الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متدينون جدا...فاسدون جدا

نبال تيسير الخماش

2019 / 5 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عنوان المقال هو تكثيف لواحدة من جملة استخلاصات وملاحظات عديدة دوّنها المستعرب الياباني، نويواكي نوتوهارا، بعد احتكاك مباشر وعميق مع عدد من المجتمعات العربية ولمدة تقارب أربعين عاما متتالية، وبشكل أكثر تحديدا مجتمعات ما يعرف ببلاد الشام ومصر. ونتيجة هذا الاحتكاك والتعامل اليومي مع مجتمعات المنطقة، تشكلت لدى الأكاديمي واللغوي الياباني عدد من الصفات المشتركة التي تتصف بها هذه المجتمعات، وسجل انطباعاته هذه وشرحها بإيجاز في كتاب ذاع صيته فور نشره عام 2003 تحت عنوان " العرب: وجهة نظر يابانية".
الكتاب كان زاخرا بالعديد من الانطباعات، أبرزها: أن الحكومات في حالة سخرية دائمة من الناس، أن هذه المجتمعات تكتفي كنوع من أواع إثبات الذات على الساحة العالمية من استعادة تاريخها دون إضافة شيء مهم لواقعها، أن التفاصيل الدينية أهم شيء يحرصون على تعلمه وتبادل تفاصيله ودقائقه فيما بينهم، إلا أن ذلك لم يكن حائلا دون قابلية هذه الشعوب للفساد إضافة إلى تدنى لديهم صفة الاحترام فيما بينهم. يراهم في كتابه شعوبا نمطية في أسلوب تفكيرها ومظهرها، تتملكها بصورة مستمرة علامات التوتر والعدائية، وهي لا تستفيد من تجاربها وتعيد أخطاءها على نحو مستمر ...وهناك العديد من الملاحظات الانطباعية التي تضمنها الكتاب الذي يمكن التعامل معه باعتباره تجربة تدوينية صادقة، من شخصية أكاديمية مستقلة، يعتمد نمطا ثقافيا يرتكز بالأساس على قيم النزاهة.
ورغم الضجة التي رافقت صدوره، إلا أن الكتاب في التقييم العلمي المتخصص، لم يتضمن إضافات نوعية لسيكولوجية المجتمعات المشرقية على وجه الخصوص، وأن معظم الملاحظات التي دونها وشرحها الأكاديمي الياباني، عالجها من قبله علماء محليون وعالميون كثر، وبإفاضة علمية دقيقة. من أبرز هذه المعالجات على المستوى العربي، تلك الدراسات المتخصصة التي أصدرها كل من عالم الاجتماع الفلسطيني حليم بركات، وعالم الاجتماع ذائع الصيت على المستوى العالمي، علي الوردي. وهما عالمان تناولت أبحاثهما كافة معالم السلوك الاجتماعي، والتي في مقدمتها القضايا المرتبطة بموضوع المفارقات القيمية. وبالإضافة إلى عملية الرصد، خرج كلا الباحثين بعدد من الملاحظات العلمية الدقيقة والمثيرة. على سبيل المثال نجد الوردي، ومن خلال أسلوبه البحثي الذي يتسم بالدقة، خلص إلى فكرة أن التكوين الاجتماعي في العراق مصاب بمجمله بظاهرة الفصام المجتمعي، أو ما يعرف اصطلاحا بـ "الشيزوفرينيا "، ودعّم استخلاصه هذا بفيض من الملاحظات الموثقة على نحو منهجي. بالطبع ما ينطبق من استخلاصات على المجتمع العراقي، ينطبق بالضرورة على سائر مجتمعت المنطقة، فالفوارق تبقى رهينة الدرجة وليس النوع، فالمشكلة قائمة وحاضرة، وما من سبيل إلى إنكارها أو التستر عليها.
وإذا كانت سمة المفارقة القيمية سمة حقيقية وظاهرة قائمة، وعلى نحو أكثر تحديدا العلاقة بين التدين والفساد، فالسؤال الذي يستدعي بحثا ونبشا معرفيا، ما هو المصدر أو المصادر التي تنبع منها هذه الظاهرة؟ مع مراعاة مسألة مهمة، وهي أن الفساد هنا لا يقتصر معناه على البعد المادي المباشر، وإنما يتسع المعنى ليشمل البعد القيمي والمعنوي العام، إضافة إلى نمطية التفكير. وسأبقى في محاولة إجابتي عن هذا السؤال الكبير أتلمس النقاط والعناوين الكبرى التي هي محل إجماع وليست مثار خلاف، ومن خلالها يمكن التعرف على بعض مواطن الخلل، أو الينابيع التي راكمت بفضل تدفقها التاريخي وعدم انقطاعها كل هذه المظاهر التي يتحدث عنها أصحاب الاختصاص.
من النقاط الجوهرية التي هي محل توافق على مستوى عموم المعرفة الإنسانية، أن التجربة الإسلامية في عصرها التدشيني الأول، الذي استغرق قرابة أربعمائة عام، يعتبر عصرا ذهبيا بكافة المقاييس، حيث ازدهرت العلوم التطبيقية واللغوية، وكان المزاج العام في المجتمعات الإسلامية الأولى منفتحا على ثقافات عالمية بصورة يصعب تخيلها هذه الأيام، وكان الفاعلون في المجتمعات والمؤثرون الحقيقيون هم الفلاسفة والأدباء والعلماء التطبيقيون والمترجمون والمبدعون الموسوعيون. وكان الحضور القوي لهذه الفئة نتيجة طبيعية لتفوق المدرسة العقلانية، رائدة الاجتهاد والتحرر من عبادة النصوص على نحو حرفي، وخوض غمار تجارب أدبية وعلمية دون قيود وبلا حدود. إلا أن هذا كله اختفى في المرحلة لاحقة، بعد غلبة وتفوق مدرسة " المأثور" والنقل، والتي كان في طليعتهم رجال الكهنوت الإسلامي، من فقهاء، ومفسرين ومحدثين. ومع الزمن غدا تأثير هؤلاء في مجتمعاتهم أكبر وأعظم من أي تأثير، حتى أنهم تمكنوا من استحواذ هذه المجتمعات بنفس الطريقة التي استحوذوا من خلالها على الظاهرة الدينية، فأمعنوا فيها تحريفا وتزويرا، واستبعادا وإضافة، وبذا عادت المجتمعات منذ تلك الفترة والى اليوم سيرتها الأولى وعلى النحو التي كانت عليه قبل البعثة النبوية، الفارق الوحيد بين المجتمعين أن الأولى كانت يعبد وثنا من حجر تصنعه، أما المجتمعات اللاحقة فأخذت تتعبد وتتزلف بنصوص وتفاسير ابتكرها وابتدعها أشخاص جرى العرف على تسميتهم بالعلماء، وأخذوا يرددونها بصورة هذيان تاريخي لم ينقطع منذ قرون عديدة. خلال هذه الفترة باتت هذه المجتمعات انعكاسا طبيعيا للمنهجية الفاسدة التي اتبعتها طبقة المعارف الدينية، وغدا التحريف والتبرير والتدليس هي عناوين عريضة في السلوك الاجتماعي، كما باتت الفتوى الدينية ملاذ الحكام الفاسدين وملجأهم في الاستمرار والديمومة بالسلطة، ورغم ذلك فالكل منقاد وفق المسار العام والكل ملتزم بأدبيات هذا المسار، والأكثر براعة هو من يبالغ ويغالي في استخدام وتوظيف هذه الأدبيات، وبذا تغدو المقولة المعرفية التي تلخص أوضاعا باعتبار أن صناعة الأوهام أسهل بكثير من مواجهتها أو القضاء عليها، واقع عملي معاش. وهنا من حقنا أن نتساءل، أيهما أكثر فسادا، صانع الوهم أم المستسلم له؟
ومن أسباب حالة التباين القيمي في المجتعمات العربية، وبالأخص المجتمع المشرقي، أن بنية هذه المجتمعات بالأساس هي بنية هشة، ومن أسباب هذه الهشاشة تعرضها لفترات تاريخية طويلة للاستبداد وعلى أيدي أغراب عن المنطقة، وكانت أطول هذه التجارب فترة الحكم التركي. والبعد الأعمق في هذا الحكم، أنه حكم استبدادي بالمطلق، وهي مسألة محل توافق عدد وافر من المؤرخين والباحثين الأتراك أنفسهم، أما المتحمسون لهذه التجربة فهم أولئك الذين يجهلون تفاصيلها ودقائقها المروعة في أكثر من مجال.
الغريب في المسألة أن أبناء المنطقة بعد أن غادرهم الأتراك، استقبلوا مرحلة الاستعمار الأوروبي بحماسة غير قليلة، وهذه ملاحظة تكاد تشمل شعوب المنطقة المشرقية دون استثناء، ولكن باختلاف في درجة الحفاوة بهذا الاستعمار ممثلا بشخص المندوب السامي. ففي بغداد يذكر المعاصرون للحدث في مذكراتهم، أن أهل بغداد استقبلوا برسي كوكس أول مندوب سام وممثل سياسي بريطاني في العراق بشيء من الارتياح، وألقى الشاعر والفيلسوف المعروف، جميل صدقي الزهاوي كلمة ترحيبية افتتحها بأبيات الشعر التالية:
عد للعراق وأصلح منه ما فسدا وابثث به العدل وامنح أهله الرغدا
الشعب فيه عليـك اليـوم معتمـد فيمـا يكـون كمـا قـد كـان معتمـدا
في دمشق، وفي اليوم التالي من معركة ميسلون، دخل القائد الفرنسي غورو العاصمة دمشق، والصورة التي تجمع عليها كافة المذكرات والوثائق السورية التي عايشت اللحظة أن الدمشقيين بالغوا في احتفاليتهم بقدوم الجيش الفرنسي، لدرجة أن أحد شخصياتها، واسمه أبو شاكر الطباع حرر العربة التي يركبها الجنرال غورو من الخيول التي تجرها، وقام هو وبعض أفراد عائلته بجر عربة القائد الفرنسي إلى مبنى بلدية دمشق.
صحيح أن الفلسطينيين لم يستقبلوا الانتداب المفروض عليهم دوليا على النحو الذي استقبله أهل بغداد ودمشق من ترحاب، إلا أن مما يؤخذ على الفلسطينيين تأخرهم خمسة عشرة عاما في إعلان ثورتهم على البريطانيين وسياسات التهويد المتبعة آنذاك. ومع ذلك فقد احتفلت كثير من العائلات الفلسطينية المعروفة بالقائد اللنبي الذي انهالت عليه الدعوات إلى ولائم أقيمت بمناسبة قدومه، وشملت هذه الولائم مدن: يافا وحيفا والرملة واللد والقدس وغيرها من المدن الفلسطينية. وكان مما كتبه الأديب الفلسطيني المعروف، أحمد شاكر الكرمي، مقالا تحت عنوان " طوبى لك يا أورشليم" نشره في صحيفة الكوكب الفلسطينية بتاريخ 18/12/1917، شبه فيه دخول اللنبي القدس مثل دخول عمر بن الخطاب للمدينة. وفي إحدى الولائم قدم الشيخ يعقوب البخاري شيخ لزاوية النقشبندية في القدس، طبقا من النقش الصيني إلى المندوب البريطاني منقوش عليه:
إلى القائد العالي اللنبي بعثتها هدية حب، وهي صحن من الصيني
بعثت بهـا ذكـرى لأثاره التي يدونهــا التاريــخ أحسـن تدويـــــــن
وتبقى مجالات وشواهد استحضار فساد السلوك: السياسي والمالي والمعرفي... في مجتمعات يسودها التمظهر بالتدين باعتباره الصفة الغالبة، مسألة مفتوحة وملحة، وبحاجة لمزيد من البحث والتحري العلمي، والإفصاح عن هذا التحري وإن صادف زمانه تحر مواز لأوهام وخيالات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي


.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ




.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها


.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال




.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة