الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرآن- القطب الروحي للكلّ الإسلامي في فكر الغزالي(1)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2019 / 5 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"القرآن هو الجامع لجميع الأحوال والمقامات وفيه شفاء العالمين"
(الغزالي)


إن انتقال الغزالي في مجرى تطوره الفكري من عالم التجزئة العقلية إلى الوحدة الصوفية كان لابد وأن يرافقه تحول في دفع فكرة المركزية إلى الأمام. فالمركزية هي ليست القوة الموحدة لذاتها، بل والنظام الذي يبتلع في حركته معنى الحركة. وذلك لأن الوجود الإنساني يفترض على الدوام في مساعيه الحرة بلوغ ما يمكنه أن يكون تتويجا لغاياته، وتمركزه في ما يبدو له متساميا. وهي الحركة التي حالما تهدأ في بلوغ غاياتها، فإنها عادة ما تقود الى تأمل أفعالها السابقة كما لو أنها شيئ له معناه القائم وراء تخوم المساعي الحرة. وليس ذلك بسبب كون الزمن الغابر أصبح غابرا، وبالتالي يمكن التحكم فيه حسب مشيئة الفعل والإرادة المنحلة في ثناياه، بل ولأنها القيمة التي يمكن أن تعطي للفعل معناه الخاص. فالمعنى هو أيضا القيمة المنظِّمة للعلاقة التي لا تفتأ في ابداع وحدة الفرد والجماعة، والحياة والموت، والعابر والباقي، أي تلك التي تكتشف على الدوام البؤرة الرابطة لكل ما يبدو في مظهره وخطوطه المستقيمة تناقضا لا يمكن تنسيق أطرافه المتضادة. وهو الاكتشاف الذي يمكن أن توحي به مركزية المعنى في الفعل، والنتيجة في الأثر، والنور في الظلمة. وافتراض ما يمكنه أن يكون قطبا في دائرة وحي الذات ووعيها، والتي تنحلّ فيها استقامة الزمن وانكسار الذاكرة في بؤرة التأمل. فقد صنعت هذه البؤرة في يوم ما الآلهة والإنسان والتقاءهما المفترض في قيامة الموجود، وإمكانية تجاوز احساس المركزية الجزئية إلى المركزية المعنوية باعتبارها الهندسة الأكثر دقة لعالم الروح المعرفي والأخلاقي. فهي الهندسة التي تجذب نحو مركزها (قطبها) تناسق مكوناتها الخاصة، وتختزل الزمان والمكان في بؤرتها، وتلفّ في حركتها غير المرئية تناسق الجمال والجلال،باعتبارها الذروة المتجلية في لا تناهي الإبداع الإنساني. وبقدر ما ينطبق هذا على الفرد ينطبق على الثقافة أيضا.
فإذا كان تطور الغزالي قد أدى في مجرى صيرورته الصوفية لأن يسعى نحو قطبيتها، فلأنها الإغراء الأكبر في طريقها، والذي يفترضه الطريق باعتباره سرّ القدر الشخصي وأسلوب بقاء الهمّ الموحد والنفي الدائم في حركة إبداع الذات على مثالها المطلق. فالمطلق هو أيضا مطلق الثقافة. ولهذا لم يكن بإمكان ممثل الثقافة أن يقرأه بمعزل عن حروفه المرئية. لاسيما وأنها الحسية الضرورية للارتقاء المتنوع في مدارج الكينونة المعرفية والأخلاقية للفرد والجماعة. وإذا كانت حسية الرؤية تفترض في قراءة المعنى رؤية حروفه، فإن أشكالها غير المتناهية هي الحصيلة المتزايدة لإبداعها الحر في قراءتها. ولهذا كان بإمكان الجميع العيش على ما في دفتي "قرآنها". وأن يبدع على مثاله ما بإمكانه أن يكون التعبير الأصدق للحق المطلق. وبهذا المعنى كانت قطبية القرآن في الثقافة الإسلامية هي قطبية رؤيتها الذاتية. الأمر الذي حدد معالم الروح الإسلامي في شخصية اقطابه المفكرين في مواجهة "مصدرها الأول" وبالأخص في تلك اللحظات التي اعتقدوا فيها بأنهم على اعتاب ذروتها الممكنة.
من هنا اهتمام الغزالي المفرط بالقرآن على اعتاب بلوغه "مشكاة النبوة" في دروب الصوفية. لكنه ليس اهتمام المعرفة المجردة لذاتها بذاتها، والمدققة في كلمات القرآن وحروفه أو معناه وتاريخه، بل في ذوبانها جميعا في مساعي الحق. ويفسر ذلك إلى حد ما عدم تأليفه كتابا في التفسير، لأنه لا معنى له في السلوك . ففي السلوك ينبغي أن تتكشف ما دعاه البسطامي يوما باستظهار القرآن. وهي ذات الفكرة التي عبّر عنها الغزالي في ما أسماه بصعوبة بلوغ حالة قطب الوجود الحق دون إدراك حقيقة القرآن. لكن ما يميز فكرة الغزالي هنا هو ليس طابعها الوجداني المكثف أو تعبيرها الرمزي عن الكلّ القرآني في الفرد الصوفي، بل فردانيتها المعبّرة عن وجدانه المعرفي، بوصفه تعبيرا وتحقيقا لمجرى تطوره الروحي الفكري.
فعندما توصل الغزالي إلى إدراك عتبة انتقاله إلى عالم التصوف، فإنه لم ينظر إلى ذلك بمعايير الاستقامة الزمنية للذاكرة، بل باستقامة القطبية المتأملة لذاتها، أي في قواعد الهندسة التوليفية للجمال والجلال المعرفي، التي كان لابد لها من أن تتخذ في عالم الواحدية الثقافية للإسلام هيئة الحركة غير المتناهية للمعنى. وهي النتيجة التي أدى إليها أيضا تاريخ عريق في توليف العقل اللاهوتي للكلام الإسلامي ككل، بما في ذلك في تجربة الغزالي قبل انتقاله إلى التصوف. وسواء كان ذلك صدفة أم لا، فإنه نفسه لم ينهمك قبل التصوف في جدل المدارس الكلامية عن خَلق القرآن أو قِدَمِه. بينما أهمل هذه القضية إهمالا كليا في مرحلته الصوفية. لكن إذا كان غيابها قبل التصوف لا يعني إهمالها في الجدل، أو بصورة أدق لا يعني سقوط طابعها المعنوي وأثرها في تقاليد الانتماء الفِرَقي للكلام، فإن اضمحلالها الكلي في التصوف كان "النتيجة المنطقية" لإدراك لا منطقيتها.
إن السعي نحو قطبية الوجود الحق استلزم بالضرورة إزالة أطراف الحَدث والقِدَم. وهو المعنى الذي يمكنه صنع فعل المسيرة الدائمة، أو فعل الإرادة الحرة في الطريق، أو الإرادة المقيَّدة بذاتها، أي كل ما نعثر عليه في تحول الجدل اللاهوتي عن القديم والمُحدث في مصدرية القرآن إلى قضية غير المتناهي فيه. وحدد هذه النتيجة ليس فقط حدود التصوف الملزمة في ذاتها لآفاق الحرية غير المتناهية، بل وحدود التجربة النظرية العقلية ما قبل التصوف. إذ ليست حدود التصوف الملزمة في ذاتها لآفاق الحرية غير المتناهية سوى تقييد النفس في إرادتها صوب قطبية الوجود الحق. وهي الذروة التي لا يمكن بلوغها مرة واحدة وإلى الأبد، بينما يمكن بلوغها بوصفها الفعل المنفي في طريق الوحدة، أو هو ذاته الفناء في التوحيد. وبما أن للأخير مستوياته العديدة وتجلياته الكثيرة، فقد حدد ذلك بدوره ما اسميته بحدود الآفاق غير المتناهية للحرية. فالتناقض الظاهري هنا من إبداع الاحبولة التي تحيكها حروف اللغة لا معناها. وهي الفكرة التي عبّر عنها بعدم تناهي القرآن في معناه. فهو يدرك، شأن المتصوفة، محدودية حروف القرآن وكلماته. إلا أنه شأن المتصوفة لم يبحث في معارف "الأموات" بل في معرفة "الحي الذي لا يموت". وإذا كان تجليه المكتوب في القرآن هو صفة الكلام كما أبدعها تاريخ علم الكلام في اختلافاته حول الذات والصفات والأفعال، فإن الغزالي لم يتبع هنا ماهية الكلام في حدوده المنطقية واللاهوتية، بل ماهية الكلام المعنوية، أي نقل الثقل من صفة الكلام العالمِية (العلمية) إلى صفة الكلام المعنوية. وهو الانقلاب الذي أحدثه التصوف منذ قرون خلت قبل الغزالي في محاولته تجذير قيم المطلق الإسلامي في الكينونة الإنسانية.
لقد أدرك الغزالي في مجرى تجربته النظرية في الكلام والفلسفة بأن صراع الكلام في مدارسه عن الذات والصفات مليء بالثغرات والفواحش. وشكلت هذه الثغرات من الناحية التاريخية أيضا حوافز التعميق المتزايد للفكر والمعرفة دون أن تتخلص هذه المعرفة نفسها من ثقل جهلها الذاتي. إذ ماذا كانت تعني، على سبيل المثال، سلفية الإقرار بصفة الكلام وكونه قديماً في ظل تحديدها بما في دفتي الكتاب؟ أي إلى أي شيء كان بإمكان هذه الفكرة المرتبطة بعالمِية الله المتجسدة في كلامه للبشر، باعتباره المحتوى المتنوع لعلوم الأوائل والأواخر، إن لم تؤدي إلى صياغة الإمكانية المتناقضة والمضطربة للرمزية والتأويل؟ بمعنى تأييدها "المنطقي" لما ترفض "شرعا"! أما التصوف فإنه استطاع بفعل تأسيس طريقه الخاص في طرق التوحيد غير المتناهية أن يصل إليه من أقرب الطرق وأعقدها في الوقت نفسه. لقد "نفى" الصفات الالهية (الكلامية العقلية) في صفات الفعل العملية (الأخلاقية). انه استعاض عن الصراع والاختلاف المتنوع في فكرته ومنهجه في ثلاثية الطريقة والحقيقة والشريعة. من هنا فكرته عن التوحيد باعتباره التحلّي بصفات الحق. وبما أن هذا التحلّي هو الفعل، وبما أن هذا الفعل هو تذليل الإرادة في الحرية، فإنه أدى بالضرورة إلى تقييد الحرية غير المتناهية في آفاقها، أو تقييدها بالمطلق الأخلاقي. وبما أن هذا المطلق يكشف عن معانيه أيضا في القرآن من هنا تحول مصدريته القديمة باتجاه تجسيدها في الفعل الدائم لا صوب التدليل والبرهنة المنطقية عليه. وهو الانقلاب الذي مثّله الغزالي في تطوره الفكري.
وحتى حالما تظهر بهذه الصيغة في آخر أعماله النظرية الكبرى (المستصفى من علم الأصول)، فإنها لم تتعد في الواقع مهمة البرهنة الضرورية للأحكام الفقهية عن القضايا المتعلقة بالنسخ في القرآن، أي تلك التي يشكل فيها مفهوم النسخ الحقيقي مقدمة الضرورية لتدقيق الاحكام اللاحقة. من هنا سعيه لتفنيد الاعتراض القائل بأنه لو كان معنى النسخ هو الدفع، كما يقول الغزالي، لأدى ذلك إلى تعارضه مع فكرة قِدَم الكلام (الإلهي) انطلاقا من أن كلام الله قديم والقديم لا يتصور دفعه. لهذا نراه يرد على ذلك قائلا بأن سوء فهم حقيقة الدفع (النسخ) والقِدَم عندهم هو بسبب عدم إدراكهم أن النسخ هنا هو ليس دفع الكلام "بل قطع تعلقه بالمكلف" . والكلام القدي ذو علاقة بالإنسان القادر العاقل. من هنا إذا طرأ، على سبيل المثال، العجز أو الجنون زال التعلق. فالكلام القديم لا يتغير في نفسه. بمعنى انه كما هو وإنما التغير يجري في العلاقة، بسبب تغير طرفها المتعلق به (الإنسان أو المكلف). فالموت والعجز، على سبيل المثال، يقطع هذه العلاقة بمعنى يقطع متعلق الخطاب. والنسخ هو الآخر سب من جهة المخاطب بقطع متعلق الخطاب تماما كما أن "حكم البيع، وهو ملك المشتري إياه، تارة ينقطع بموت العبد المبيع وتارة بفسخ التعاقد. ولأجل خفاء هذه المعاني انكر طائفة قِدَم الكلام" .
فقد كان إدراكه لحدود الحرية غير المتناهية هو اكتشافها في حدود التجربة النظرية، أي أن بحثه عن غير المتناهي في القرآن هو أيضا الاستمرار الخفي لنزعة الشك العقلانية المميزة لمراحل تطوره الأولى. ولهذا السبب يمكن فهم أسباب غياب أو قلة الآيات والأحاديث في كتاباته الأولية، كما هو الحال في (معيار العلم في فن المنطق) و(مقاصد الفلاسفة) و(تهافت الفلاسفة) و(المستظهرى أو فضايح الباطنية)، وكثرتها في (إحياء علوم الدين) وما بعده.
أول ما يلفت الانتباه بهذا الصدد هو كثرة الاستشهاد بالقرآن والحديث والآثار والأخبار في مرحلة التصوف وقلتها ما قبل ذلك. وإذا كان من الصعب أحيانا العثور على آية قرآنية أو حديث نبوي في أعماله الأولية، فإن وجودها أو الاستشهاد بها لا يمتلك بحد ذاته قيمة مستقلة. بمعنى إنها لا تمتلك قيمة برهانية أو دلالة قاطعة. أما في (إحياء علوم الدين) فإننا لا نعثر على كثرة الآيات والأحاديث فحسب، بل وعلى تصنيفها وترتيبها بالصيغة التي يمكنها أن توحي إلى جانب الآثار والأخبار عن هرمية الهيبة وفاعليتها في أجزاء الكتب الأربعين (لإحياء علوم الدين) . وهو الواقع الذي كان وما يزال يوحي بما يسمى بسلفية الغزالي وانحداره صوب الحديث والنص. أما في الواقع فقد كان ذلك استمرارا عميقا وجديدا لعناصر العقلانية والتفكير المنطقي السابق في موقفه من النصوص القرآنية. فقد استسهلت الذهنية اللاهوتية اللاحقة بما في ذلك تحت تأثير حب التشفي القديم من أن تشّهر بسلفية الغزالي من خلال كثرة استشهاده بالقرآن وأن "تقوّمه" أيضا في ما اسمته بضعف درايته بالحديث متوخية بذلك إظهار "توبة الرجل في رجوعه إلى السّنة". أو ما دعاه البعض بالاستفاقة من جنون العقل والشك الباحث عن يقين في حوض السنّة.
أما في الواقع، فإن هذه الاستطرادات المبتذلة هي أقرب ما تكون إلى وسواس كان يدغدغ أحيانا خيال القناعة المتبجحة بذاتها للسلفية النصية الجامدة بما في ذلك استسهالها في مراحل الركود والتقليد، سحب شخصيات الفكر التاريخية الكبرى ورصّها في اعمدة بنائها العتيق. في حين أن الاستشهاد الكبير في (إحياء علوم الدين) وغيره من المؤلفات اللاحقة لم يكن انتاجا مستجدا لهيبة النص المفتعلة ولا تثبيتا معنويا لليقين فيه، ولا مؤشرا على الرجوع الأسهل للإيمان، بقدر ما انه سار في الاتجاه الذي يفترضه "منطق" التصوف، أي اكتشاف غير المتناهي في المتناهي. ولم تعن هذه الظاهرة من حيث طبيعتها الداخلية ووظيفتها وحركتها اللاحقة سوى تحرير النص نفسه من قدسيته العادية. إذ لم يعد النص هنا مماثلا لليقين، بقدر ما كان يعني إمكانية تجلي اليقين وإجلاءه لمعانيه في حقائق الرموز المتعالية للنص القرآني. بعبارة اخرى، لم يعد القرآن كتاب العقائد والأحكام، بل كمية الرموز التي توّجه الروح وتوحي له في طريقه وجد الأحوال الذاتية وتنقيتها في مقامات الرقي المعرفي.
فاليقين عند الغزالي هو وحدة المعرفة والعمل بها وجلاؤها الدائم في الحال، باعتباره الكينونة المطابقة للتجربة الفردية. وهي الفكرة التي يفتقد فيها النص لقيمته المجردة. معنى عدم قدرتها على امتلاك ما يمكنه أن يكون يقينا قائما بحد ذاته. فقد سبق للثقافة الإسلامية وإن أرست أسسها في مقدماتها الكبرى القائلة، بأن القرآن هو كلام الله، وأن الإيمان هو التصديق به لا غير. ذلك يعني أنها صاغت الأطر العامة ليقين الإيمان به. وهو المستوى الذي لا يتعامل مع المعرفة إلا في اطار صيغتها المباشرة. أما معرفة "حقائق الإيمان" (حقائق القرآن) فإنها تنتمي إلى عالم المعرفة المتنوع في مستوياته ودرجاته. لهذا لم يتعامل الغزالي مع القرآن في آياته على أنها حقائق برهانية. وأخذ على المتكلمين هذه النقيصة بما في ذلك في (المنقذ من الضلال) . فالحقائق البرهانية في شكلها اليقيني لم تعد أيضا من نتاج "العقل النظري" (المجرد)، بل من فعل المجاهدة الحقيقية في المعرفة. ولهذا غاب موضوع القرآن في مرحلة الكلام والتفلسف وظهر في التصوف. فالقرآن الإيماني هو قرآن المتكلمين، الذين استشهدوا بآياته باعتبارها براهين نهائية. ولم يسع الغزالي من وراء ذلك للتقليل من شأن المادة "البرهانية" للقرآن، بقدر ما انه أزاح عن طريقه معضلة العقل والنقل كوحدة متنافسة. لقد حاول إزالة هذا التناقض، باعتباره نتاجا لضيق المذاهب واحترابها التقليدي. أما حقيقة المعرفة اليقينية فيه أو "مادته البرهانية" فهي تلك التي ينبغي اكتشافها في النفس من خلال استظهاره فيها، أو ما أسماه بضرورة اكتشاف معاني القرآن من خلال المجاهدة. لهذا كان "اختصاره" للقرآن في (جواهر القرآن ودرره) هو أيضا "تلاعبا" حرا في الكلّ الإيماني التقليدي. أما في مغزاه ومعناه فقد كان التصنيع الجديد لما يمكن دعوته بحرية الكلّ الإيماني، الذي يبدعه التصوف في مجاهداته المعرفية. وهو ذات القرآن المتناثر في (إحياء علوم الدين) ومقدماته. إذ يظهر القرآن في (إحياء علوم الدين) كما لو أنه الجامع المطلق لأحوال ومقامات المعراج الروحي الفكري والعملي والواجب. فالقرآن، كما يقول الغزالي، هو "الجامع لجميع المقامات والأحوال وفيه شفاء العالمين. وفيه يورث الخوف والرجاء والصبر والشكر والمحبة والشوق وسائر الاحوال" . أما الأحاديث فإنها تتحول إلى مساعد دائم من حيث قيمتها في معرفة الأحوال والمقامات، بحيث تتخذ إلى جانب القرآن صفة الأسرار غير المتناهية. وذلك لأن كل كلمة ممن أوتي جوامع الكلم "بحر من بحور الحكمة، لو تأملها العالم حق التأمل لم ينقطع فيها نظره طوال عمره" . وبغض النظر عن التبجيل المفرط في الصيغة الظاهرة لهذه العبارة، إلا أن ما هو جوهري فيها ليس الصياغة والإسناد، بل "بحر الحكمة"، أي اشتغال الصوفي في تأمله الخاص وحرية نظره طوال عمره في "بحر الحكمة".
إن هذه الإمكانية الدائمة للتأمل والنظر هي ذاتها امكانية الإدراك الدائم وحريته المقيّدة في الممارسة الصوفية (الأخلاقية)، أو ما يدعوه الغزالي بعملية صفاء القلب وصدق المعاملة. وبهذا لم يعد القرآن وعاء للمعرفة الجاهزة، ولا كتلة مترامية من العبارات أو "مصدراً" للأحكام النهائية، بل المرشد الأخلاقي الدائم للفعل الحر. وقد تضمنت هذه النتيجة في أعماقها على النفي الشامل للسلفية الضيقة والمذهبية المتحجرة. وذلك لأنها أعطت للقرآن صيرورته الممكنة في الأفعال والأعمال بما يتطابق مع حقائق الإيمان المكتشفة فيه على أنها حقائق المجاهدة الفردية والاجتماعية. غير أن ذلك لا يعني تحول القرآن في آراء الغزالي وأحكامه إلى تابع ثانوي. فالتبعية لها منطقها في "قواعد الاستغلال"، بينما لا استغلال في التصوف. فالتصوف لا يعرف في حقيقة أفعاله سوى أسلوب "بذل الروح". وذلك لأن المتصوفة تتعامل مع النصوص أيا كان مصدرها كما لو أنها نصوصها الخاصة. بمعنى تمريرها في شبكة الإرادة ومستوى تذليلها في المقامات. وعندما يشير الغزالي إلى أن القرآن "هو الجامع لجميع المقامات" فإنه يتعامل مع النص الجامع للتجربة الصوفية في سلوك بذل الروح، أي قرآن الروح الأخلاقي لا قرآن الثقافة العامة. والأخير هو الصيغة التاريخية للتجربة الإسلامية في ميادينها المتعددة، والنتاج الذي لازم إبداع الواحدية الثقافية الإسلامية، التي وحّدت في كلّها تنوع الرؤية لا تطابقها. بينما استلزمت تجارب التصوف تنوع الوحدة. وهو "الخلاف" الذي يميزها عن الاتجاهات الأخرى في عالم الإسلام من حيث خروجها عن مألوف الرؤية وقواعدها المباشرة. بمعنى سكون تأملها على قاعدة معاناتها الفردية. وهي الآلية التي تجعل من الصعب غربة الأشياء عنها، بما في ذلك أشد النصوص غموضاً أو وضوحاً، قدسية أو ابتذالا. أما الغرابة الوحيدة الممكنة هنا فهي نماذج تجاربها لا غير. مما أفرغ بالضرورة محتويات آرائها وممارستها من ثقل الذهنية السلفية. أما "تقليديتها" الوحيدة فتقوم في رفعها ضرورة التجربة الفردية إلى مصاف الفكرة القائلة: لا طريق الا الطريق!(يتبع...).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟