الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أخوَنة التاريخ وخيانته

الشهيد كسيلة

2019 / 6 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الاستعمار الاستيطاني كما هو معروف بعد أن يستولي بالقوة على البلد يجد نفسه في مواجهة أهل البلد الذين لا يطمئن إليهم وهو هنا أمام خيارين إما أن يشن عليهم حرب إبادة كما فعل الانكليز والاسبان في أمريكا أو أن تشتغل نخبة منتقاة منه على إماتة تاريخ البلد بطمسه وإحلال تاريخ آخر محلّه أو المزج بين الخيارين معا بحيث تشتغل المؤسسة العسكرية على الإبادة والنخبة الثقافية على طمس تاريخ البلد وتزييفه وهذا ما اشتغلت عليه الإمبراطوريات الكولونيالية وخاصة منها الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية التي كان استعمارها ثقافيا بالدرجة الأولى.
اشتغلت النخبة الكولونيالية إذن على تاريخنا "القديم" وجعلوه ميدان احتراب وصراع ونسبوا كل شيء فيه إلى طرفين: الشرق ويمثله الفينيقيون والقرطاجيون والغرب ويمثله تباعا الإغريق والرومان والوندال والبيزنطيون ووزعوا المعالم الأثرية على هذين الطرفين دون أيّ أثر لأهل البلد إلا هامش صغير لبعض الجوانب البدائية . وكانت أعمال سطيفان كزال هي القاعدة التي رسمت خريطة هذا التاريخ وكل من جاء بعده سار على نفس نهجه.
كان الفرنسيون من يهوديي الديانة يميلون إلى البحث في تاريخ أسلافهم الساميين لذلك اعتنوا بتاريخ الفينيقيين وكانت اللغة العبرية مفتاحا لقراءة النقوش الفينيقية والبونية واشتغل الفرنسيون مسيحيو الديانة على التاريخ الروماني خاصة ، ورغم الايدولوجيا الكولونيالية إلا أنّ أعمالهم قدّمت مادّة تاريخية وأثرية غزيرة لكن كما يقال الشيطان في التفاصيل ، فعلى مستوى التأويل والتصنيف لن تجد غير القليل في ما يتعلق بأهل البلد . طبعا إنه عمل أنجز بإملاءات من وزارة الحرب الفرنسية التي كانت الدراسات التاريخية عينها التي لا تنام مادّيا وأدبيا.
حين كانت الثورة المسلحة قائمة على الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان منظّرو البعث يخططون لما ستكون عليه الجزائر التي ستستقل قريبا دون ريب وكيف يمكن ربطها برباط قوي ومتين بجامعة الدول العربية ومشروع الوحدة العربية لان تاريخها القديم وباقي شمال أفريقيا يثير المخاوف وكانت توصيات أولئك المنظرين تنصّ على إحلال التاريخ الفينيقي-القرطاجي محل التاريخ الوطني لشمال أفريقيا ثم ربطه بالفترة العربية الإسلامية وجعل الفينيقيين وقرطاج هم التاريخ والحضارة والمعالم الأثرية والشخصيات القيادية وما سواهم استعمار غاشم ومؤامرة على "تاريخنا وهويتنا العربية- الإسلامية" وجاءت أول دفعة من بعض الجزائريين الذين تلقوا تكوينا ايديولوجيا بعثيا اخوانيا في عواصم المشرق لتكريس هذه التوصيات في الجامعة الجزائرية والتحق بهم فريق من أساتذة التاريخ المشارقة الغارقون في النزعة البعثية أيام صعود نجم البعث ،
ترك النظام الانقلابي في الجزائر التعليم للتيار العربي الإسلامي وأسند وزارة التربية لأحد اقطاب هذا التيار فألغى المناهج التي خرّجت الكفاءات وما انتهت عهدته الوزارية حتى كان التعليم قد انهار وجاء المرحوم مصطفى الأشرف في الربع ساعة الأخير ولكن بعد فوات الأوان ولم يكمل العام حتى أزيح من الوزارة بعد مهاجمته من قبل التيار البعثي، ووضعت مناهج جديدة ولا بد من وزير غبي لتطبيقها وليس أغبى من الشريف خروبي الذي كان اسما على مسمى .
كان القدافي يحاضر في التاريخ القديم لشمال أفريقيا ومعروف عنه خزعبلاته وأنشأ من حوله جوقة من المتكسبين الانتهازيين من أمثال خشيم في ليبيا والعرباوي في تونس وعتمان سعدي في الجزائر ويؤيدهم أيضا الجابري من المغرب ومن الجامعة التونسية فنطر ومن الجامعة الجزائرية غانم وصار لهؤلاء مريدون وأتباع أولهم تلميذ تائه في أروقة الجامعة وآخرهم في سوق الخضر والكل بإمامة دعيّ اسمه بن كولة ، وأخر من حضرموت ففينقوا التاريخ وجعلوا دولة مدينة تدفع إتاوة لملك الماسيل عنوانا للبلد وهويته .
لقد زرعت الكتابات الكولونيالية ألغاما خُطط لانفجارها على آماد مختلفة وبعضها أخذ في الظهور في وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة في الحراك الذي تشهده البلاد أخيرا . لكن ما هو أخطر هو أن التيار البعثي-الوهابي ربط بين الهوية الوطنية الأمازيغية للجزائر والاستعمار وجنّد أعوانه في أكبر حملة تغليط وتزييف واصفا دعاة الهوية الجزائرية الحقيقية بالفرانكو-بربرFranco-Berbéristes وحزب فرنسا ويكفي أن يحاول أحدهم الحديث عن أمة ليبية –أمازيغية وعن حضارتها وأنها الانتماء الحقيقي لشعوب شمال أفريقيا حتى يتم التهجم عليه واعتباره عدوا للأمة وعميلا وهذا من قبل التحالف الوهابي البعثي الذي يسيطر على مقاليد الأمور في التعليم بمختلف أطواره وطبعا الاستعمار الفرنسي يثير جراح التاريخ ، لكن وسائل التواصل سلاح ذو حدّين جعل كيد هؤلاء يعود إلى نحورهم خاصة بعد انكشاف ارتمائهم في أحضان البترودولار الوهابي والأيديولوجية البعثية التي دمرت عددا من البلدان العربية .
إذن تمت إبادة التاريخ الحقيقي للبلد واختصر في الصراع بين التاجر الفينيقي والعسكري الروماني وطبيعي أن تكون الكتابات الكولونيالية بهذا الشكل لأن التاريخ هو أكبر خطر على أيّ استعمار لأنه الذاكرة التي إن استيقظت لن توقفها أيّ قوة مهما عظمت . لكن ما هو غير طبيعي هو الاستمرار اليوم على ذات الخط وتجنيد أرمادا من التيار الإسلامي ووضعه في المقدمة لأخْوَنة التاريخ بل خيانته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور


.. الدفاع المدني اللبناني: استشهاد 4 وإصابة 2 في غارة إسرائيلية




.. عائلات المحتجزين في الشوارع تمنع الوزراء من الوصول إلى اجتما


.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم




.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام