الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذهب سلطان المعادن

عضيد جواد الخميسي

2019 / 6 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الرمز الكيميائي للذهب ( Au ) ، اختصاراً لأصل الكلمة اللاتينية ـ أورم AURUM ، والتي تعني " الفجر الساطع " . الذهب من المعادن الثمينة ، ويُعدّ ملك المعادن وسلطانها ، وقد استخدم منذ العصور القديمة في صناعة كل من ، الحُلي ، العملات ، النقوش ، القوارب ، التماثيل ، وحتى في ديكورات المباني و قبور الموتى . وطالما انه لا يصدأ ، فالذهب أصبح رمزاً للخلود والقوة في العديد من الحضارات القديمة .
جُعل الذهب في ندرته وصفاته الجمالية ، معدناً تتباهى به الطبقات الحاكمة لإظهار قوتها و مركزها الاجتماعي . فقد وجد لأول مرة على سطح الأرض بالقرب من الأنهار في آسيا الصغرى وبالتحديد في منطقة باكتولس ـ مملكة ليديا .
أُستخرج الذهب من باطن الأرض حوالي عام 2000 قبل الميلاد من قبل المصريين ، وتمكّن الرومان من العثور عليه في أفريقيا ، وكذلك وجد في البرتغال وإسبانيا .
لدى علماء الآثار دليلاً تاريخياً، على أن الرومان قاموا بصهر حُبيبات الذهب المستخرجة من الخامات ، مثل بايرايت الحديد ( الذهب الكاذب ـ يدخل في تركيبها ثنائي كبريتيد الحديد FeS2 ، لونها أصفر شاحب وذات لمعان ضئيل) . صُهرت تلك الحبيبات الذهبية المستخرجة مع معادن أخرى مثل الفضة و النحاس لزيادة قوتها وتغيير لونها ، وقد استخدمت فيما بعد لمجموعة واسعة من الأغراض .

الحُلي الذهبية
في معظم الحضارات القديمة ، كان الذهب شائعاً في صناعة المجوهرات والفنون ، وذلك بسبب قيمته وصفاته الجمالية وليونته وقدرته على التحمل ، كما ان خاصيّة المرونة العالية لدى الذهب ، قد عرفها المصريون قبل غيرهم حوالي عام 2500 ق.م ، ولكنها لم تُستغل تجارياً .
أُستخدم الإلكتروم (السبائك الطبيعية للذهب والفضة) في الحُلي من قبل المصريين قبل حوالي 5000 سنة ، وفي بلاد الرافدين منذ عام 4000 ق.م .إذ كانت الحُلي الذهبية والفضيّة والمجوهرات من الأحجار واللالىء ، يتزين بها الرجال و النساء على حد سواء في بلاد الرافدين . أمّا أوروك ، فهي أول مدينة في التاريخ القديم التي صنعت السلاسل الذهبية منذ عام 2500 ق.م ، ومن ثم عرفت صناعتها الحضارة المينوية أو المينوسية Minoan civilization ، نسبة إلى ملكها المؤسس "مينوس " في جزيرة كريت ، وذلك عند بداية الألفية الثانية قبل الميلاد ( العصر البرونزي ) .
يعود الفضل الى المينويين في إنتاج أول الأسلاك الذهبية الرفيعة ، باستخدام مهاراتهم العالية في صناعة مجموعات مختلفة من الحلي والمجوهرات ، مثل القلائد ، الأساور، الأقراط ، الخواتم ، التيجان ، الحلق ، الدبابيس ، البروشات ، وغيرها من المصوغات .
كان المينويون يمتلكون ذائقة فنية رفيعة يتفرّدون بها عن غيرهم من شعوب الحضارات الاخرى ، وذلك عندما أظهروا قدراتهم في صناعة نوع خاص من الحلي أسموه " الفلكري " ( Filigree ـ بمعنى ـ الصياغة بالتخريم ) حيث تسحب قضبان الذهب وجعلها أسلاك ملفوفة ورفيعة للغاية ، ومن ثم استخدامها في صناعة أنواع الحُلي ، والفلكري فنًّا مرموقاً من فنون الصياغة منذ آلاف السنين ، ولا زال كذلك حتى الوقت الحاضر .
أهتمّ المينيون بصناعة الأشكال الفنيّة الدقيقة لتزيين التماثيل الصغيرة ، باستخدام صفائح ذهبية رقيقة ومحببة (زخرفة السطح مع حبيبات صغيرة ملحومة من الذهب) ، كما برعوا أيضاً في نقش المعادن المختلفة ، وهم من اخترع مادة " المينا " المنسوبة إليهم ، إذ أُستخدمت في تطعيم السلع الذهبية والفضيّة والنحاسية المنقوشة ( المينا ـ مزيج معدني بنسب معينة من الفضة المذابة والنحاس والرصاص مع مادة الفسفور وعناصر اخرى ) .
في أمريكا الجنوبية ، تم استخدام الذهب بطريقة مماثلة من قبل شعب حضارة الشافين Chavin civilization في بيرو حوالي عام 1200 قبل الميلاد ، أمّا في منطقة نازكا ، الواقعة على الساحل الجنوبي من بيرو ، فقد أُتقن صبّ الذهب في عام 500 قبل الميلاد. واستخدم الرومان الذهب في ترصيع الأحجار الثمينة ، واستمرت الموضة في العصر البيزنطي باستخدام اللؤلؤ والأحجار الكريمة وصناعة المينا .

العملة النقدية
استخدم الذهب لأول مرة كعملة معدنية في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد في آسيا الصغرى ولكنها كانت بأشكال غير منتظمة ، و معظمها يحمل نقشاً من جانب واحد فقط ، وتمّ صناعتها من سبائك الإلكتروم الطبيعية . كما إن أولى العملات الذهبية النقية التي تحمل الصور، تعود إلى كرويسوس ملك ليديا في الفترة ما بين الأعوام 561 و 566 قبل الميلاد .
عثر فريق آثاري في ساردس عاصمة مملكة ليديا على مصفاة للذهب تُعدّ حديثة في ذلك الوقت ، وعلى الرغم من أن أنقى أنواع الذهب الذي يوجد في الطبيعة يمكن أن يحتوي على مايقل عن 5٪ من الفضة ، إلا أن الليديين تمكنوا من استخلاص الذهب من مركباته باستخدام الملح ( NaCl كلوريد الصوديوم) وعند درجة حرارة تتراوح ما بين 600 و800 درجة مئوية ، إذ يتفاعل الملح كيمياوياً مع الفضة لينتج مركباً من كلوريد الفضة ( AgCl) الذي يتسامى بتأثير الحرارة العالية ، تاركاً وراءه الذهب الخالي من الشوائب لغرض استخدامه في سّك عملة معدنية موحدة نقية من الذهب الخالص .
الحضارة الميسينية ( في مناطق بحر ايجه ـ أواخر العصر البرونزي ) أيضاً تداولت العملات الذهبية وعلى نطاق كبير، كما تبعتها الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية في وقت لاحق . وعلى الرغم من أن الفضة كانت شائعة في استخدامها كعملة ، الا ان "البيزات " أو البيزه الرومانية ، كانت واحدة من العملات الذهبية الأكثر شهرة في القرون الماضية (من القرن الرابع إلى القرن الثاني عشر الميلادي ) ، واستخدمت لأول مرة في عهد الإمبراطور قسطنطين ، وتبلغ زنة الواحدة منها 12 غرام من الذهب الخالص .

الذهب في المقدّسات
جُعل من قيمة وجمال الذهب الخالص شيء ضروري في المظاهر السياسية والدينية الهامة بشكل خاص مثل ، التيجان ، الصولجانات ، التماثيل الرمزية للآلهة والمحاربين الأبطال ، أباريق الشراب و كؤوسها ، وطقوس القرابين والنذور .
كان دفن الحاجيات الذهبية في بعض الأحيان مع الموتى جزءاً من المراسيم المهمة في الجنائز ، ويُعدّ وجود هذه المادة النادرة والقيّمة في قداديس الموتى ، هي لأغراض التباهي وإثارة العجب . ولعل المثال الأكثر شهرة ما يسمّى قناع أغاممنون الذي عثر عليه في ميسينا .
أمّا حضارة الإنكا في بيرو ، أُعتبر الذهب هو عَرَق إله الشمس " إنتي Inti"، وكان يستخدم لتصنيع مختلف الأشياء ذات الأهمية الدينية ، وخاصة الأقنعة وأقراص الشمس . في كولومبيا القديمة كان الذهب مقدّساً أيضاً ، فقد تمّ استخدامه دينياً على شكل مسحوق لتغطية جسم ملك المستقبل في حفل التتويج الفخم الذي جُعل منه أسطورة " إل دورادو ـ الرجل الذهبي "، وذلك بسبب بريقه وارتباطه بالشمس .
صُنع من الذهب صفائح ورقائق ذهبية مزخرفة لتزيين المزارات ، والمعابد ، والمقابر، وتوابيت الموتى ، والتماثيل ، وأسلحة الزينة ، والدروع ، والفخاريّات ، والأواني الزجاجية ، والمجوهرات ، وذلك منذ العصور السومرية ، والبابلية ، و المصرية ، والآشورية ، ولعلَّ المثالين الأكثر شهرة ، القيثارة السومرية ، وقناع الموت للملك المصري " توت عنخ آمون " .
استخدم الذهب كثيراً في طبابة الأسنان لمدة تزيد على 3000 سنة ، لكونه معدناً مرناً وغير قابل للصدأ . الأتروريون ( قبل الحضارة الرومانية ) في القرن السابع قبل الميلاد، جعلوا من الأسلاك الذهبية وسيلة لإصلاح الأسنان المتضررة لدى الحيوانات من الخيول والماشية . وأُدخل في صناعة أنسجة الأردية الملكية ، والطقوسية لكهنة المعابد. وقد استخدمه الأطباء في معالجة الجروح ، إذ سمّيت بـ"الجرعات السحرية " وفقاً لما ذكره المؤرخ بليني في القرن الأول ما قبل الميلاد ..

درجة النقاء
أدت مخاوف المصريين من الذهب المغشوش إلى ابتكار طريقة لتحديد نقاوة الذهب ، وذلك حوالي عام 1500 قبل الميلاد (لربما قبل هذا التاريخ). تسمى هذه الطريقة ( المعايرة في النار ) وتتضمن بأخذ عيّنة صغيرة من المادة قيد الفحص لتوضع في بوتقة صغيرة تحتوي على كمية من الرصاص . و البوتقات القديمة تصنع عادة من رماد العظام ، وعندما تتقد البوتقة بتأثير الحرارة المرتفعة ، تعمل على امتصاص الرصاص وأي معادن أخرى في مكونّات العيّنة مخلّفة الذهب والفضة فقط في البوتقة ، ويتم التخلص من الفضة باستخدام حامض النتريك ، ومن ثمّ يوزن الذهب الخالص المتبقي ومقارنته بالوزن قبل الفحص أو الاختبار .
كان العالم أرخميدس قد اكتشف طريقة في التعرّف على مقدار الذهب عندما يكون مخلوطاً مع المعادن الأخرى ، كما عرف أيضاً ، أن للذهب النقيّ كثافة نوعية ضعف كثافة الفضة النقيّة . ( لنا موضوع أكثر تفصيلاً عن أرخميدس ، سوف ننشره في وقت لاحق بعد مراجعة المصادر المتوفرة ) .

يُعّد الذهب مادة ثمينة على مدى التاريخ ، وقد بَذلت العديد من الحضارات القديمة جهوداً مضنية لإنتاج الذهب من خلال " الخيمياء " (بمعنى ، التحول الكيميائي للمعادن إلى ذهب باستخدام حجر الفلاسفة "lapis philosophorum " ) ، وهذا الحجر كان من خيال الإنسان ، وهو غير موجود أصلاً ، فقد كانت المحاولات الأولى في الصين خلال القرن الرابع قبل الميلاد ، وكذلك في اليونان القديمة ، وعلى الرغم من فشل جميع تلك المحاولات وغيرها ، إلا أنها أرست الى وضع الأسس الثابتة للكيمياء الحديثة …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أريك غلاين ـ دليل أكسفورد للعصر البرونزي ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2012 .
تيموثي كرين ـ رفقة الذهب ـ روزنديل للنشر ـ 1992 .
رينولد هيغنز ـ المينوية والفن الميسيني ـ هدسون للنشر ـ 1997 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحن طائر أو بالون عادي.. ما هي حقيقة الجسم الغريب فوق نيويور


.. دولة الإمارات تنقل الدفعة الـ 17 من مصابي الحرب في غزة للعلا




.. مستشار الأمن القومي: هناك جهود قطرية مصرية جارية لمحاولة الت


.. كيف استطاع طبيب مغربي الدخول إلى غزة؟ وهل وجد أسلحة في المست




.. جامعة كولومبيا الأمريكية تؤجل فض الاعتصام الطلابي المؤيد لفل