الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في الحب - الوجه الآخر نابعاً من البيولوجيا.

نضال الربضي

2019 / 6 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



قراءة في الحب - الوجه الآخر نابعاً من البيولوجيا.

أربعةٌ و أربعون عاما ً توشك أن تنقضي و ما زلتُ أتعلم كل يوم ما هو الحب، و كيف يكون، و ما هي شروطه، و معناه، و ابعاده، و تمظهُراته. أربعةٌ و أربعون عاماً أنضجتني فيها الحياة حتى استطعتُ أن أرى، حتى انجلى أمامي المشهد، حتى استوعبت الصورة، حتى أدركت الكُنه، حتى وعيتُ الماهية .أربعةٌ و أربعون عاماً تكادُ أن تنقضي، و الآن فقط أستطيع أن أقول: إني أعرف!

لكنٍّي أعرف: بقدر، و درجات. لا أعرف: على الإطلاق، و لا أدعي الشمولية، و لا أمنع نفسي من تطوير، و لا أحدُّ نفسي بإطار، و لا أقولب معرفتي، و لا أختم عليها، و لا أُحنِّطها، و لا أعبدُها لذاتِها و لا للذَّتِها، و لا أتوقف عندها. إنَّما: أحملها، و تحملني، لكي أكون لها الوعاء و الناقل و النتيجة، و لكي تكون لي: الدافع و المُسبِّب و المصدر، و لكي نكون كلانا واحداً: كإنسان معرفي وجداني تفاعلي مُحب!

المحبَّة و الحُب: كلاهما واحد، لا فرق عندي بينهما، و لا تهمُّني الخصائص التي تُفرد الأول في كيان ٍ توصيفي، عن الثاني، هذه شكليِّات، صور، لا أحتاجها. إنما أحتاجُ أن أنظر إلى الماهية البدئية التي ينبثق عنها كلُّ فكر ٍ و اعتقادٍ و ثقافة ٍ و سلوك ٍ و فعل ٍ و ردِّ فعلٍ و إنتاجٍ، متعلِّقٍ بالحب. هذه الماهية الخام، غير المُتشكلة في صورة، غير المُتَّخذة لقالب، غير الخاضعة للحاجة أن تتحدَّد أو تتعرَّف أو تنضوي تحت منظر ٍ أو مفهوم ٍ أو ملموسٍ يعرفه الإنسان. إنني إذا ً أبحث عن اختبارات تفاعليه مع هذا الجوهر لكي أفهمه على مستوى الحواس التي يُراقبها العقل، لكي أستطيع َ أن أدَّعي مُطمئنَّاً أنني قد فهمت، و قد عرفت، كما قلنا: بقدر، و درجات!

و العقل حين يراقب الحواس يجب أن يخضع للدماغ في مبدأٍ هو الأساس: أن لا ينشغل الدماغُ كعقل بالمراقبة و مُتطلبات التسجيل و الإدراك و الاستنتاج و الاستنباط، عن دوره (أي الدماغ) كوجدان و كإحساس سيشكِّل بدوره جوهر الاختبار بواسطة التفاعل كآداة و طريقة و قناة. إنني هنا أسجِّل للدماغ قانونا ً مُلزماً: أن يترك َ الحواس تملك و تسيطر و تعمل و تتفاعل و تتعلم، و أن يراقبها و كأن العقل في سبات، كأنه غير موجود، لكن و هو في أعلى درجات التسجيل و اليقظة و الإدراك و الوعي. ليست مُعضلة و لا هذا تناقُض، إنَّما هي مهارة مُكتسبه و قوَّة مُطوَّرة و قُدرة كامنة تم َّ صقلُها.

اختبار الحواس يعني أن تحدث الأمور، و تتشكل الأحداث كأفعال تقع عليَّ كـ: إنسان، فأشعرَ بها إحساسياً، بعد أن تراها العينان، و تسمعها الأذنان، و يتذوقها اللسان، و يشمَّها الأنف، و ألمسها بجسدي. هذا الاختبار هو بداية ُ طريقٍ محطته الأولى مراكز الإحساس، و خط ُّ السير فيه: الأعصاب الناقلة، و محطته الأخيرة: الدماغ الذي يجعلني أُحس، أشعر، أختبر ككائن عضوي. هذه التجربة الغنية شديدة العمق هي أساسُ أي ِّ فعل معرفة، أي ِّ فعل تعلُّم، إيِّ خبرة. لا يمكن بدونها أن ندعي َ: المعرفة. إنها كتجربة بالضرورة سابقة لعمل الدماغ كعقل و كوجدان، و سيليها اتخاذ: الموقف من الاختبار.

إننا هنا إذ نبحثُ في موضوع: اتخاذ الموقف من الاختبار، لا بدَّ و أن نفحص َ العمليات العقلية التي سيقوم بها الدماغ، وسنجدَ أنها عمليات ٌ مرتبطة بالذاكرة و البرمجة العصبية، بمعنى أنها و حين تتفاعلُ مع الإحساس ستقوم باستدعاء ذكريات ما، و تخزين ِ أخرى جديدة، و ربما تُعدِّل بدون ِ قصد ٍ على ذكريات ٍ ماضية (في عملية تشويه ٍ خفيِّة للذكريات)، و ستسلكُ بحسب ما اعتادت أو تم برمجتها عليه من أنماط التفكير و الإدراك و الوعي، مُستخدمة َ ثقافة الفردِ المُفكر و إمكاناته، لتصل إلى نتيجة ٍ ما بخصوص هذا الإحساس. هذه النتيجة تحتوي في ذاتها على المعنى و التفسير و التأويل، و على الموقف من الإحساس من جهة استحسانه أو النفور منه أو رفضه، و تشمل أيضا ً تحديداً لدوره في استكمال بناء ثقافة الفرد، و لِمكانته ضمن هذه الثقافة، و للقيم ذات العلاقة به و التي يجب بناؤها للتعبير عن موقف الفرد منه، و للسلوك الذي يجب اتخاذُه استتباعاً.

لكن، أين الحُبُّ في هذه العمليات البيولوجية و ما علاقته بها؟

انطلاقا ً من الوصف السابق للعمليات البيولوجية، و انتهاء ً من إدراكنا لحقيقة النتيجة النهائية لفعل الإحساس الأوَّلي و حتمية تشكُّل: الموقف، سنستطيعُ أن نرى الحبَّ أيضا ً كموقفٍ بيولوجي، و كحُكم ٍ عقلي قيموي على الأحداث، و سنفهم أن مظهره المعروف كمجرَّدِ إحساس ٍ في لحظةِ لذَّة ٍ بشرية، ليس ما نقصده في هذا المقال، إنما نقصد أن نُعيد تعريف الحب ليصيرَ:

نمط حياة، و منهج تفكير، و أسلوب عمل، و طريقة ِ محيا، تتجاوزُ المشاعرَ نحو الكثير من قيم و سلوكيات الانضباط الانفعالي أمام أحاسيس الألم و الضيق و الضغوط المادية و النفسية، و بالارتفاع عن و الاستعلاء على الاستجابات الغريزية البدائية للمعاملة بالمثل و المسلك بحسب الأسهل و الاستسلام المخدِّر لسحر الأنانية و المُتوقَّع و المقبول أو المُتعارف عليه.

بحسب هذا التعريف الجديد سيكونُ الحبُّ: قيمة عقلية تمتاز بالقوة و الصرامة و الانضباط و الثبات، ينتج عنها بناء ثقافة: الوعي الأعلى، الذي يدفعُ الإنسان نحو الإدراك الأوسع و الأشمل و و الأكثر حضاريَّةً في الفكر و الشعور و السلوك، بهدف بناء منظومة إنسانية جديدة، و شبكة علاقات تفاعلية فعَّالة و سامية، تنتج عنهما مخرجات حضارية أكمل و أقرب للإنسان العقلي المُرتقي، الذي و إن كان يعترف بأصله الحيواني و يتجذر فيه إلَّا أنه يسمو فوقه دون أن ينفصل عنه أو يُنكره.

إن الوجه الآخر للحب هنا هو: العقلُ الفاهم، و الاستعدادُ النفسي للثبات في كل ِّ الظروف مهما تنوَّعت، و بالتالي هو تشكُّل ٌ لمنظومة اعتقادية وجدانية سلوكية لها هيكلية و أدوات تفاعل و شكل ٌ ظاهر، تنبعُ جميعها من جوهر بيولوجي دماغي، و تخدمُ هدفا ً قد يبدو رومانسيا ً حالماً أو أخلاقيا ً فاضلاً من عالم ٍ غير موجود، إلا أنه في حقيقته ليس إلا تمظهُر غريزة: حفظ النوع في جوهرها، لكن بشكل مُتحضِّر يتناسبُ مع المستوى العقلي للكائن البيولوجي المعروف باسم: الإنسان العاقل Homo Sapiens. الوجه الآخر للحب هنا هو: أنانية بحتة، لجينات ٍ ديدنها العملي نسخُ نفسها، لإنتاج كائنات جديدة، قادرة على إدارة الموارد بشكل ٍ أكثر كفاءة و أعلى ضمانا ً لاستمراريتها.

ختاماً:
إن التعريف الجديد للحب، و الوعي المُتشكِّل تباعا ً، و الثقافة المُنبثقة عنهما، و بالاعتراف بماهيته، كحكم ٍ عقلي و كمنظومة سلوك تخدمُ أساسا ً بيولوجيا ً غريزيا ً شديد البدائية، لا يجبُ بأي حال ٍ من الأحوال أن يدعونا إلى النفور من هذه الماهية أو إنكارها، إنمّا هي دعوة ٌ لتكامُل ِ الحكم العقلي و الإدراك الواعي مع لذَّة الشعور و وهم التجرُّد من الأنانية و نكران الذات و سائر الأفكار الرومانسية المتعلقة بالحب كمفهومٍ شائع.

بهذا التكامل فقط نستطيع ُ أن نقول أننا نُمثِّل الكائن البشري، لأننا عندها و عندها فقط نكونُ قد جمعنا كلَّ ما في الإنسان: شعوره، و وجدانه، و هذيَ قناعاته الداخلية غير المُلزمة للواقع أو الحقيقة في شيء، و عقله الحاد الذكي و ما ينتج عنه من إدراك ٍ للحقائق: أي لإنسانيته التي تجمع كل المُتناقضات بتصالح!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -غادرنا القطاع بالدموع-.. طبيب أمريكي يروي لشبكتنا تجربته في


.. مكتب نتنياهو: الحرب لن تنتهي إلا بعد القضاء على قدرات حماس ع




.. وزير الخارجية السعودي يتلقى اتصالًا هاتفيًا من نظيره الأميرك


.. حرب غزة: بنود الخطة الإسرائيلية




.. الجيش الأميركي: الحوثيون أطلقوا صاروخين ومسيّرات من اليمن |