الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقلنة النص التاريخي و زيف مفهوم أسلمة المعارف

ايهاب نبيل

2019 / 6 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


هل التاريخ مع انطلاقة الرسالة السماوية من شبه الجزيرة العربية هو تاريخ دين أم تاريخ من اعتنقوا هذا الدين ؟
فالمنهجية العلمية تقتضي تحديد اطار تاريخي بشري للرسالة السماوية ، بمعنى هل تلك الرسالة كانت استجابة أو رد فعل لما حدث على أرض الواقع أم هي فعل مجرد معزول عن الواقع بجدليته و تناقضاته؟.
فمنذ أن هبطت تلك الرسالة في شبه الجزيرة العربية و ازداد اتباعها في الشرق ، و توسعت و امتدت إلى خارج شبه الجزيرة إلى أن وصلت في النهاية غربًا إلى بلاد الأندلس و شرقًا إلى الصين بسبب أعمال الغزو ، كان هذا الانتشار في الحقيقة هو اتساع للاطار التاريخي – الجغرافي للأفكار و الأيديولوجيا ، و استمرار لتغيرات و تطورات الظرف الموضوعي الذي انتج صراعًا ظل الأكثر احتدامًا و عنفًا و طرحًا للقضايا الشائكة ، و التي تبلورت في صور متعددة أطلق عليها العلوم الدينية الشرعية مثل : الفقه و التفسير و الحديث و النوازل كتبت في مصادر أطلق عليها التراث الاسلامي.
هذا الزخم المعرفي ساهم في زيادة التأليف و التدوين لكل الوقائع و الحوادث منذ ظهور الاسلام من خلال منظور ديني ، مقرن بآراء الرسول و أصحابه و تابعيهم ؛ لذا اصطبغت أحداث تلك الحقبة الزمنية بصبغة اسلامية ( تاريخ اسلامي ) ، بناءً على وضعية العقيدة كخلفية تأسيسية لكل ما هو قادم من الأحداث ، و من هنا جرى تضبيب الرؤى و غياب الرؤية العقلية الحقيقية ، و تمت صياغة النص التاريخي كمنتوج اسلامي عقائدي مقدس و ليس نص تاريخي بشري التكوين و المكونات ، أو بالأحرى الدخول في إطار المسكوت عنه بهدف تغييب الوعي و بالتالي يجري التعاطي مع النص كتراث سماوي لا تستطع نقده أو الاقتراب من قدسيته.
الأمر الذي يجترنا للتأكيد على حقيقة منهجية علمية رصينة و هي أن التاريخ هو صراع ممتد و دائم بين الطبقات المُستغِلة و المُستغَلة ، بين من يملك و من لا يملك ، و بالتالي كل ما سترتب على ذلك البناء التحتي هي أبنية فوقية من ضمنها الدين ، و من ثم اعتبار افرازاته من أفكار هو نتيجة و ليس أصل ، فمنذ أن بدأت عملية تدوين التاريخ عند المسلمين في منتصف القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي ، تأثرت تمامًا بمكونات الظرف الموضوعي آنذاك ، حيث كانت الخلافة العباسية الناشئة بعد اسقاط نظيرتها الأموية و السيطرة على رقعة واسعة من العالم صبغته الأساسية هي الاسلام ، فكان نمط الانتاج السائد هو الزراعة مع التنوع في ملكية الأرض الزراعية ، حيث أصبح الاقطاع سمة مميزة و متطورة عن ذي قبل إلى الحد الذي وصفه بطروشوفسكي بأن معظم أقطار العالم الاسلامي دخلت مرحلة الاقطاع ، ومع امتداد الاقطاع و توسعه في كافة الأقاليم كانت تتوسع معه الأفكار ، و بالتالي زيادة التدوين المعبر تمامًا عن نمط الانتاج السائد ، مما أفرز مناخًا معرفيًا نقليًا لا عقليًا تحت مظلة الخلافة الدينية – باستثناء الطفرات التي صاحبت الصحوة البورجوازية في العالم الاسلامي في فترات متقطعة – الأمر الذي صور التاريخ على أنه نص ديني لا نص تاريخي بشري خاضع لقوانين الجدل و التطور و التناقض ؛ ليصير متماهيًا مع نمط الانتاج السائد ؛ لذلك كان ضروريًا سبر أغوار تلك القضية الشائكة ، التي يعتقد الظلاميين من الأصوليين أنهم انتصروا فيها عن طريق التعمية عن الحقائق التاريخية بفرض تفسيراتهم فرضًا على الواقع و العقول بهدف حماية مصالحهم و امتيازاتهم ، منافحين بقوة عن سلطة الخلافة الدينية المتسلطة على رقاب الناس.
فإذا قمنا بالتتبع لعملية التدوين التاريخي عند المسلمين ، سنجدها كانت شغوفة بتسجيل سيرة الرسول اولًا مثل سيرة ابن اسحاق التي وصلت إلينا عن طريق ابن هشام ، المغازي و أنساب قبائل العرب و طبقات الرجال و الأعلام ، على نمط تدوين الأحاديث النبوية المتصلة بالسند و العنعنة ؛ لذا انصب النص التاريخي في قالب ديني قح منزوع عنه الصفة البشرية اتساقًا مع النمط النقلي حينها و دخوله دائرة التآمر المعرفي.
أما الآن فأنا اعتبر مواجهة هؤلاء الأصوليين الظلاميين هي قضية صراع اجتماعي بحت ، صراع الميتافيزيقا ضد العلم و العقل ، صراع بين الكهنة و السلطويين من جهة ضد الطبقة الفقيرة المُستغَلة من جهة ، صراع النقل و النصية ضد العقل و التحرر ، تلك المواجهة التي تستدعي كشف الرؤى العلمية الحقيقية بعيدًا عن الزيف و التضليل ، تفيد في إماطة اللثام عن تراث بشري جدلي متطور و ليس سماوي قابض على الجمر ، و الحقيقة أن محاولات أسلمة النصوص التاريخية ليس وليدة الوقت الراهن أو حتى القرن الحالي بل ممتدة إلى سبعينيات القرن العشرين ، منذ أن صاغ الباحث الاسلامي الماليزي السيد محمد نقيب الغطاس مصطلح لا علمي يدعى " أسلمة المعارف " !!! طرحه لأول مرة في كتابه ( الاسلام و العلمانية ) ، انطلاقًا من أن المعارف التاريخية كافرة أو مهرطقة و تحتاج إلى ادخالها في الاسلام !! في مضمون مزيف للوعي يدخل ضمن أطر تآمرية على العقل ؛ ليخدم القائمين على التزييف و التضليل ، و الحقيقة أن ظهور صياغة الأسلمة ليست مجردة عن واقع صياغتها بل مقترن به تمامًا ، من حيث تطور و تنامي الرأسمالية العالمية اقتصاديًا و سياسيًا و معرفيًا ، وحسبما وصف الفيلسوف فريدريك جيمسون ما بعد الحداثة بأنها المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة ، الأمر الذي سمح بظهور ما يسمى بالصحوة الاسلامية في العديد من دول العالم العربي ؛ لمحاربة كل ما يمت بصلة للشيوعية و أفكارها ، فالماركسية بعلميتها و منهجيتها الجدلية كانت هي صمام الأمان لتطور الوعي و فضح أكاذيب كهنة النظام الرأسمالي من الأصوليين .
الأيديولوجية الدينية و الأسلمة كانت صاعدة بلا توقف حتى أنه أطلق عليها مصطلح صحوة ، أي استحضار و اجترار ماضي دموي عنيف مقيت قائم على العصبية القبيلية ، و إحياء الصراعات الطائفية و الاثنية التي كانت هي السمة السائدة في واقع الخلافة الدينية في العصور الوسطى ، لا لشئ إلا للإمساك بتلابيب العقلانية و العلمانية ، و دمغ أتباعها بالكفر و الهرطقة ؛ حفاظًا على تراثهم السماوي المقدس في نظرهم ، و قطع الطريق أمام عمليات النقد العلمية للنصوص المقدسة ، و كأن مصطلح تاريخ اسلامي أصبح هو تاريخ العقيدة الاسلامية و من ثم ممنوع النقد و التحليل العلمي للمقدس المجرد ، بهدف دمج الاسلامي النقلي مع الحداثي العقلي ، أو بالأحرى إدخال كل ما هو حداثي إلى حظيرة الاسلام ، في محاولة تلفيقية لا توفيقية كما يروجون في صيغة تبدو أكثر تسامحًا من الماضي ، هؤلاء الظلاميين هم في الواقع بؤساء جدًا ؛ لأن الحداثي هو تاريخ انساني و التراث هو نظرة ماضوية لمجتمعات غلبت عليها قوانين القوة و الاستلاب ؛ ليخرج في النهاية منتوج خليط متناقض و مجرد و مبهم ، في شكل يبدو كأنه فكرة اسلامية اصلاحية ناقده للقديم في حين أنهم يمجدون القديم و يعظمون شخصياته و قوانينه و أنماطه ، بينما في المقابل يحتقرون كل ماهو عقلي نقدي حداثي يفضح زيف دعواهم و خلل عقولهم المريضة .
قصارى القول فإن محاولة تأطير التاريخ البشري المادي الجدلي بإطار اسلامي منزوع العقل ، هي بمفهوم جرامشي الهيمنة الثقافية ؛ ليسهل سيطرة رجال الدين على العقول ، و عليه فإن أيديولوجيا الأسلمة هي أيديولوجيا معادية للإنسانية تدعي اتصالها بالسماء ، و تدعي حيازتها توكيل منها لمحاربة أفكار الاشتراكية التي تعيد بناء المجتمعات على أساس العدل و المساواة و إلغاء الطبقات ، و من ثم لا أجد إلا قول الجاحظ المعتزلي تلخيصًا لهذا سوى ما قاله في كتابه السياسي الرائع (رسائل التربيع و التدوير ) حيث قال : "بأن العقل أشد احتياجًا من السيف وأسرع إلى التجديد والتغير واستخدامه كقيمة فى التفكير مثل الدواء الذى يقتل المرض أو السم، لايقوى معارضوه على مقارعته لضعف حجتهم، فمن أدركه أدرك كثيراً من احتياجاته".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل نجح الرهان الإسرائيلي في ترسيخ الانقسام الفلسطيني بتسهيل


.. التصعيد مستمر.. حزب الله يعلن إطلاق -عشرات- الصواريخ على موا




.. تركيا تعلن عزمها الانضمام إلى دعوى -الإبادة- ضد إسرائيل أمام


.. حراك الطلاب.. قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه أميركا بسبب إسرائ




.. لماذا يسعى أردوغان لتغيير الدستور؟ وهل تسمح له المعارضة؟