الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نسورٌ أتراكٌ في ثرى دمشق

وليد الحلبي

2019 / 5 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


( مغامرة الطيارين الأتراك في رحلتهم من استامبول إلى القاهرة)
ربما كانتا من أكثر المغامرات تشويقاً، تلكما الرحلتان الجويتان اللتان قام بهما طيارون أتراك قبل بضعة أشهر من قيام الحرب العالمية الأولى.
وبداية القصة تعود إلى طموحات الدولة العثمانية في امتلاك سلاح جوي تضاف قدراته إلى قدرات الجيشين البري والبحري، فبعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وعزله عام 1908 على يد أنصار حزب تركيا الفتاة، أسست الدولة العلية سلاح الجو عام 1909، وأرسلت عام 1910 بعثات لتدريب الطيارين في فرنسا، وكان في طليعة أولئك الطيارين كل من صادق بيك وفتحي بيك، ثم أسست الأكاديمية الجوية في استامبول عام 1912، تبعتها أكاديمية طيران البحرية عام 1914، وتم شراء الطائرات من فرنسا وألمانيا، ووصل عددها إلى 15 طائرة، وعندما غزت إيطاليا ليبيا عام 1911، التي كانت ما زالت إلى ذلك الوقت خاضعة للعثمانيين، استخدم الإيطاليون الطائرات في قصف مواقع الأتراك، الذين تمكنوا لأول مرة في تاريخ الطيران من إسقاط طائرة إيطالية وأسر قائدها.
بعد الانقلاب الدستوري(1908)، وخسارة الدولة بعض ولاياتها وبالخصوص ليبيا عام 1912، رغبت قيادة الجيش في استعادة هيبة الدولة، وكانت الرحلتان اللتان قامت بهما طائرتان عثمانيتان (من صنع ألماني) من استامبول إلى القاهرة عبر بلاد الشام، مظهراً من مظاهر استعادة الدولة العثمانية هيبتها التي ظنَّ البعض أنها قد تضعضعت:
الطائرة الأولى: فمع آخر أسبوع من شهر فبراير – شباط - من عام 1914، أي قبل حوالي أربعة أشهر من قيام الحرب العالمية الأولى، انطلقت الطائرة الأولى من استامبول بوداع حاشد كان في مقدمة جموعه السلطان نفسه، وكانت تحمل اسم (معاونت مليَّة) أي (نصرة الدين)، وقد قاد الطائرة ضابطان هما: اليوزباشي (نقيب) فتحي بيك، وهو خريج فرنسا، كما تلقى دورة على الطيران في كلية بريستول البريطانية، أما الثاني فهو صادق بيك، راصد طيارة وملازم مدفعي ومرافق نظارة الحربية (كما ذكر على شاهدة قبره في دمشق). انطلقت الطائرة من استامبول باتجاه الجنوب الشرقي، ولا شك أنها قد هبطت في محطات متعددة داخل الأناضول قبل أن تصل إلى حلب مع نهاية شهر شباط- فبراير-، حيث أقيم للطيارَيْن احتفال كبير شارك فيه وجوه المدينة وكبار المسؤولين الحكوميين فيها، وفي أول شهر آذار - مارس – هبطت الطائرة، بعد انتظار وتشوق لرؤيتها، في المرج الأخضر – ما عرف فيما بعد باسم الملعب البلدي قرب ساحة الأمويين - بدمشق، حيث كان في استقبالها حسين ناظم باشا والي دمشق، ومشير الحربية، وكبار أعيان المدينة، وكان من بينهم المجاهد فخري البارودي، وعلي الجزائري ابن الأمير عبد القادر الجزائري وابنه عبد القادر، إلى جانب حشد قدره بعض معاصريه بمئة ألف (أرى في هذا الرقم مبالغة كبيرة، إذ أن عدد سكان دمشق في ذلك الزمن بالكاد كان يصل إلى هذا الرقم)، وقد أقام الطياران ثلاثة أيام في دمشق، حظيا خلالها باستقبال حاشد أينما حلوا في أحياء المدينة وأسواقها، كما نظمت فيهم القصائد، ومنها قصيدة "محمد كرد علي" التي قال فيها:
يا سماء الشام يا خير سماء رحبي بالضيف مرفوع اللواء
ضـيفنا يـا شـام نسر ناطق سابـق النسر وعقبان السماء
ضيـفـنا طيــارة فـارســــها صيَّر الفولاذ طيراً في الفضاء
أمـلاكٌ أنـت (يـا فتــحي) أجب أم ولـيٌّ مـن كبـار الأوليـاء
وفي اليوم الثالث من الشهر نفسه، وُدعت الطائرة بطيارَيْها بمثل ما استقبلوا به من حفاوة وتكريم قاصدة القاهرة عبر فلسطين، وبعد ساعات من إقلاعها باتجاه الجنوب المنحرف قليلاً إلى الغرب، وقبل وصولها إلى مدينة إربد، انحرفت الطائرة يميناً لكي تعبر بحيرة طبريا متجهة غرباً إلى الساحل الفلسطيني، غير أن سوء الطالع كان بانتظارها، فقد تحطمت بعنف قرب قرية السمرا، على بعد كيلومتر ونصف شرق بحيرة طبريا، وكان تحطمها هائلاً بحيث لم يتم تمييز جثتي الطيارين إلا عن طريق أوراقهما الثبوتية، ويبدو أن سبب السقوط كان هبوب رياح عنيفة مفاجئة من جهة الشرق، دفعت الطائرة من خلفها إلى الانحدار بعنف باتجاه منخفض بحيرة طبريا لكي تتحطم شرقها، أما العامة من الناس، فقد أرجعوا سبب سقوط الطائرة إلى الحسد الذي أصابها به بعض الحساد عندما رأوها تحلق بعنفوان مقلعة من أرض دمشق. بعد ثلاثة أيام وصل جثمانا الطيارين، صادق بيك وفتحي بيك، إلى دمشق بالقطار، حيث ووريا الثرى في باحة ضريح البطل صلاح الدين الأيوبي – حيث ما زالا، مع رفيقهم الثالث، إلى اليوم -، وسط مأتم لم تشهد دمشق له مثيلاً في تاريخها.
الطائرة الثانية: بعد أقل من أسبوع، وتأكيداً على إصرار وتصميم الطيران العثماني على إثبات وجوده، وصلت طائرة ثانية إلى دمشق بقيادة الملازم طيار نوري بيك، ومساعد له، غير أنها لم تستقبل بمثل الحفاوة التي استقبلت بها الطائرة الأولى بسبب موجة الحزن التي سيطرت على أهل دمشق، ثم غادرت الطائرة دمشق متجهة إلى القاهرة عبر فلسطين أيضاً، ويبدو أن طيارها قد غير وجهة سيره خلافاً للطائرة الأولى، فاتجه إلى الجنوب الغربي، لكي يعبر شمال الجليل وصولاً إلى الساحل الفلسطيني، لكن سوء الحظ نفسه الذي أسقط الطائرة الأولى كان للثانية بالمرصاد بالقرب من يافا، فسقطت يوم 8 مارس 1914 في البحر، فقتل قائدها نوري بيك على الفور، ونقل جثمانه إلى دمشق ليوارى الثرى إلى جانب رفيقيه، وسط جو رهيب من الحزن الذي لم يكد يخبو أواره في نفوس الدمشقيين على الشهيدين الأولين، بينما نجا مساعده بأعجوبة، ويقال أنه قد ساد في ذلك الوقت – بعد استيعاب الصدمة الأولى - شعور بالطمأنينة والراحة النفسية عند أهالي الطيارين الثلاثة، لأنهم تشرفوا بدفنهم إلى جانب البطل صلاح الدين الأيوبي، وفي ثرى (شام شريف).
كرمت تركيا أبطالها الطيارين، فأطلقت اسم (فتحية)* على مدينة تركية ناشئة تخليداً لاسم الطيار النقيب فتحي بيك، وأصدرت مجموعة من الطوابع البريدية تحمل صور الطيارين الشهداء وصور الطائرتين، كما أقيم - تخليداً لذكراهم وتمجيداً لبطولتهم - نصب تذكاري لهم في قرية السمرا شرق بحيرة طبريا، كذلك يقوم المسؤولون الأتراك بوضع أكاليل الزهور على أضرحتهم في 18 مارس من كل عام، والذي يصادف عيد الشهداء.
في الختام، لكل منا الحق في اعتبار تلك الأيام جزءاً لا يتجزأ من تاريخٍ جمعنا بالإخوة الأتراك لأربعة قرون بالتمام والكمال (1516-1916)، أو يمكن اعتبارها جزءاً من التاريخ البشري، حاول الإنسان فيه أن يثبت جدارته وأهليته للاستحواذ على أحدث مبتكرات عصره، وتصميمه على تحقيق ما كان يعتبر في ذلك الزمان مهمة مستحيلة.
*- مدينة ساحلية تقع جنوب غرب تركيا على البحر المتوسط، تبعد عن أنقرة بمسافة 500 كم، وجنوب استامبول بنفس المسافة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فخر المطعم اليوناني.. هذه أسرار لفة الجيرو ! | يوروماكس


.. السليمانية.. قتلى ومصابين في الهجوم على حقل كورمور الغازي




.. طالب يؤدي الصلاة مكبل اليدين في كاليفورنيا


.. غارات إسرائيلية شمال وشرق مخيم النصيرات




.. نائب بالكونغرس ينضم للحراك الطلابي المؤيد لغزة