 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قد تكشف لنا "سيرة حياة" الفيلسوف عن جانب مهم من إحدى أحد عناصر نسقه الفلسفي وليس كل العناصر. لكن هذا أيضا ليس دائما, بل قد تعجز دراسة شخصيته عن الوصول إلى أي من جوانب فكره, فربما كانت الشخصية مثلا معنية بالفكرة دون أن يكون للفكرة تأثيرا عليها على النحو الذي يرسم لنا مزجا بين الشخصية والفكرة, أو بين الذات والموضوع, أو بين الداخل والخارج, او بين الإنسان والعالم, وهذا ليس بمستبعد, فهذا بالضبط ما يُسمى بالموضوعية المجردة تماما عن الانفعالات والعواطف وردود الأفعال.

والصواب أن أفكار الفيلسوف هي التي توجّه حياته , وليس العكس, وبالتالي فإن البوابة لمعرفة شخصية الفيلسوف هي "سيرة حياته", والبوابة لمعرفة أفكاره هي "أعماله" مع الأخذ في الاعتبار أننا لا ننكر قطعا أن بين الشخصية وبين أعمالها قاسما مشتركا, هذا القاسم قد ينكشف مع تفعيل نظرية الفعل ورد الفعل.

وبرتراند راسل لا يمكن استثناءه من ذلك, فهو من الذين يحيون الفكر, لا من يكتبوه فقط , فيمكننا أن نعود إلى سيرة حياته كي تكشف لنا جانبا مهما من أفكاره, فهو نفسه يصرح بأن مجمل حياته وتجاربه الشخصية كانت نتيجة فكر وتأمل, وليس أصدق من أن يشهد المرء على نفسه.
راسل فيلسوف انجليزي, ورائد من رواد الفلسفة التحليلية, والتي تكرس اهتمامها بمنطق اللغة وتحليل الوقائع من خلال الألفاظ, أشتهر هذا التيار في النصف الثاني من القرن العشرين, وكان من بين من تأثر بها من العرب زكي نجيب محمود.

كتب راسل سيرة حياته في كتاب وسمه بـ"فلسفتي .. كيف تطورت", ويبدو من العنوان أن فلسفة راسل قد مرت مراحل وتطورات عدة , تشكلت فيها على النحو المعروف لدينا. فهو يحكي في الكتاب هذا, أنه قد طاف بالمثالية ثم انقلب عليها إلى الواقعية ثم التجريبية, وتأثر بمعاصريه أمثال فتجنشتين ومور وغيرهما.

ومهما يكن من أمرٍ, فإن الفيلسوف الحق هو الباحث عن الحقيقة, والحقيقة سعي وليست وصول, وفي المضي قدما نحو هذا السعي؛ يغير الفيلسوف آراءه حسبما تتوافر لديه الأدلة , وحسب درجة اليقين التي يتلقاها الفيلسوف من تلك الأدلة. ولقد كان راسل من هؤلاء الناس بحق, إذا بلغ من تغيير أراءه حدا وصفه البعض بالاضطراب, إذ كان فيلسوفا يحاكي فلسفته, فقد أخذ بأهم سمات التفكير الفلسفي التي تكمن في الشك والاستقلالية, فقد عاش طوال حياته مستعدا أن يغير رأيه في المسألة الواحدة أكثر من مرة, وما ذلك إلا لأنه يسعى نحو بلوغ ما يتوفر لديه من قناعة ويقين.

الأمر الذي يفسر صعوبة "الحقيقة" التي كان ينشدها راسل, من وضوح وموضوعية وخارجيته عن نطاق الذات, فلم يكن ينشد حقيقة نابعة من خبرة وحسب, بل كان يطلب حقيقة نابعة من خبرة الناس كافة. الأمر الذي جعل مترجم هذه السيرة يقول عنه في مقدمتها : «إن راسل يبحث عن حقيقة مطلقة, وعلى الرغم من أنه مؤمن بضيق الخبرة الإنسانية؛ فإنه لا يجد سواها للعلم والمعرفة. وعلى الرغم من أنه يشعر بضآلة الإنسان بالنسبة لرحابة الكون؛ فإنه لا يجد سواه شيئا ذا قيمة».

ورغم شك راسل الفلسفي والنقدي الذي صاحبه طوال مسيرة حياته؛ إلا إنه ظل مخلصا لمبادئه الفلسفية أشد إخلاص, حتى وإن كان ذلك على حساب دغدغة مشاعره, وسلامته النفسية, فيقول: «قطعت على نفسي عهدا أن أتبع العقل في كل الأمور, وألا أتبع الغرائز التي ورثتها عن أجدادي». على أن كان لديه منذ صغره اتجاها وجدانيا حادا, لكنه كان يضحي به في حال غياب سندا له من العقل, فيقول: «كنت آسف على فقدي عقيدتي الدينية, وكنت أحب جمال الطبيعة حبا ضاريا, وكنت أقرأ في تعاطف وجداني بعض الحجج العاطفية دفاعا عن الدين, على الرغم من أنني كنت أرفض هذه الحجج رفضا عقليا حاسما».

لقد كان وفاء راسل للحقيقة وراء أزمة له مع أهله ومعارفه, الأمر الذي جعله يزهق في سبيلها دماء راحته وسعادته , فيقول : «ولست أعتقد أن البحث عن الحقيقة قد زاد من سعادتي بأي حال من الأحوال. فهو قد أكسبني – فقط – شخصية أعمق مما كان لي, وازدراءً للتوافه والهزل, لكنه في الوقت ذاته أذهب عني بشاشتي, وضاعف المشقة التي تواجهني لكي أصطفي لنفسي أصدقاءً خُلّصا. وأسوأ ما في الأمر أنه _أي قول الحقيقة_ منعني من أن أخالط أهلي مخالطة حرة, وبهذا جعلهم غرباء على بعض أفكارٍ من أعمق أفكاري, ولو حدث , لسوء حظ, وأن أطلعتهم عليها؛ لأصبحت في الحال موضوعا للسخرية, اجدها مريرة إلى حدٍ يفوق الوصف .. وهكذا يمكنن أن أقول, إن نتائج الحقيقة كانت سيئة أكثر منها طيبة».


ذلكم راسل, الذي كان يعيش في بيئة من المفترض أنها كانت تحمي الحريات وخصوصيات الأفراد الأيدولوجية, فما بالك بمن يعيش في جغرافية يستبد بها الرأي الواحد ويحرك قبلتها العقل الجمعي! الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن أزمة الحقيقة تكاد تكون واحد وتجربة اغتراب الفيلسوف أيضا تكاد تكون كذلك في صميمها لا تختلف إلا في الشكل والتفاصيل, ومبغضي الحقيقة واحد , يفرق بينهم الثياب والرداء, فثوب السياسي, رجل الدين , العقل الجمعي, العادات والتقاليد, كلها ثياب مختلفة في الشكل لكن جوهرها واحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات القاهرة بين الموقف الاسرائيلي وضغط الشارع؟


.. محادثات القاهرة .. حديث عن ضمانات أميركية وتفاصيل عن مقترح ا




.. استمرار التصعيد على حدود لبنان رغم الحديث عن تقدم في المبادر


.. الحوثيون يوسعون رقعة أهدافهم لتطال سفنا متوجهة لموانئ إسرائي




.. تقرير: ارتفاع عوائد النفط الإيرانية يغذي الفوضى في الشرق الأ