الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة الرحمة قبل الرحيل

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2019 / 6 / 1
الادب والفن


إن عملي التدريسي فرض علي الارتحال من مكان إلى آخر، لقد خضت امتحان التدريس بمدينة إنزكان، وبعد ذلك تكونت في مدينة بني ملال التي تبتعد عن المدينة الأولى قرابة 600 كلم، ولذلك فإن قدر المدرس هو أن يرتحل مادام يرتحل ويسافر بين الكتب، وخاصة إذا كان يدرس مادة الفلسفة، فالفيلسوف في نظر المفكر الفرنسي جيل دولوز ذات نومادية ومترحلة في كل الاتجاهات ولا تعرف الاستقرار والسكون، ميت من لم يسافر، إن السفر معرفة وثقافة، هكذا قال الأنتروبولوجي الفرنسي شارل دوفوكو.
في شتنبر 2013، وجدت نفسي بين أحضان مدينة وادي زم التي تركت فيها الكثير من الذكريات والأحلام والأماني، فثلاث سنوات التي قضيت هناك مكنتني من أن أعرف أحياءها وناسها وقراها ومنازلها ومدارسها وتاريخها وقبائلها، لقد صارت المدينة جزءا من شخصيتي وجزءا من تنشئتي ومن معرفتي التي لن تتوقف مادمت حيا، ولن أنس أبدا جملة من الخواطر والأشعار والقصص التي سجلتها إبان تلك الفترة التي ولت وأنا أجلس وحيدا في منزلي أو مسافرا في الحافلات والقطارات .
لم تعجبني وادي زم، فمنذ أن عينت فيها كنت أشعر بوحشة عظيمة، ولطالما انتابتني فكرة الرحيل، وكان هدفي الأساسي أن أقترب من الحواضر الكبرى لإتمام دراستي، ففي سنة 2016 قادني مصيري إلى مدينة الرحمة التي تتموقع في أقصى جنوب الدار البيضاء، ولم أكن أعرف هذه المدينة بالمرة ولم يسبق لي أن زرتها، وقد مثلت الدار البيضاء متاهة يصعب معرفتها، إنها ميغالوبوليس كبير، كما كانت محط خوف بالنسبة لي، لأن الجهل يولد الخوف حتما، فالشيء الذي لا تعرفه يخيفك لا محالة .
مازلت أذكر أن صديقي أحمد كريم هو من رافقني إلى مدينة الرحمة، وكان ذلك في يوليوز سنة 2016، استقبلني بالحي الحسني بضحكته المعهودة وقال لي عند وصولي : (ت فين صاحبي أنا غادي ونت جاي)، وفعلا لقد كان يتأهب لكي يغادر مدينة الرحمة متوجها إلى مدينة برشيد، ركبنا الطاكسي وبعد برهة انطلق جنوبا، كنت أشعر بنشوة مشوبة بالخوف وكلي أمل أن مدينة الرحمة سوف تكون بخير، ولن تجعلني أشعر بالاغتراب الذي كنت أحس به في مدينة وادي زم، وطيلة الطريق بقيت أستمع لأحمد كريم وهو يقول: ( هنا الحدود بين الولفة والحي الحسني، هنا الحدود بين الرحمة والحي الحسني، وهذا هو طوبيس الخمسين يوصلك إلى المدينة، وأقول لك من الأفضل أن تستقل الطاكسي بدل هذا الطوبيس...)، إنها من جملة الكلمات التي رددها الصديق أحمد كريم، و مازلت أحتفظ حتى الآن، كم تمنيت في تلك اللحظة أن يظل في مدينة الرحمة لأنني لم أكن أعرف فيها أحدا.
وصلنا إلى مدينة الرحمة، وسرنا عبر درب طويل، ثم مررنا قرب مسجد، وقطعنا مسافة قصيرة، وها هي الثانوية شاخصة أمامنا، وقفنا أمامها، فتنهد أحمد كريم وأطلق زفرة مرددا : ( إييه الزرقطوني أنا غادي وهذا جاي، إييه أ ليااام )، وبقينا برهة من الزمان وقفلنا راجعين إلى الحي الحسني، وفي شتنبر رجعت إلى مدينة الرحمة وحيدا دون صديقي أحمد كريم، وسكنت في الحي الحسني لمدة ثلاثة أشهر وتعرفت في هذه المرحلة على بعض الرفاق في الحزب الاشتراكي الموحد وشاركت معهم في الحملة الانتخابية، ومنذ ذلك الوقت بدأت معارفي تكبر.
لئن تكلمت عن تجربتي في مدينة الرحمة في صيغة وجيزة، سوف أنني أقول أنني عرفت مدينة الدار البيضاء أكثر من ذي قبل، ولم تعد الدار البيضاء تخيفني، ولا أنسى أن إقامتي في الدار البيضاء مكنتني من زيارة المكتبات والمعارض والندوات والمظاهرات والأسواق، كما أضيف أنني عرفت الكثير من المقاهي والبارات وعشت الحياة الصاخبة بهذه المدينة بقدها وقديدها، وأضيف أنني ألفت كتابا بهذه الرقعة الجغرافية وتعرفت على الكثير من الناس الطبيين والقديسات الطيبات، ولن أنس مهما حييت نشاطي في نادي التربية على المواطنة وحقوق الإنسان بثانوية محمد الزرقطوني، ولقد بقيت الندوة التي قمنا بها حول وضعية المرأة في مارس 2018 عالقة بذهني.
من ينسى البحر وقرية عين قديد وشاطئ دار بوعزة ؟ ومن ينسى الصديق الشاعر صلاح الدين الشاكي الذي كان يرافقني إلى البحر في عز الربيع ؟ كنا نجلس على أعلى الصخرة ويتراءى أمامنا الرعاة والحقول الزراعية والمراعي الخضراء والبحر الذي يتهادى في البعيد، كنت أقول له : ( من هنا مر الأنتروبولوجي الفرنسي إدمون دوتي، استراح قليلا في عين قديد ووصف الجراد الذي داهم حقولها في سنة 1903) كنا نناقش ونقرأ معا، ونذهب من حين لآخر إلى حي الأحباس أو إلى البحيرة من أجل اقتناء الكتب، إنها من أجمل التجارب والذكريات التي مازلت أحتفظ بها في مدينة الرحمة.
بلا شك سوف أغادر مدينة الرحمة منتشيا، لقد كان هاجسي الأكبر من نشاطي في النادي التربوي أن أجعل المتعلم يحب القراءة وأن يتسم بحس النقد والبحث، وكم أفرحني أن يتصل بي تلميذ سابق ويقول لي: أريد أن أقرأ كتابك، وتكفيني هذه العبارة لكي أغادر هذه الأرض مسرورا ومغتبطا .

الدار البيضاء، المغرب، بتاريخ: 1ـ6 ـ 2019








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدء التجهيز للدورة الـ 17 من مهرجان المسرح المصرى (دورة سميح


.. عرض يضم الفنون الأدائية في قطر من الرقص بالسيف إلى المسرح ال




.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو